عن الشارع و«القبائل الأكاديمية»

تعيش في عالمنا الحديث اليوم قبائل من نوع جديد، مختلفة عن الصورة النمطيّة المُختزنة عن القبيلة. وهذه القبائل الجديدة هي قبائل جزئيّة، تعيش بين الناس وتتواصل معهم وتخالطهم في اليوميّات العاديّة، لكنّها قبائل معرفيّة، إذ إنّها غالباً ما تنتج معارفها وسط قبيلتها وتكتب وتتحدّث بلغة خاصّة بأبناء القبيلة. وحتى إذا ما تواصلت والعامّة، فعلت ذلك عن بعد، بلغةٍ معقّدة غريبة عليهم: إنّها القبائل الأكاديميّة.
هناك اليوم آلاف الاختصاصات الجامعيّة حول العالم، وحوالي ألفي اختصاص جامعي في الولايات المتحدة فقط. ومن المتوقّع لهذا الرقم أن يرتفع في السنوات القادمة، بسبب نشوء حقول معرفيّة جديدة ستحتاج لاختصاصيّين فيها. ويحاجج كثيرون أنّ هذه التجزئة في الحقول المعرفيّة ساهمت إلى حدٍّ كبير في تطوّر العلوم، فتقسيم الحقول العلميّة إلى «شقف»، يسمح لكلّ متخصّص أن يركّز على «شقفته» ويفهمها ويدرسها جيّداً، وينتج فيها. لكنّ التجزئة هذه بإمكانها أن تُعيق العمليّة التعلّميّة والتثقيفيّة للمجتمعات، كما أنّها، أي التجزئة، ساهمت في نشوء نظام اجتماعي جديد ضمن الحقول المعرفيّة اليوم، أشبه بنظام القبائل.
كيف يُشبه الأكاديميّون نظام القبائل؟ لنأخذ على سبيل المثال الكتابة الأكاديميّة ونشر الأبحاث. لغة الأوراق البحثيّة والمنشورات في المجلّات العلميّة والأكاديميّة ليست صعبةً فقط، بل هي ليست للقارئ العادي من خارج الحقل المعرفي التي نُشرت فيه. وهذا ما أشار إليه الكاتب آلان دونو في كتابه «نظام التفاهة»، فعامّة الناس هم الذين يموّلون البحوث العلميّة، بطريقةٍ أو بأخرى، إلّا أنّ المقالات تُكتب وتُحرّر وتُنشر وتُوزّع، على من شاركوا فيها بالدرجة الأكبر، كي يضيف المؤلفون سطراً إلى سيرهم الذاتية. والأسطر هذه قد تُفيد أحياناً في الترقّي الوظيفي أكثر من كونها إضافةً معرفيّة حقيقيّة، عدا عن أنّ المصطلحات المعقّدة في الكتابة تعرقل الفهم العام للمعلومات، ما يُبقي على ما كُتب داخل إطار القبيلة. إضافةً إلى ذلك، يؤدّي الانغماس في هذه الحقول مع الوقت إلى استحالة أن يتصوّر الباحث طريقة تفكير الأشخاص غير المنغمسين في مجاله المعرفي، وبالتالي يصبح غير قادرٍ على الكتابة لهم، هذا إذا كان لديه اهتمام أو حافز للكتابة للعامّة من الناس أساساً.
قد يجعل هذا طبيعة الحقول الأكاديميّة حقولًا معزولة، معرفيّاً على الأقلّ، وقد يجعل الأكاديميّين أيضاً أقلّ قدرة على النقد والتحليل خارج حقولهم المعرفيّة. يُلخّص الكاتب الأميركي كريس هيدجيز هذه الفكرة بأسلوبٍ قد يراه كثيرون متطرّفًا، مُحمّلًا الأكاديميّين اليوم مسؤوليّة مصائبنا الاجتماعيّة، لأنّهم كلّما أرادوا البحث في أسباب المشاكل والمخاطر التي تصيب مجتمعاتهم، فعلوا ذلك في مكاتبهم وقاعات الجامعات والصالونات الثقافيّة، ضمن مجالات معرفيّة فرعيّة ضيّقة، مولين في الوقت عينه أهميّة كبيرة للتطوّر الوظيفي، وساعين إلى الحفاظ على شبكاتهم الاجتماعية من الزملاء والاختصاصيّين. هذا التصادم في أولويّات الباحث ـــ ناهيك بابتعاده في كثيرٍ من الأحيان عن «الشارع» ـــ هو جزءٌ ممّا قد يُساهم في جعل الكثير من المقاربات الأكاديميّة للقضايا والمجتمعات ناقصة.
والمشكلة ليست فقط في عزلة الأكاديمي المعرفيّة ضمن «قبيلته» المهنيّة، فكلّنا ننتظم أحياناً في جماعات فكريّة ضيّقة قد تؤدّي إلى خلق حالة من الجمود الفكري. لكنّ العزلة الأكاديميّة تختلف عن غيرها بأنّها عزلة متفوّقة اجتماعيّاً وثقافيّاً، يشعر فيها الأكاديمي أو الخبير -دون وعي- أنّه متفوّق فكريّاً عمّن هم «دونه»، ولو كان هو نفسه يعيش جموداً فكريّاً ضمن حقله الضيق، لا يلحظه حتّى.
لا شكّ في أنّ الخوض في الأكاديميا والمجالات المعرفيّة المتعدّدة، التقليديّة والمُستحدثة، يسمح للإنسان أن ينفتح على معارف جديدة، ويُتيح له الفرصة لفهم ومقاربة الحياة والعالم بعدسات مختلفة. لكن علينا أيضاً أن نعي أنّ الأكاديميا تستطيع أن تلوّث الدماغ، وأنّ بإمكانها أن تخلق نوعاً من القصور في مقاربة الأسئلة الملحّة إجتماعياً وسياسيّاً وأخلاقيّاً، والتي تحتاج إلى تكاملٍ بين وجهات نظر لا من داخل وخارج المجال المعرفي والتخصّصي فقط، بل من داخل وخارج الأكاديميا أيضاً.
لذلك، علينا كأشخاص انخرطنا وننخرط في المجالات الأكاديميّة المختلفة أن نلحظ أنّ التقدّم العلمي سيُعطينا امتيازات معرفيّة في جوانب، وقيوداً في النقد والتحليل في جوانب أخرى، ليس لعيبٍ فيه، بل بسبب طبيعة الحقول الأكاديميّة وتفرّغ من فيها لها. وبالتالي فإنّ الدور الاجتماعي الذي يسعى أن يلعبه أيّ أكاديمي أو «مثقف» منّا لا يمكن أن يلعبه بأن يُخاطب الناس ويُشاركهم المعرفة، بل أن يتواصل والناس، فتكون له هو أيضاً الفرصة ليُطوّر تفكيره النقديّ «خارج الصندوق». ولعلّ الخطوة الأولى هي في اعترافنا بالتلوّث الذي قد تُسبّبه الأكاديميا لطريقة التفكير والنقد الاجتماعي.
أمّا تحوّل الأكاديميّين والمثقفين إلى طبقة اجتماعيّة عُليا كما هي الحال اليوم، ليس إلّا وصفة تدميرٍ ذاتيٍّ للمجتمع، وتحويلاً تدريجياً له إلى قبائل حديثة لا تستطيع تشكيل فهم موحّد للمخاطر المحدقة بها، بل تُنتج مجموعةً ضخمة من المفاهيم التجزيئيّة التقنيّة، في مجالات تخصّصيّة، وكُلٌّ يشاركها بلغته الخاصّة مع قبيلته المعرفيّة، دون النزول إلى الشارع، ودون العودة إلى صلب الموضوع وجوهر القضايا.