استنفدت القوات الموالية لـ«التحالف» قرابة نصف المهلة الممنوحة لها (20 يوماً) للسيطرة على الحديدة، من دون أن تضع الخطة الجديدة المهندَسة أميركياً على سكّة التحقّق. ثلاثة محاور رئيسة يواجه فيها المهاجِمون مقاومة شرسة، توقع خسائر كبيرة في صفوفهم وتمنعهم من التقدم. خسائر من شأنها تضعيف فعالية المخطط الأميركي، الذي كان يقوم على تحقيق «نصر سريع» قبيل المفاوضات، توازياً مع تخفيف بصمة واشنطن ظاهرياً.تكاد القوات الموالية لتحالف العدوان لا تلتقط أنفاسها في هجومها المتواصل على مدينة الحديدة. عمليات مكثّفة منذ قرابة عشرة أيام تستهدف خنق المدينة والوصول إلى مينائها. عمليات يخفق منفّذوها ـــ إلى الآن ـــ في توجيهها وفق ما خُطّط له، على رغم التحشيد والدعم غير المسبوقَين اللذين يحظى بهما التصعيد الأخير. وهو دعم لم تجد الولايات المتحدة، في اللحظة نفسها لإعلانها قرار وقف تزويد طائرات «التحالف» بالوقود جواً، حرجاً من تجديده، ما يجعل القرار الأميركي نوعاً من التغطية على الكارثة الإنسانية التي قد تتسبّب بها معركة الحديدة، التي يتأكد يوماً بعد يوم أن ثمة تشبّثاً بانتزاعها قبل استئناف المفاوضات السياسية.
واستمرّت، أمس، المعارك في محيط مستشفى 22 مايو (جنوب غرب)، الذي تقدّمت باتجاهه الميليشيات المدعومة إماراتياً أول من أمس، والذي يقع من بعده حيّ 7 يوليو، أول الأحياء السكنية في المدينة. وطبقاً لمصادر ميدانية من «أنصار الله» تحدثت إلى «الأخبار»، فإن ذلك التقدم «كان بمثابة استدراج أبيدت فيه كتائب بكامل أفرادها». وأوضحت المصادر أن عملية الاستدراج تلك استهدفت تعطيل فعالية سلاح الجو «الذي كان يستغلّ انكشاف المناطق المحيطة بالمدينة» من أجل تصعيد الضغط على الجيش واللجان الشعبية، لافتة إلى أن «منطقة 7 يوليو محصّنة جيداً، وقد تمّ تجهيزها منذ أشهر لمعارك من هذا النوع»، جازمة بأن «العدو الآن يواجه الحرب الحقيقية». حقيقة اعترفت بها القوات الموالية لـ«التحالف» بنفسها، مُعلّلة عجزها عن التقدم إلى ما تسمّيه «المربع الأمني للحوثيين» بقولها إن الأخيرين يستخدمون «القناصة بشكل كثيف، وقذائف الهاون التي يطلقونها تتساقط كالمطر»، وإن «ألغاماً كثيرة وُضعت في البراميل والخنادق وعلى الطرقات، ويؤدي بعضها أحياناً إلى تدمير أكثر من آلية».
اتفق ترامب وماكرون على أن اغتيال خاشقجي يمثّل فرصة لإنهاء الحرب


ووفقاً للمدى الزمني للخطة التي تمّ وضعها بإشراف أميركي في الرياض للسيطرة على الحديدة، والذي تفيد مصادر مطلعة «الأخبار» بأنه حُددّ بـ 20 يوماً كحدّ أقصى، فإن القوات الموالية لـ«التحالف» تكون قد استنفدت نصف المهلة الممنوحة لها، بتكلفة بشرية طائلة، من دون أن تتمكّن من تحقيق «الإنجاز» الذي يقتضيه المنطق العسكري. كان يُفترض بالهجوم المتجدد، الذي حُشد له «ما يكفي لاحتلال عشر دول» كما قال وزير الدفاع في حكومة الإنقاذ اللواء محمد ناصر العاطفي، أن ينطلق عبر 3 محاور: محور أول تتولّاه الميليشيات التابعة لنجل شقيق الرئيس السابق طارق محمد صالح، بهدف التقدم من جهة البحر نحو الميناء. ومحور ثانٍ يقوده «اللواء الثالث ـــ عمالقة» (ألوية العمالقة ميليشيات سلفية مدعومة إماراتياً)، مهمّة المهاجِمين انطلاقاً منه الاتجاه من جنوب شرق المدينة نحو مطاحن البحر الأحمر، ومن بعده التقدم إلى وسطها. أما المحور الثالث الذي أوكل إلى «اللواء الثاني ـــ عمالقة»، وكتائب سلفية أخرى، فتتركّز عملياته في محيط منطقة كيلو 16 ومحيط منطقة كيلو 7، مستهدفةً التقدم من اتجاهين يؤدي كلاهما إلى الميناء أيضاً.
انطلقت الخطة كما كان مقرّراً لها، تحت غطاء جوي كثيف بلغ أكثر من 40 غارة يومياً، لكنها سرعان ما اصطدمت بحائط صدّ يمني أدى إلى ارتكاسها. من جهة البحر، ووجهت ميليشيات طارق صالح بمقاومة شرسة أوقعت في صفوفها عشرات القتلى، وأرغمتها على التراجع. ومن المحورَين الآخرين، نصبت قوات الجيش واللجان مصيدة للمهاجِمين، جرّتهم بفعلها إلى حالة استنزاف كبيرة، في الوقت نفسه الذي حافظت فيه على خطوط إمدادها من صنعاء إلى الحديدة مفتوحة. وأعلن المتحدث باسم القوات المسلحة، يحيى سريع، أمس، أن معارك الساعات الماضية أدت إلى «مقتل 40 عنصراً» من الميليشيات المدعومة إماراتياً، و«إصابة أكثر من 60» آخرين، فضلاً عن «تدمير 12 مدرعة وآلية»، لافتاً إلى أنه تم كذلك «تنفيذ عملية مشتركة بين الطيران المسير وسلاح المدفعية ضد تجمعات قوات العدو جنوب كيلو 16». وأشار سريع إلى أن «العدو لجأ إلى إخراج جثث قتلاه وجرحاه عبر البحر إلى مستشفيات الخوخة والمخا وعدن»، واصفاً «ادعاءات إعلام العدوان حول تحقيق انتصارات» بأنها «تضليل ومغالطات دأب عليها العدو للتغطية على فشل قواته».
الفشل المتكرّر في قلب المعادلة الميدانية على جبهة الساحل الغربي لم يمنع الأميركيين من تعزيز مشاركتهم في معركة الحديدة، متطلّعين هذه المرة إلى تحسين أداء حلفائها ومساعدتهم على انتزاع «انتصار سريع». وهي مشاركة لا يدحضها واقعاً القرار الذي أُعلن عنه ليل الجمعة ـــ السبت بشأن «اتفاق» أميركي ـــ سعودي على وقف العمليات التي تقوم بها واشنطن لتزويد طائرات «التحالف» بالوقود جواً. إذ إن هذا القرار لن يؤدي عملياً ــ بمفرده ـــ إلى وقف العدوان، كما أنه لا يعني انتهاء أشكال الدعم الأخرى، وعلى رأسها الاستخباراتي، الذي تغلّفه الإدارة الأميركية بلافتة «مساعدة التحالف على تقليص عدد الضحايا في صفوف المدنيين» وفق ما كرّر وزير الدفاع جيمس ماتيس. يضاف إلى ذلك، أن الإعلان الأخير يستبق تحرّكات متوقعة للمشرّعين الأميركيين تستهدف مضاعفة الضغوط على إدارة دونالد ترامب بهدف وقف دعمها لعمليات «التحالف»، وهو ما كان قد هدّد به أعضاء ديموقراطيون وجمهوريون، مؤكدين أنهم «متأهبون لاتخاذ إجراءات إضافية»، ومحذرين الإدارة من أن الوقت ينفد أمامها. وعليه، يُنظر إلى القرار الأميركي، الذي تمّ تخريجه بلسان سعودي، على أنه محاولة لتسكين السخط الداخلي، وحرمان الكونغرس من فرصة اتخاذ قرارات بهذا الشأن، وخصوصاً أن المعارك الجارية حالياً ستؤدي إلى تكلفة إنسانية باهظة تريد واشنطن ـــ مسبقاً ـــ التحرّر من تبعاتها.
انطلاقاً من كلّ تقدم، يتضح أكثر فأكثر أن إدارة ترامب لا تمانع منح الرياض وأبو ظبي فرصة إضافية لحصد أوراق قوة تخوّلهما فرض شروط على طاولة التفاوض، والتي لم تنسف واشنطن ـــ على رغم المراوغة الكبيرة التي يتسم بها أداؤها ـــ فرصة انعقادها قريباً. إذ إن ماتيس، وتوازياً مع إشادته بالإعلان السعودي الأخير، تحدّث عن مسائل متصلة بما بعد الحرب من قبيل «التعاون في بناء قوات يمنية شرعية للدفاع عن الشعب اليمني، وتأمين حدود بلاده». كما أن الرئيس الأميركي اتفق مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال لقائهما في باريس أول من أمس، على أن حادثة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي يمكن أن يُستفاد منها في التوصل إلى حلّ سياسي في اليمن، ما يعني أن الزخم الغربي ـــ أقلّه لفظياً ـــ في الدفع نحو إنهاء الحرب لا يزال قائماً، على رغم التشكيك المتزايد في نيات واشنطن، والذي بدا لافتاً انضمام موسكو إليه بقولها إن «صدقية المناداة الأميركية بإنهاء الحرب في أقرب أجل محلّ تشكيك»، واعتبارها أن «كل شيء حتى الآن يشير إلى أن الجانب الأميركي لا يخطّط لتغيير سياسته في اليمن».