هاشم هاشم يجمع «أربعون حجراً من ركام الضاحية»

من العرض
من العرض


على بعد كيلومترات من ضاحية بيروت الجنوبية، يجسد الكاتب والمسرحي هاشم هاشم فظاعة الحرب الإسرائيلية الأخيرة، متجاوزاً الحدث العابر، وصولاً إلى طرح مفهوم الحداد وغيره. في «أربعون حجراً من ركام الضاحية» (الليلة وغداً ـــ «مسرح زقاق»)، يتشابك الزمن ضمن خطين ــ الماضي والحاضر ـــ معيداً طرح دائرية المأساة، ومستعيداً سيرورة تاريخية تتكرر بنسق محتوم. يمزج العرض (بمشاركة بترا سرحال وفاطمة مروة)، السرد والحوار والتعبير الجسدي، ويتخذ الطقس فيه موقعاً أساسياً، لا بوصفه عنصراً بصرياً فقط، بل كرمزٍ لاستمرارية الحداد الجماعي.

قد يبدو تقديم عمل مسرحي عن الركام، بينما لا يزال متناثراً في بيروت والجنوب والبقاع، ضرباً من السذاجة. غير أن هاشم هاشم يخرج من نمطية الطرح، ليجعل الركام دلالةً تتجاوز الفاجعة وتربط بيروت بحضارات ومدن أخرى شهدت الدمار وأعادت تشكيل نفسها. تقوم السينوغرافيا على الركام الحقيقي الذي جُمع بعد وقف إطلاق النار، إلى جانب عناصر الطبيعة الأولية كالملح والماء والأعشاب، حيث تأخذ هذه المواد بعداً سيميولوجياً يعكس العري والعضوية في التجربة البشرية. الركام هنا ليس مجرد أثر مادي، بل «حقيقة عليا يُخلق منها كل شيء».

«انبثقت فكرة العرض بينما كانت الحرب لا تزال دائرة»، يقول هاشم هاشم، الذي يضيف إن «الحرب تتكرر، والتهجير، والقصف، والتحطيم لا ينتهي». كأنّ التاريخ هنا «يتكرر بنسق معين» وهي الأقرب إلى نظرية نيتشه. في العنوان، تحضر رمزية «الأربعين»، بما تحمله من دلالة الحداد والعبور، حيث جُمع أربعون حجراً كشهادة ملموسة على الخراب والذاكرة. ومن هنا، يصبح العرض محاولة لتفكيك دائرية الزمن، ودائرية الصدمة، واستمرارها في منطقتنا، «لا لتكرار الألم بل لمواجهته»، حيث «إسرائيل تسبّب الأذى في كل مرة، وللأذى صدى يتردد عبر تاريخنا، من الاستعمارات القديمة وصولاً إلى الاستعمار الصهيوني»، على حد تعبير هاشم.

لا يمكن فصل انطلاق العرض عن سياقه الراهن، ما يطرح تساؤلاً عمّا إذا كان العمل مستعجلاً. يوضح هاشم أن الوقت الآن هو الأمثل للتعامل مع المشاعر والأفكار، فقد يكون سابقاً لأوانه، لكنه بالضرورة مؤثر ومتناغم مع حجم المأساة. ومع ذلك، «هو لا يصدم الجمهور بغرض استدرار البكاء والشفقة، بل يسعى إلى جعل المسرح مساحة للتأمل». يطرح «أربعون حجراً من ركام الضاحية» مفاهيم متعددة وأبرزها مفهوم «إنسانية الحداد» الذي يكرّسه في زمن الشرذمة والاستقطابات، حيث تتلاشى المساحات المشتركة لتأمل الحزن.

يقرر هاشم هاشم جعل المسرح مساحةً تأملية، والحداد تجربة جماعية، يحوله إلى طمأنينة لا تُخدّر، بل تفتح باب المواجهة. ليست المواساة غاية، وفقاً لما يتطلع إليه مخرج العرض ومن خلفه بترا سرحال، بل وسيلة للإحساس. فالمأساة، إذ نواجهها، تكشف عن أنها ممتدة في كل زمن، وتتكرر عبر كل عصر. يبقى أن نترك المشاعر تأخذ مسارها الطبيعي، وأن نحزن معاً بعيداً من القوالب الجاهزة، كفعل مقاومة. وعليه، يأتي العمل في مواجهة التاريخ الذي يعيد نفسه، ما يتطلّب منا إعادة تشكيل ذاكرتنا، بعيداً من صخب الاصطفاف، قريباً من إنسانيتنا الأولى.

«أربعون حجراً من ركام الضاحية»: اليوم وغداً ــــ الساعة الثامنة مساءً ـــ مسرح «زقاق» (الكرنتينا، بيروت). للاستعلام: 01/570676

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي