(مقدمة) سواد السماء وبياض الأرض. امرأة تُرضع طفلاً ميتاً. طفلة تلعب لعبة القفز على الحبل فيقطع السلك الشائك قدميها. شيخ مكلوم زائغ العينين بلا حيلة. قتيل ينزف دماءه السوداء على أرض بور. وجنازير حول الأعناق. أليس هذا ما نشاهده اليوم؟إن قيمة ناجي العلي تتجلى في قدرة فنه على تجاوز الزمن الذي رسمه في كاريكاتوره لتصبح لوحاته علامة نضال بين أجيال متتالية. إن شخصية حنظلة الذي ما زلنا حتى اللحظة الحالية، وعند كل موقف، نتذكره، ونتأثر به، ونعبّر من خلاله عن شعورنا الجماعي المشترك، وأيضاً عن ذاتيتنا ومآسينا الإنسانية الفردية.


وقد جاء طوفان الأقصى، غضب قطرات الندى التي هبطت من السماء ولم تسكن على أوراق الزيتون صانعة طوفانها شيئاً فشيئاً. هي الانتفاضة الثالثة للأحرار الفلسطينيين. المشاهد تثبت أننا بصدد صناعة أسطورة عصرية. كيف لثوّار يقودون عجلات نارية ويحلّقون بطائرات شراعية أن يخلعوا عيناً من وجه الاحتلال؟ نارٌ كاسحة تندلع، توقدها المقاومة، وتُعيد لنا ذكرى حنظلة.
ماذا فعل ناجي العلي بريشته حتى استطاع حنظلة، بطل فنّه، أن يعيش حتى هذه اللحظة؟ ما زلنا حتى الآن، وبعد اغتيال ناجي العلي بستة وثلاثين عام، نتذكر حنظلة، نستحضره من جديد مع كل حدث يجري في فلسطين، ها نحن نبدّل صورة هوياتنا الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي ونضع صورته محل صورتنا. نتساءل هل يلتفت إلينا حنظلة اليوم؟

الضحك في دقيقة حداد
إن الدعابة تحتاج إلى من يضحك عليها، ولكن لا محل للدعابة في كاريكاتور ناجي العلي، لأنه لا مجال للضحك عندما يكون الواقع مظلماً. يرى هيغل أن السخرية تحتاج إلى قدر من الثبات الانفعالي والنفسي حتى لا تتحول إلى مأساة. لكن ناجي العلي، رسام الكاريكاتور، قد غرق حتى رئتيه في الحداد على المأساة الفلسطينية والعربية بلا أدنى ثبات انفعالي. لقد رسم المأساة بأدق تفاصيلها بوصفها الفاجعة التي تُصعق لها القلوب. ناجي العلي، الفنان الفلسطيني، لطخت الحرب تاريخ شعبه ووطنه فاتّشحت رسوماته بالسواد. لقد هاجر مع أسرته من وطنه وعاش في المخيمات الفلسطينية في لبنان. نشأ لاجئاً يعرف مرارة الوطن، وظل ناجي العلي يرسم هذه المرارة المتّشحة بالسواد بلا كلل.
إن الكاريكاتور هو فن يعتمد أساساً على السخرية. يمكننا وصفه بأنه نوع من الفنون الشعبويّة. هو يهدف إلى الضحك الصادر من تغليب المفارقة. فالكاريكاتور فن نقدي تهكّمي، يعتمد على المحاكاة لشكل وملامح الأشخاص عن طريق إضفاء المبالغة على التفاصيل. وعلى تلك المبالغات أن تعكس سمات فاقعة تمتاز بها الشخصية المتهكم عليها، ما يضيف عمقاً وأبعاداً على الموقف منها، من ثم تستطيع أن تصل الرسالة المبتغاة بكل سلاسة. لذلك إن الكاريكاتير هو فنّ لا ينظر إلى الفرد بوصفه متجرداً، معزولاً عن محيطه، بل ينظر إلى الفرد في ضوء علاقته بالمجتمع والجماعة. وعليه، يطرح الكاريكاتور مشكلات اجتماعية لا فردية، ولو انبثقت من الفرد أو كانت ناجمة عن محاكاته وتشخصيه، بالتالي، إنه فن نقدي بامتياز.
فطبيعة الكاريكاتور المباشرة والموجهة في تعاطيها مع المفهوم أو الفكرة، تجعل منه قالباً فنياً يتناول أحداثاً سياسية واجتماعية، قادمة من منظور الفنان الذي يوظف المبالغة والتكثيف حتى تتحول الفكرة أو المفهوم، المرتبطان بالحدث، إلى نكتة ساخرة في النهاية. إن الفن هو حاجة إنسانية، والواقع يمنح الفنان أدواته، والموضوع يختار قالبه الفني. لكن لماذا لم يمزح ناجي العلي في رسومه الكاريكاتورية؟ إذا بحثنا في تاريخ ظهور الكاريكاتور، نجد أنه يصنف إلى نوعين: أحدهما اجتماعي والآخر سياسي وذلك تبعاً لموضوعه المطروح. ولكن غالباً ما يرد أن الكاريكاتير قد نشأ أولاً كمزحة سياسية ساخرة. فالسخرية في مضمونها لا بد أن تكون بين جماعتين على خلاف مع بعضهما البعض، في حين أن السخرية تستخدم كأداة معرفية تؤلف بين وجدان الجماعات، وتضع ذهنهم بحالة تيقظ على مضمون ارتباطهم معاً كجماعة لها أهداف مشتركة وواضحة. عبر السخرية تفهم من هو الطرف الصديق ومن العدو. من هنا، يصنّف الكاريكاتور كفن سياسي في أصله، ولكن باستطاعته أيضاً أن يعالج القضايا الاجتماعية اليومية. ولكن ما مدى قدرتنا على التفريق بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي في الواقع الفلسطيني؟ إن كل شيء يحتمل المزاح ما عدا الموت. ألم يتحطم كل شيء في يد اللص الذي سرقنا؟ أي حياة اجتماعية تخرج عن سياق الحرب والتهجير والعيش في مخيمات اللاجئين والإبادات الجماعية؟ إن القانون لا يدين الدعابة، ولا بد أن ناجي عاش على حافة الموت، وكان الكاريكاتور هو سلاحه ولغته حتى تحول الكاريكاتور من صناعة المزحة إلى تمثيل للكابوس.


التفاتة حنظلة
وضع ناجي مصيرنا أمام أعيننا عبر التحديق الدائم لحنظلة إلى الأمام. حنظلة الذي لم يلتفت يميناً أو يساراً كان يعلم وجهته صحيحاً وكان متمسكاً بها. وحنظلة الصبي الأشعث، بثيابه الرثة وقدميه الحافيتين، هو بلا نسب، يشبه الرحالين لأن بيته قُصف أو سُرق، كما أننا لا نعرف ملامح وجهه لأنه يعطي لنا ظهره دائماً. حنظلة واقف بيننا ولو أنه لم يلتفت إلينا بعد، لكن ناجي العلي منحنا البصيرة حتى نلتفت نحن إليه.
وبالرغم من القالب الأسلوبي الضيّق للكاريكاتور استطاع ناجي أن يفيض بالعبارة الفنية. فقد تجاوز بحساسيته الفنية مفهوم الكاريكاتير الشائع في الصحف، لأنه لم يكن صحافياً بل كان فناناً. وقد استطاع بصدقه وإخلاصه وموهبته أن يقرّب الأحداث السياسية إلى ذهن القرّاء العرب، تاركاً أثراً عميقاً في وجدانهم، وخاصة الذين لم ينالوا حظاً من تعلّم القراءة والكتابة في المجتمعات العربية الفقيرة، لكنهم ومع ذلك استطاعوا أن يتعاطوا مع رسومه، وأن يتورطوا مع القضية الفلسطينية عبرها. وكنت أنا تلميذة طفلة في المدرسة الابتدائية أرى كاريكاتور ناجي في الجريدة، وبلا فهمٍ ولا همٍ أرسم على كراستي حنظلة المهموم. لكنني الآن أرى رسمة لحنظلة يحلق بطائرة شراعية على أرض فلسطين المحتلة، يطير إلى حيث تنظر عيناه.

الثأر في لوحات
دبابة من الحجارة وجيش من الأطفال أعينهم محتقنة بالغضب المكبوت. يد سماوية تغرز كفها في السلك الشائك لتلتقط حجراً. دماء تسيل من رأس الشهيدة ترسم على الأرض كف يلتقط حجراً. تابوت ينبت فيه حقل زهور. وشيخ غاضب يستند على عكاز ويهتف صامدون.
مزج واقعي: رجل بلا قدمين يجلس على كرسي متحرك يستخدم النبلة ليرسل الحجارة على جيش الاحتلال.
أؤمن أن ناجي العالي بكاريكاتوره قد شارك في كل انتفاضة شعبية حدثت حتى بعد موته، لأنه عرف أن الثأر للكرامة سيحققه غضب الفقراء. فالشخصيات الأساسية التي كونت لوحاته تمثلت في أطفال، وشيوخ، ونساء ورضّع فيما الحزن حاضر في خلفية كل مشهد. تلك الشخوص هم تمثيل لشعبه ولطبقته. فالفقر هو هوية حنظلة، والعجز هوية الشيخ، واليأس هوية المرأة، والموت هوية الرضيع. عندما رسم ناجي أكثر أعماله سوداوية، صوّر فيها أبطاله كشخصيات سلبية غير فاعلة في المشهد. رسمها كما تعيش أيامها: مكسورة، خائبة، وباكية، أو ميتة. كان رسمه بمثابة تأريخ يعكس عبره هول الفاجعة. ولكن بقي ناجي العلي متمسكاً بالأمل. فقد رسم الشيخ في صورة المناضل، والأطفال في صورة الأبطال، والمرأة في صورة النور الذي يبدد الظلام.
عرف ناجي أن العجز هو عدو الإنسان، وأن القوة في العالم تكمن أينما وجدت الدبابة، لذلك واظب على إظهار الفقر الذي يغرق شعبه، وصور الحكام كلصوص مجرمين. لقد رأى أنه لا تحرر ولا استعادة للكرامة الإنسانية إن لم ينقلب الإنسان ويثور على الحكام الذين يستغلونه ويوسعون رقعة مأساته الفادحة.

لا تصالح
هل السلام يأتي في رمز الحمامة أم الغراب؟ في حوار صحافي لناجي العلي قال إن الحمامة وغصن الزيتون كرموز للسلام، يحملان في مضمونهما نذير الموت. فمن يطالب بحلول السلام مع إسرائيل هو يحكم بالموت الإجباري على فلسلطين. رسم ناجي حنظلة واقفاً على جبل طور سيناء يحمل بين يديه الوصايا العشر لأمل دنقل مكرراً فيها عبارة «لا تصالح» عشر مرات. أقتضب من ناجي العلي العبارة وأختزل قصيدة أمل دنقل فيها، لأن الظرف الحالي الذي نشأ مع الطوفان الأقصى جدير بأن يذكرنا بهذه الوصية المقدسة.
لن نصالح حتى لا تصير دماؤنا ماء، ولأن دم المجرمين لا يساوي دمنا البريء، ولأن دمنا ما زال يلطخ يد من صافحونا، ولأن الحق قادر على إخراس كل باطل، ولأن شعلة الثأر تبهت في الضلوع إذا ما توالت عليه الفصول ولأن الصلح معاهدة، والذي اغتالنا محض مجرم لص. فلن نصالح حتى ولو وقفت ضدنا كل السيوف، ولتشهد علينا اليوم يا حنظلة، ولا تفك يديك عن يدنا حتى نعود.