للانطلاق من مركز مدينة حلب إلى مرّان، عليك المرور بحي «طريق الباب» ومعاينة مثال «نموذجيّ» من أمثلة الإهمال الخدمي على كل الصّعد، ليحافظ الحي بذلك على وضعٍ مُزرٍ كان «يحظى» به إلى جوار عشرات الأحياء «الشرقيّة» في زمن السلم. تقطع السيارةُ دروباً موحشةً نحو الشرق، مؤشّرات الحياة قليلة: المصانع والمطاحن على هذا الطريق لا تزال خارج الخدمة، لا حركة سير نشطة نحو القرى البعيدة عن الطريق العام أو منها، وليس سوى أراضٍ شاسعة خاوية إلا من «كدمات» الحرب، وبضعة حواجز متناثرة. تقترب السيارة من الوجهة المقصودة. قبل الحرب، كانت بلدة مرّان مجرّد نقطة لا تكاد «خريطة التنمية الحكومية» تلتفت إليها، شأنها شأن مئات البلدات والقرى التي أسهم «الهوَس النيوليبرالي» بالتعاون مع الجفاف في تهميشها أكثر فأكثر. اليوم، تحوّلت المنطقة إلى أكبر تجمّع بشري مستقرّ في كنف الدولة السورية غربي مدينة الباب، تلحظُها خرائط توزّع القوى، ويزورها ضبّاط وجنرالات، ويحفظُ اسمها (بعض) المسؤولين. تتبع لبلدة مرّان 32 قرية وبلدة، وهي تتوسّط (تقريباً) المسافة بين حلب والباب (17 كلم شرقيّ حلب، وحوالى 15 كلم غربي الباب)، فيما تبعد كخطّ نظر قرابة 11 كلم عن «الدغلباش» أقرب نقطة خاضعة لسيطرة «درع الفرات».
البلديّة في ضيافة المستوصف
من المستوصف نبدأ جولتنا. يصادف وصولنا قدوم المتعهّد لإتمام الإجراءات الورقيّة لتسليم المقرّ بعد انتهاء ترميمه. أمام الباب يستقبلنا رئيس مجلس البلدة محمّد الخلف، ويقودنا إلى إحدى الغرف حيث تجمّع عدد من الوجهاء. أريكة متواضعة وأربعة مقاعد متنوّعة الأشكال لا تتسع لجلوس الجميع. يبتسم الخلف معتذراً. يشرح طريقة تجميع الأثاث (المستعمل)، ويؤكد برضى أنّ الأمر غير مهم ما دام المستوصف يمارس وظيفته الصحيّة. «المكتب» نفسه سيكون مقرّاً يدير منه مجلس البلدة مهماته، فمقرّ البلديّة مهدّم، والقرارُ محسوم «آخر شي رح نفكر بترميمو هوّي البلدية، كلّ المرافق الأخرى أهمّ منه، وهذا المكتب يكفي طالما أنّ عملنا يتطلّب وجودنا على الأرض، لا في المقرّات». لا وجود لشيء اسمه «بوفيه» هنا، لكنّ القيام بواجبات الضيافة حتميّ. وقت قصير يكفي لوصول القهوة من أقرب منزل، فيما يقوم الوجهاء بتسديد التزاماتهم من التبرّعات لشراء سرادق كبير سيكون معدّاً لاستخدام كل عائلات البلدة في أفراحهم وأتراحهم. أمام غرفة المعاينة، عشرات الأمهات يحملن أطفالهنّ في انتظار الحصول على جرعاتهم من اللقاحات في إطار «حملة التلقيح الوطنيّة». نسأل الطبيب عن الأمراض المكرّر تشخيصُها في البلدة فيجيب: «لاشمانيا». نفهم أنّ إصابةً وحيدة كانت قد سُجّلت قبل قرابة العام، ولم تكن كافيةً لتجاوب «مديرية صحّة حلب» مع المطالبات بحلول وقائيّة. اليوم، تجاوز عدد الإصابات حاجز المئة، فتجاوبت المديريّة «مشكورة»! حالات تشخيص الإصابة بـ«الحصى والرمل» في الكلى والمثانة مرتفعة أيضاً، بسبب اعتماد البلدة على مياه الآبار مصدراً وحيداً للشرب.

لا ماء ولا كهرباء
مشكلتان جوهريتان تخيّمان على حياة أبناء مرّان: مياه الشرب والكهرباء. هما مرتبطتان بعضهما ببعض، فالمنطقة تعتمد على المياه الجوفية، وهذه تحتاج الى الكهرباء لاستخراجها من الآبار. ورغم أنّ البلدة مشمولةٌ بمشروع الجر لريّ قرى الباب (41 قرية وبلدة) فإنّ الطريق سيكون طويلاً، إذ يتحتّم الانتظار حتى عام 2019 ليحين دور البلدة في الدراسة، وتدخل في انتظارات لاحقة (للاعتمادات والتعهيد والبدء بالتنفيذ... إلخ). طموحات الأهالي ليست كبيرة، ولا هي صعبة التنفيذ. ثمّة حل مؤقّت يسعون جاهدين للحصول على «دعم» الجهات الحكومية في تنفيذه، ومفاده تبرّع أحد أبناء البلدة ببئر على أن تتولى الجهات الحكوميّة المسائل اللوجستيّة، بدءاً بدراسة وضع المياه للتأكد من صلاحيتها، ثمّ تزويدها بمضخّة وغاطسة. تعيش المنطقة بلا كهرباء في ظل تخريب كامل البنى التحتيّة. بحث مجلس البلدة عن حل للمشكلة، وخلص إلى إعداد دراسة كاملة للحصول على الطاقة البديلة (طاقة شمسيّة). لا يغالي المجلس في آماله، يفكّر في «حدود الممكن». يقول الخلف «يتطلّب الأمر تحمّس جهة ما لمنح قروض بلا فوائد للسكّان، قيمة القرض الواحد مليون ليرة (حوالى 2300 دولار)، وسيكون كافياً لتزويد منزل واحد بمنظومة طاقة شمسيّة كاملة». ويضيف «إذا قام المقترض بتركيب المنظومة، ستتاح له زراعة جزء من أرضه وتأمين المياه لسقايتها. بزراعة دونم واحد ستدور عجلة حياته، ويسدّ القرض تدريجاً. لا نريدُ سمكاً، ولا نحتاج الى تعلّم الصيد، نريدُ فقط يداً تمتدّ لتساعد الأهالي على العمل». يبدو الطرح منطقيّاً، لكنّه يحتاج إلى من يأخذه على محمل الجد ويعدّه مصلحة وطنيّة، ولا سيّما أن ثمن مولّد الكهرباء الواحد (باستخدام الديزل) لا يقل عن ثلاثمئة ألف ليرة، ولا يمكن تشغيله سوى ساعات محدودة يوميّاً. في الوقت الراهن، يعتمد الأهالي على الزراعة البعليّة، بنتائجها غير المضمونة. يشكّل الزيتون حوالى 70% من مزروعات البلدة، والحبوب 20%، والخضر 10%. وتُقدّر مساحة الأراضي التي زرعت في العام الأخير بقرابة 90% من مجمل الأراضي، لكنّ الحصاد الذي بدأ أخيراً لا يعد بغلّة وافية، بل بخسارة مضمونة بسبب شحّ الأمطار في الشتاء المنصرم.

اطلبوا العلم «ولو في العَراء»
يستحق واقع التعليم والمدارس في المنطقة وقفةً طويلة. نشير إلى ملاحظة سجّلناها في طريقنا إلى مرّان: «كان طلاب المدرسة في قرية برلهين يقضون فترة الاستراحة في باحة المدرسة التي هُدّمت أسوارها بالكامل، راقبناهم عشر دقائق ولم يتجاوز أحدهم السور الافتراضي». نسمع إجابات يتداخل فيها الأسى بالفخر «في قرية المديونة هُدّمت المدرسة بالكامل، لكنّ العملية التعليميّة عادت بعدما قدّم أحد السكّان منزله ليكون مقرّاً مؤقّتاً». مدرسة قرية سرجة مهدّمة أيضاً «ويتلقّى الطلاب دروسهم في غرف اسمنتيّة صغيرة (بلوكات) تابعة لأحد المشاريع الزراعيّة». ومن جديد نسمع حلولاً يطمح الأهالي إلى تحقيقها «أن تزوّد بعض القرى التي هُدمت مدارسها ببيوت مسبقة الصنع تصلح مقارّ تعليم مؤقّتة». مدارس بلدة مرّان وضعها مختلف، تعرّضت إحداها لأضرار محدودة، وهي مقر العملية التعليميّة لكل أبناء البلدة حاليّاً، رغم حاجتها إلى تصليحات كثيرة، فيما تنتظرُ المدرسة الثانويّة أعمال التشطيبات النهائيّة لوضعها في الخدمة، أما الثالثة (مدرسة مرّان المحدثة) فقد تعرّضت لدمار هائل وسيكون عليها الانتظار. نسبة التحاق الطلاب في المرحلة الأولى جيّدة.
تتوسّط مرّان المسافة بين حلب والباب وتتبع لها 32 قرية وبلدة

نسمع أًصوات الأطفال من أحد الصفوف وهم يرددون الحروف الإنكليزيّة مع معلمتهم، فيما يشرح لنا مدير المدرسة أنّ نسبة الالتحاق أقلّ لدى طلاب المرحلة الثانويّة. يؤكد بفخر «الأهالي يرسلون الأطفال إلى المدرسة طوعيّاً، لا خوفاً من قوانين إلزاميّة التعليم»، ويضيف «لدينا نقص في الكادر التدريسي، ونأمل أن يكون النصاب في العام الدراسي المقبل مكتملاً». تصل الحماسة إلى ذروتها حين يتحدّث رئيس مجلس البلدة عن العرض المسرحي الذي أنجزه أطفال مرّان احتفالاً بعيد الجلاء، كانت مسرحيّة غنائيّة أشرف على إنجازها مخرجٌ من أبناء المنطقة ذو تجربة غنيّة وصاحب بصمة في مسرح الطفل في حلب اسمه محمود درويش. تبدو دهشتنا غير مبرّرة في نظر مُضيفنا، «هذا ما يجب أن يسمى وضعاً طبيعيّاً. على المستقبل أن يكون مختلفاً وهذا الجيل هو المفتاح، فشلنا وسينجحون» يقول. وكي تكتمل الصورة، يخبرنا مدير المدرسة أنّ الأهالي تعاقدوا مع حافلة على نفقتهم، لتنقل الكادر التدريسي يوميّاً من حلب وإليها.

«الرايات السود» مرّت من هنا
في خلال الحوارات والأحاديث الجانبيّة، يحضر ذكرُ «الرايات السود». أبو عبيدة اعتقلته «جبهة النصرة»، وأبو أحمد جلَده «داعش»، عبد الله أقيم عليه «حدّ ترك صلاة الجماعة»، ومحمّد جُلد «تعزيراً» لأنّ نساء عائلته لم يلتزمن بـ«اللباس الشرعي». قصص كثيرة تُروى، وتبدو اليوم الشاهد الوحيد على أنّ التطرّف هيمن على البلدة سنواتٍ عدّة تناقص في خلالها عدد السكان تدريجاً. دفعات متتالية من النزوح الجماعي، حالات هروب لعائلات بين فرصة وأخرى. «لا يخلو الأمر من نسبة تورّطت في العمل معهم، لكنها نسبة ضئيلة جدّاً» يؤكد الوجهاء. مع انسحاب «داعش» من البلدة (قبل عام وثلاثة أشهر)، خلت البلدة من المدنيين بشكل كامل، «العدد القليل اللي كان رضيان فيهن وباقي معهن هرب لما هربوا» يقول أحد الوجهاء.



العائلة التي «أحيَت» منطقة
كان محمد الخلف وأفراد أسرته أوّل العائدين. بصبر نافذ كانوا يراقبون أنباء العمليّة العسكرية في المنطقة، ويستعدّون لإنهاء سنوات من النزوح والتنقّل. «تاني يوم بعد التحرير من داعش كنّا هون» تقول السيدة خزنة (أم أحمد). وتضيف «ما كان في غيرنا مدنيين، بحياتنا ما تخيلنا تصير مرّان منطقة مقطوعة، كل يوم أسأل حالي: يا ترى بيرجعوا الناس؟». ألغام كثيرةٌ كانت مزروعة في محيط المنزل وداخله، «آخر لغم اكتشفناه من فترة قصيرة هونيك»، تقول أم أحمد، مشيرة إلى زاوية من زوايا الفناء. أمضت الأسرة فترة عصيبة، حتى إنّها عجزت في إحدى الليالي عن إيجاد شربة ماء لأصغر البنات. «كانت مريضة ومرتفعة حرارتها، وما باقي بالبيت دمعة مي». في الصباح، حاول رب الأسرة جاهداً إقناع زوجته بنقلها هي وبناتها (إيناس، أميمة وأليسار) إلى منزل أحد الأقارب في حلب للمكوث هناك فترة من الزمن، لكنّ الرفض كان قاطعاً «مستحيل كنا نقبل نتركو وحدو». في تلك الفترة، سرت شائعات كثيرة عن انعدام الأمان، «كان الهدف تخويف الناس من الرجوع، وطلعت إشاعات إنو الشباب عم يتقتلوا، والعساكر عم يغتصبوا البنات والنسوان، وجودنا هون كان ضروري منشان الناس ترجع، كيف بدهم يرجعوا إذا ظنوا إنو عيلة رئيس البلدية خايفة؟» تقول أم أحمد. بعد أسابيع من الوحشة، بدأت بعض العائلات بالعودة. اليوم تكاد الأسرة لا تصدّق أنّها «أحيت المنطقة» بعدما قارب عدد العائدين إلى مرّان 5500 شخص من أًصل 8000 كانوا يقطنونها زمن السلم. هل أنت راضٍ؟ نسأل الخلف، فيجيب «لسّة، في شغل كتير لازم ينعمل». يسرح قليلاً، ثمّ يقول «ما رح حسّ إني عملت اللي عليّ لترجع الكهربا، يوم اللي نكبس فيه زر وصول الكهربا لمرّان رح إستقيل».