حلب | لا إحصائيّات دقيقة حول عدد من فقدتهم حلب من أبنائها المسيحيين في خلال الحرب (موتاً أو رحيلاً). في ما مضى، كان عديد هؤلاء في حلب يقدر بـ160 ألفاً، لتصنّف ثالث مدن المنطقة في هذا الإطار (بعد القاهرة وبيروت). ووفقاً لأدق التقديرات، فقد انخفض العدد أخيراً إلى قرابة 40 ألفاً، ليغدو عدد أبناء المدينة المسيحيين تحت ترابها أكبر من نظرائهم الأحياء فوقه. في وسع المدافن أن تقدم لمحة عن أجزاء من التركيبة الكوزموبوليتية للمدينة العريقة.
هنا يرقد موتى من السريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك والسريان الإنجيليين (بروتستانت)، الأرمن الأرثوذكس والأرمن الكاثوليك والأرمن البروتستانت، الروم الكاثوليك والروم الأرثوذكس، واللاتين والكلدان والموارنة والكنيسة المشيخية الإنجيلية العربية، وإلى جوارهم أيضاً موتى من اليهود (الطائفة الموسوية). يتولّى العم أبو منير أورفه لي مسؤولية حراسة ثلاث من المقابر المتجاورة، ويوافق بحماسة على مرافقتنا في جولة بين المقابر (ومن ضمنها مقابره). لكل من المقابر سورٌ وباب، باستثناء مقبرة اليهود المهملة. أنشأت الحرب ساتراً ترابيّاً كبيراً يقسم المقابر إلى قسمين، ما جعل الجولة بينها سيراً على الأقدام مقسومة بالضرورة إلى قسمين يتخللهما مشوار قصير بالسيارة بغية الالتفاف حول الساتر الترابي. يقول أبو منير لـ«الأخبار» إنّ حركة الدفن داخل هذه المقابر قد عادت منذ تاريخ 15 كانون الأول 2016 بعد توقف دام ثلاث سنوات ونصف سنة. يقول الرجل الستيني: «أُوقف الدفن بواحد نيسان 2013 ورجعنا بنص كانون الأول 2016». كان قرار إيقاف الدفن قد اتّخِذ بعد أن تحولت المنطقة إلى خط تماس نشط، على طرفيها نقاط سيطرة للجيش السوري و«الوحدات» الكردية وعلى مقربة منها نقاط سيطرة للمجموعات المسلحة المختلفة. ونتيجة للظروف الاستثنائيّة تشاركت كل الطوائف المسيحية مقبرة «مؤقتة» واحدة استُحدثَت في دير الكرمليت في حي الموكامبو. وللمفارقة، أدّت مغادرة الحرب المدينة أخيراً إلى بدء الطوائف بنقل جثامين موتاها من المقبرة المؤقتة المشتركة، ليعود كل ميت إلى طائفته!

بصمات الحرب

تتشارك كل المقابر بصمات الحرب ذاتها، ولكن بنسب متفاوتة. قذائف، صواريخ، حفر في الأرض، قبور مخرّبة، توابيت ظاهرة للعيان. أضرار أُصلِحَت وأخرى ما زالت تنتظر. يقول أبو جورج (حارس إحدى المقابر) إنّ «الجهات الأمنية قد أزالت قبل أيام قليلة فقط قذيفة لم تنفجر كانت موجودة في هذه النقطة». يشير الرجل إلى بقعةٍ أحاطها بشرائط قماشيّة «عم شك إنو هون في شي كمان، سيّجتو وخبرت عنو». يشرح أبو منير أورفه لي كيف فُتحت جدران المقابر المتجاورة لتتحول إلى ممرّ يعبر منه المقاتلون في خلال الحرب «كانوا الحيطان مفتوحين على بعض وينفذوا منهم تسللات، أول ما رجعنا سكرناهم من جديد». يشير الرجل إلى بعض آثار الخراب المحيطة بنا في مقبرتي الكلدان والأرمن البروتستانت المتجاورتين «هون كانو عاملين محرس، هي الحيطان كانت مليانة طلّاقيات (فتحات تسمح بإطلاق الرصاص)، هون خربوا الخشخاشة، هون تكسر الزجاج بسبب ضغط الهواء... إلخ». يدلّنا على قبر بعينه محاطٍ بالخراب ويقول: «داخل هذا القبر عثرنا على جثة لشخص مقتول، أعلمنا الأمن وأغلقنا القبر، وما زالت الجثة موجودة حتى الآن». نالت الكنيسة الصغيرة في مقبرة الأرمن البروتستانت قسطاً يسيراً من الدمار تعبّر عنه فتحة في السقف تسمح بوصول أشعة الشمس إلى المقاعد العتيقة.

الباحثون عن الذهب

يروي أبو منير أن الخراب الذي لحق بالمقابر ليس وليد نيران الحرب فحسب. يوضح أنّ بعض القبور حُفرَت ونُبشَت. يقول: «داخل براسهم إنو المسيحيين بيدفنوا مع أمواتهم دهب، وعم ينكشوا القبور ويدوروا». يؤكد الرجل أنّ هذه التصرفات ليست وليدة أيام الحرب فحسب، يروي بعض القصص التي تعود إلى أيام السلم، من بينها أنّ شخصاً عرضَ عليه التعاون معه في البحث عن ذهب وأسلحة «من قبل الأزمة بأربع سنين أجا واحد معو سيخ نحاس وقداحة، وصار يبرم بين القبور. تحرك السيخ بكذا مكان، وقال لي: عندي معلومات مؤكدة عن واحد كان هربان أيام أحداث الإخوان (الثمانينيات) وكان معو سلاح ودهب ودافنهم بشي قبر».

مقبرة الجيش الألماني!


حركة الدفن عادت
منذ كانون الأول 2016 بعد توقف دام حوالى ثلاث سنوات

من بين المقابر واحدة صغيرة تضمّ «ضيوفاً» من الجيش الألماني. اكتُشفت المقبرة مصادفة في منتصف التسعينيّات، وأعيد افتتاحها رسميّاً عام 2005. ويرقد في هذه المقبرة 261 جنديّاً سقطوا في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) كان معظمهم من أفراد جيش المشرق الألماني السابق. تتوزع صلبان المقابر مغروسة في التراب مباشرةً، وموزعة بانتظام هندسي، ليبدو شكل المقبرة مختلفاً عن كل المقابر المحيطة. يؤكد مرافقنا أبو منير أن «مقبرة فرنسية مماثلة كانت موجودة في الجوار تضم عشرات القبور، وقد نُقلَت الجثامين إلى فرنسا منذ نحو ثلاثين عاماً».

ضيوف «اعتباريون»

ليس الجنودُ الألمان الضيوفَ الوحيدين في مقابر حلب. ثمّة ضيوف «اعتباريون» يتوزّعون بين مدافن الطوائف: قناصلُ، رؤساء وأعضاء بعثاتٍ تبشيريّة، تُجّار، مديرو شركات... وغيرهم. على الجدار الخارجي لمقبرة الأرمن البروتستانت خَطّت «وحدات حماية الشعب» الكرديّة عبارات عن «الثورة والمرأة»، وجملة للزعيم الكردي عبد الله أوجلان، بينما تمركز على بعد نحو عشرين متراً حاجزٌ للوحدات يُفضي إلى حي الشيخ مقصود، وفي الجهة المقابلة حواجز للأمن السوري تُفضي إلى بقية أحياء المدينة. داخل المقبرة يقودُنا أبو منير إلى قبر طَرفيّ في صدر المقبرة، يقول: «هون في قبر واحد ماسوني مهم، كانوا الأجانب يضلوا يجو يزوروه ويصوروه، ما ضل وفد ما أجا لهون (قبل الحرب)». يمكن إدراج توصيف الحارس الكهل لصاحب القبر في خانة «الكلام الشعبي»، فمع وصولنا إلى القبر تتّضح هويّة صاحبه محفورةً عليه: «جوزيف ويلفورد بوث، رئيس البعثة الأرمنية لكنيسة يسوع المسيح لقديسي اليوم الأخير. ولد في الألب، يوتا، الولايات المتحدة الأميركية 14 آب 1866، توفي في حلب سوريا في الخامس من كانون الأول 1928». في النبذة المُختصرة على القبر نقرأ أيضاً «لثمانية عشر عاماً خدم بإخلاص كزعيم تبشيري في تركيا، اليونان، سوريا وفلسطين».






مقبرة اليهود

بين المقابر مقبرةٌ خاصة بيهود حلب (الطائفة الموسويّة). لا سور للمقبرة ولا باب. أمام أعيننا تمتد مساحة واسعة بأعشاب وأشواك كثيفة، وعدد قبور لا يبدو كبيراً (نُقدّره بقرابة ثلاثمئة). يُحذرنا أبو منير من خطورة دخول المقبرة والتجوال بين القبور، مرجّحاً وجود مخلفات ومقذوفات لم تنفجر داخلها. وبقدر ما تسمح المسافة بتبيّنه، يبدو أن معظم القبور قد خُطّت فوقها كتاباتٌ باللغة العبريّة، وعدد قليل منها بالإنكليزية. وفقاً لمرافقنا، فقد أنشئت المقبرة في موقعها الحالي سنة 1935، ونُقل عدد من القبور إليها من مقبرة سابقة في محلّة الحميديّة. يشير أبو منير إلى حائط على أحد أطراف المقبرة «هاد حيط الكنيس». وهو كنيسٌ صغير الحجم كانت تجري فيه طقوس غسل الموتى سابقاً. عدد اليهود في حلب اليوم واحد على الأقل (سيدة)، فيما تشير بعض المصادر المحلية إلى وجود آخرين لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة. أما السيدة، فقد اشتهرت إبّان التقارير التي نشرتها صحف غربيّة وإسرائيلية عن إجلاء «آخر عائلة يهوديّة» كانت تقيم في حلب «بعمليّة معقدة» عام 2015. وكانت العائلة تضم سيدة ثمانينية وبناتها الثلاث. ووفقاً للتقارير، فقد وصلت الأم وابنتان اثنتان إلى الكيان، فيما اضطرّت الثالثة (غيلدا) إلى العودة إلى حلب بعد أن رفضت سلطات الاحتلال استقبالها لأنّها «متزوجة بمسلم». أما التفصيل المثير الذي لا يمكن الجزم بدقّته من دون بحثٍ مستفيض، فجاء في سياق معلومات (غير مؤكدة) حصلت عليها «الأخبار» تقول إنّ «العائلة كانت تحتفظ بصفحتين من مخطوط حلب Aleppo Codex. وقد نقلتهما السيدة الثمانينية معها». ومخطوط حلب المذكور هو واحد من أهم مخطوطات التناخ (الكتاب اليهودي المقدس). ويعود عمره إلى أواخر القرن التاسع، وظلّ محفوظاً في «الكنيس العظيم» في حلب حتى عام 1948 حيث تعرض الكنيس لأعمال شغب بالتزامن مع النكبة. اختفى المخطوط، وبعد عشرة أعوام ظهر نحو ثلثيه في حوزة الكيان، وبقي الثلث مجهول المصير.