Stop Calling... بيروت لم تعد تجيب

يختلط الأداء بين رقص وغناء وتعبير جسماني (تصوير رندا ميرزا)
يختلط الأداء بين رقص وغناء وتعبير جسماني (تصوير رندا ميرزا)

رؤية موجعة عن بيروت الثورة، والموت، والحرب، والأحلام، وخطوط التماس، والمسرح... تتعدد موضوعات «Stop Calling بيروت» لفرقة «زقاق»، رابطاً الفاجعة الشخصية بتلك العامة، محاكياً ذاكرتنا الجماعية على مدى أكثر من ربع قرن


يُعد عرض فرقة «زقاق» المسرحي «Stop Calling بيروت» أحد أكثر العروض التصاقاً بالعلاقة مع المدينة وتحولاتها.

الخاص هنا منطلق للعام، وما لحظة غرق زياد أبي عازار في بحر بيروت، منذ سنوات، إلا حدث لعرض مسرحي يجمع بين عمق الأيديولوجيا والمفاهيم الجمالية الحديثة.

يعدّ «Stop Calling بيروت» الذي يقدَّم الأسبوع المقبل على خشبة مسرح «زقاق»، أحد أكثر العروض المسرحية حميميةً بالنسبة إلى أعضاء الفرقة، يهدف إلى تأمّل مدينة من «نار وورق... خراب وجمال، ذاكرة ونسيان»... مدينة متعبة، كحال أجيال ناضلت لأجلها، ثم لفظتها هذه المدينة بعد عقود من العيش فيها.

بينما ترخي الشمس ظلالها على مدينة بيروت ظهيرة يوم أحد، وبعد اتصالات متكررة تجريها لميا أبي عازار بشقيقها، زياد، من دون أي رد منه، تتوقّف لميا عن الاتصال بأخيها، وتتوجه برفقة الأصدقاء إلى البحر، بحثاً عنه.

التقاط شظايا المدينة

تنطلق مجموعة من الشباب، الذين سيشكلون، في ما بعد، فرقة مسرحية تُدعى «زقاق» من «فرن الشباك» نحو «الدالية»، ليجدوا زياد مترامياً على الصخور، عابراً نحو مكان آخر.

يحافظ العرض على تماسك
النص ويتجنب الوقوع
في لحظة تطهيرية

يبدأ العرض بلحظة مفجعة. منذ ذلك الوقت، «يحاولُ ثلاثة أصدقاء (تمثيل: لميا أبي عازار وجُنيد سريّ الدين ومايا زبيب) على المسرح التقاطَ شظايا المدينة قبل أن يختفيَ الأخ، قبل أن تصبح بيروت مجرّدَ كلمة عرفناها يوماً».

يبدأ الممثلون باستذكار الحوادث التي تجمعهم بزياد، أو بالأحرى، تلك التي جمعتهم ببيروت. تتكشف أمامنا تحولات المدينة على مدار ربع قرن وأكثر... الليل الصاخب «وصداع ما بعد الحفلة»، الأحلام، الحرب، خطوط التماس، والمسرح... تتعدد موضوعات «Stop Calling بيروت»، مسهباً في توثيق لحظات عن الطفولة، والشباب، والحب، والجنس، والرقص، وعرضها أمام الجمهور.

الشفقة غير مطلوبة

يحافظ العرض على تماسك النص ويتجنب الوقوع في لحظة تطهيرية. الشفقة غير مطلوبة. لا يستعرض «الفاجعة» بحدّ ذاتها، بل يتساءل عن مترتباتها.

لا تنجرف الشخصيات نحو الذروة، ولا تجسد وحشية اللحظة. لا موت فجّاً، لا صراخ، بل تبقى الشخصيات متماسكة، مشدودة بتوتر داخلي، وتتجلى المأساة في الصمت والتذكر، لا في الانفعال المباشر.

الفاجعة تصبح شيئاً آخر، تتجاوز حدود العائلة، لنُفجع ببيروت وتاريخها المثقل. إنها أشبه بـ «لحظات فينومينولوجية جماعية»، وفقاً للمسرحي السويسري غوردون كريغ، بحيث أنّ المسرح ليس مجرد انعكاس للواقع، بل تجربة حسية، ذاكرة جماعية تتشكل في اللحظة، بين الخشبة والجمهور، بين المدينة وأهلها.

يأتي هذا المضمون في نصّ حرّ، مكثف، وسريع، يخدم الفكرة الأساسية من دون ضجيج أو استعراض أو فذلكات لغوية.

على صعيد التمثيل، يختلط الأداء بين رقص، وغناء، وتعبير جسماني. يبدو كلّ ممثل حاملاً للفكرة أكثر منه مفسراً لها، ما يمنح الأداء وصدقاً وتركيزاً رمزياً.

يترجم الممثل حالات متعددة، مقدماً أداءً حاداً، مجرداً، ومعبّراً عن تطور الأحداث وانفعالات الشخصية. الأنظار تتجه نحو لميا أبي عازار، أخت الفقيد، التي يبدو صوتها محمّلاً بألم ساكن في العمق.

لا تخطف لميا اللحظة من زميليها جنيد سري الدين أو مايا زبيب، بل يتكاتف الممثلون حتى يشكلوا مجموعة متجانسة تعمل وفقاً لأسلوب الخلق الجماعي.

بحر يبتلع زياد

الإخراج المسرحي، يوقعه كل من لميا وعمر أبي عازار. يلامس تقنيات جديدة في الصناعة المسرحية. المناخ العام هادئ ومريح ومكثف. المناظر (سينوغرافيا حسين بيضون)، مؤلفة من «كنبة»، ولوح زجاجي ينسدل عليه الماء في مقدم الخشبة.

ورغم شاعرية المشهدية، إلا أنّها بعيدة عن التصوير الفوتوغرافي، وتبدو لوحة تفسيرية وذكية، فيها اتجاه لإشباع الرغبة بالتخيّل لا الوصف. يعتمد الإخراج على صياغة تجربة حسية؛ الماء المنسكب على الزجاج يضفي إيقاعاً سمعياً مستمراً، كثيفاً كالمطر، غامراً كالبحر. المياه، تتحول إلى استعارة بصرية، قد نراها حبّات مطر تتساقط، أو بحراً يبتلع زياد، أو مدينة في حالة غرق دائم.

بالإضافة إلى ذلك، تظهر الرسوم (مايا الشامي)، في خلفية المسرح، وتصدح الموسيقى (تصميم وتأليف كارول أوهير). المدلولات بسيطة، ولا حاجة إلى تفكيكها، بل ربطها بالمشهدية العامة، خصوصاً أنّها تترافق مع مضامين النص.

الإخراج سريع، متماسك، خالٍ من الثرثرة، مكثّف، يعكس جماليةً عالية ولحظات تأمل، تتشابك فيه العلامات والرموز المسرحية، ما يحوّل التلقّي إلى تفكر وتأمل بعيداً من الانغماس العاطفي.

سياق سياسي واجتماعي واقتصادي

تجربة «زقاق» في «Stop Calling بيروت» تعيد طرح تساؤلات حول واقع المدينة المعقّد، الذي اعتدنا عليه. واقع لا يلبث أن يخرج من كارثة حتى يعيش أخرى. يتّصل العرض بسياق سياسي واجتماعي واقتصادي من «نار وورق».

نعيد مع «زقاق» تأطير السياق على مدى ساعة من الزمن، في محاولة لفهم التاريخ وما حلّ بنا... شأننا، شأن العائلة التي فقدت زياد أبي عازار، أو شأن الأجيال التي تتهاوى المدينة أمامها وتفقدها.

رؤية موجعة عن بيروت الثورة، والموت، والحرب، والتفجير... فيها شيء متبقٍ، رمق أخير، هو المسرح، فلنسأل مع «زقاق»: كيف حلّ كل ذلك بنا؟

* «Stop Calling Beirut»: أيام 18 و 19 و 20 نيسان (أبريل). 2 و 3 و 4 أيار (مايو) ــــ س:20:00 مساءً. مسرح «زقاق» (الكرنتينا، بيروت. الحجز على موقع ijjoz.com)

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي