مقالات للكاتب

نجاة فضل الله

الجمعة 15 تشرين الثاني 2024

شارك المقال

المرجع المعياري أبيض!


في عام 2010، نشرت مجموعة من الباحثين الكنديّين ورقةً بحثيّة بعنوان «أغرب أناس في العالم» أثارت الكثير من الجدل والتساؤلات في أوساط العلوم النفسيّة والاجتماعيّة. في هذه الدراسة، قام الباحثون بمراجعة أكبر الدراسات وأبرزها في الحقل النفسي عبر التاريخ، التي تمّ الاعتماد عليها لصوغ المعارف عن الطبيعة البشريّة النفسيّة.
في هذه المراجعة، لاحظ الباحثون نمطاً متكرّراً في العيّنات المستخدمة في الغالبيّة الساحقة من هذه الدراسات. لوصف الخصائص المشتركة لهذه العينات، استخدم الباحثون كلمة «غريب» بالإنكليزيّة WEIRD لاختصار خمس كلمات: غربيّة western، متعلّمة educated، صناعيّة industrialized، غنيّة rich، وديموقراطيّة democratic. الكلمات الخمس هذه تختصر خصائص العيّنات البحثيّة للغالبيّة الساحقة من الدراسات النفسيّة، التي بُنيت على أساسها معارفنا حول حقل علم النفس والطبيعة البشريّة.
تعميم نتائج هذه الدراسات لتفسير سلوك وطبيعة سائر الجنس البشري هو مبني ـــــ بحسب الباحثين في هذه الورقة البحثيّة ـــــ على أحد احتمالين. الاحتمال الأوّل هو أنّ الطبيعة البشريّة واحدة، مهما كانت العيّنة التي تمّت دراستها. على هذا الأساس، يمكن تعميم هذه النتائج على كل البشر حتّى لو كانت بقيّة الشعوب غير ممثّلة في عيّنات الدراسات الكبرى. أمّا الاحتمال الثاني، فهو أنّ المجتمعات الـWEIRD (الغربيّة والمتعلّمة والصناعيّة والغنيّة والديموقراطيّة) هي شعوب معياريّة، تُقاس بالنسبة إليها الطبيعة البشريّة وكيف يكون سلوك الإنسان الطبيعي.
في ما يخصّ الاحتمال الأوّل، فالدراسة الآنفة الذكر تطرّقت إليه. وقد استنتج الباحثون أنّ الاستنتاجات النفسيّة لهذه الدراسات على مدى التاريخ لا تُعمّم على سائر شعوب العالم، فحين يتمّ إجراء نفس الدراسات العريقة هذه على شعوب أخرى، كانت تظهر نتائج مختلفة عن «الطبيعة البشريّة». بل أكثر من ذلك، بحسب الباحثين، هنالك إشارات إلى أنّ الطبيعة النفسيّة وسلوكيّات المجتمعات الـWEIRD هي فعلاً غريبة و«ناشزة» عن طبيعة وسلوكيّات غالبية شعوب العالم.
هُنا نصل إلى الاحتمال الثاني، أنّ السبب وراء تعميم نتائج دراسات على نوع محدّد من العيّنات على كل البشر هو أنّ النوع هذا هو المعيار الذي نقيس على أساسه الطبيعة والنشاز. هذه، في الواقع، مسلّمة مختزنة لدينا، ابتلعتها مجتمعاتنا عبر الزمن لدرجة لم نعد نراها، أنّ المرجع المعياريّ للسلوك البشري الطبيعي هو الإنسان الحضاريّ والمُتطوّر، أي إنسان الغرب المتعلّم ضمن النظام الأكاديمي، والذي يعيش في مجتمع ديموقراطي صناعي.
لنأخذ حقلاً آخر، أكثر «موضوعيّة» وأقلّ جدلاً من علم النفس، كحقل الدراسات الجينيّة. في عام 1990 بدأ العمل على «مشروع الجينوم البشري» المسؤول عن تحديد القواعد التي تشكّل الحمض النووي البشري DNA. وقد أدّى هذا المشروع إلى رسم خرائط وتسلسل جميع الجينات في الجينوم البشري من الناحيتين المادّيّة والوظيفيّة.
أهمّيّة هذا المشروع أنّه ساعد (وما زال) العلماء والأطباء على تشكيل فهم أدقّ للأمراض الجينيّة الوراثيّة والسرطانات. اليوم، الفحوصات الجينيّة قائمة على أساس مقارنة العيّنة من جينات المريض بالمرجع المعياري للجينوم الطبيعي (الذي أنتجه المشروع هذا).
اللافت أنّ الجينوم المعياري هذا، الذي نقيس عبره الحالات الطبيعيّة والشوائب والمتغيّرات الجينيّة، هو أوروبي بشكل أساسي، فقد تمّ بناؤه من عيّنات الحمض النووي لأشخاص قاموا بالتواصل بعد قراءتهم لإعلان في مجلّة «أخبار بوفالو» في نيويورك، واليوم هو المقياس المعياري للفحوصات الجينيّة لكلّ شعوب الأرض.
لهذا، إذا كنت من أصل غير أوروبي، فإنّ نتيجة فحص جيني شامل تقوم به غالباً ستظهر الكثير من المتغيّرات الجينيّة غير معروفة التأثير variants of unknown significance، بينما إذا كنت من أصول أوروبيّة فغالباً ستكون النتيجة «طبيعيّة».
طبعاً هذا لا يعني أن نرمي المعارف الطبيّة والنفسيّة والفحوصات الجينيّة عرض الحائط، لكنّ هذا يدلّنا على أنّ الحقائق التي اعتدنا عليها قد لا تكون حقائق مطلقة، بل قد تكون صورة تقريبيّة أو جزئيّة عن العالم بعدسة بيضاء، لنا الحقّ بل واجب مراجعتها وتعديلها إذا لزم الأمر.
وهذا الأمر ينطبق على مختلف الحقول من الطبّ إلى الهندسة والعمارة الحديثة والتنظيم المدني، مروراً بطرق التعليم ووسائل التربية، وصولاً إلى نظريات أنظمة الحكم ومعايير حقوق الإنسان. هنا تقع المسؤوليّة على كُلٍّ منّا، كُلٌّ في مجال «خبرته» واختصاصه، أن يعيد النظر في ما يعتبره الحقل الذي يعمل أو يدرس فيه حقائق مطلقة، ويقاربها بطريقة أكثر موضوعيّة.
وتحديداً في المواضيع الاجتماعيّة والإنسانيّة والحقوقيّة، نحن نعيش في عالم مُشبّع بالنظريات الغربيّة للتربية والتعليم والسياسة والحكم، إلى درجة أنّنا نعتبر أنّ صراعاتنا للتطوّر يجب أن تكون نتيجتها تبنّي وتطبيق هذه النظريّات في بلادنا. والجدير بالذكر أنّ جميع مقاييس مستوى الحياة وتطوّر المجتمعات تقيس مدى اقترابنا من تبنّي وتطبيق هذه النظريّات.
عندما نريد أن نفكّر كم قدمنا أخيراً لنشارك في هذا العالم، يجب أن نخلع النظارات التي نشأنا ونحن ننظر إلى العالم من خلالها، وبعد ذلك نلقي نظرةً موضوعيّة إلى كلّ ملامحه كما هي، ثمّ نلقي نظرةً إلى داخلنا لنلحظ أنّ ما نعامله كحقائق مطلقة ننطلق منها لنشكّل معارفنا وطموحاتنا في هذا العالم ليست كذلك.
لهذا، ختاماً، لعلّ ما ينبغي لنا أن نتأكّد منه في سعينا إلى التحرّر، أنّنا لا نستورد المعايير التي نطمح إليها، بل نصوغها بأنفسنا.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي