أن تكون مغترِباً...
أن تكون مغترِباً بُعيد السابع عشر من أيلول (سبتمبر) 2024 ما عاد كما كان عليه الأمر عينُه بُعيد السّابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، وهو حتماً لا يشبه بشيءٍ أيّاً مما كان عليه قبل هذا التاريخ.
لعلّ جُلّ ما كان عليه أن تكون مغترِباً بُعيد السّابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 كان محاولة ابتداع ردٍّ مبنيٍّ على الحجّة والمنطق على سؤال «هل تُدين خماس/ هماس؟»، ذاك السّؤال الذي بقي لمدّةٍ لا بأس بها السّؤال الأكثر طرحاً وسذاجةً، لشدّة تبسيطه وتسطيحه أحد أضخم الأحداث وقعاً وتأثيراً في تاريخنا المعاصر، وحصر الإجابة من قبل طارحي السّؤال بثنائيّة «نعم/لا»، مع ترجيحهم البديهيّ والمُطلق لكفّة الـ «نعم»، واستعدادهم الآنيّ لاستلال حُسامِ لحظِهِم، بل حُسامِهم عينه، من غمده لدى استشعارهم وجود احتماليّةٍ ضئيلةٍ لأن تكون الإجابة تحتمل النِّقاش.
وليس أقلَّهُ بُعيد السّابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 أو بعده، كان أن تقعَ على وثائقيّاتٍ للكِبار، ورسومٍ متحرّكةٍ للصّغار، تُراكِمُ في لا وعيهم قُدسيّة ثوراتهم ومقاومتهم للرايخ الثالث، فيما يبخلون على غيرهم بهذا الحقّ وقُدسيّته. أمّا أن تكون مغترِباً بُعيد السّابع عشر من أيلول (سبتمبر) 2024، يعني تَسَمُّمَ حواسك ووجدانك وكيانك من نظرة تشفٍّ من هنا، وتعليقٍ خبيثٍ من هناك، يرى في ما حصل حدثاً مثيراً للاهتمام، بل مثيراً للضّحك، وكلُّ ذلك «بكلِّ موضوعيّةٍ»، ومن وجهة نظرٍ«استراتيجيّةٍ بحتة». في الوقت عينه، فأن تكون مغترِباً بُعيد السّابع عشر من أيلول (سبتمبر) 2024 يعني أنّك تيقّنتَ من عدم جدوى إضاعة الوقت والجهد محاولاً الأخذ بيد هؤلاء، كما الأطفال في أُولى خطواتهم، لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود (كأنّه ليس أمراً بديهيّاً)، وأنّك تيقّنتَ أيضاً أنْ لا حياةَ لِمَن تُنادي ممّن لم توقِظ إنسانيّتَهم -إن وُجِدت- ما وثّقتْهُ عدساتُ الكاميرا من كلّ الزّوايا منذُ ما يربو على العام.
أن تكون مغترِباً بُعيد السّابع عشر من أيلول (سبتمبر) 2024 يعني أن ترى مُحيطك، الذي لم تُفلح يوماً بالاندماج فيه، يُقاطِع مَطعماً عبّر في وقتٍ سابقٍ عن استعداده لتناول وجبة الغداء فيه بشكلٍ يوميٍّ بما لا يحتمل النّقاش، لا لشيءٍ سوى لكونه مطعماً لُبنانيّاً، ولأنّ هذا المُحيط يصطفُّ مع الطّرف الآخر بما لا يحتمل النّقاش.
أن تكون مغترِباً بُعيد السّابع عشر من أيلول (سبتمبر) 2024 يعني أن تُبقي على إحدى سمّاعتَي هاتفك اللاسلكيّة في أذنك طوال ساعات العمل، معطياً انطباعاً باستماعك للموسيقى تارةً، وبجهوزيّتك التّامة لتلقّي اتّصالات العمل طوراً، فيما الحقيقة تُجافي تماماً كلّاً من هذين الانطباعين، وتنحصر بالاستماع للنّقل المباشر من الجبهة تارةً والميدان طوراً.
أن تكون مغترِباً بعد السّابع عشر من أيلول (سبتمبر) 2024، أو بعد السّابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، فلا فرق في ذلك، يعني أن تتوهّم -بفعل هذا النّقل المباشر واللحظيّ- أنّك تعيش بجوارحك وساعات عُمرك ودقائقها وثوانيها، دقائقَ حياةِ وأيّامِ أهلك وناسك في تلك البُقعة التي وقع عليها ظُلم هذا الكوكب وأهله، فلا أنت قادرٌ على رفع أيٍّ من هذا الظّلم عنهم، ولا أنت قادرٌ على أن تحيا «حياةً طبيعيّة»، هذا إن بقي لهذا المفهوم من معنىً أصلاً.
أمّا أن تكون حيّاً، لا مغترِباً وحسب، بعد السّابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2024 (أو الثّامن والعشرين منه، لا فرق)، فذلك يعني أن تتلقّى وقع خسارةٍ قد لا تحمِلُها الجِبال، فتنهض وتُتابع، إذ إنّك لا تملك ترف التعثّر أو السّقوط أو التّوقّف لإدراك هول ما حصل، ولا ترف الوقت الذي قد تحتاجه إلى الاستيقاظ من الصّدمة، أو التّفكير في ما ستكون عليه الأيّام بعد السّابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2024، ناهيك بترف الحداد. ولعلّك من الأشدّ حظّاً إن كان بوسعك أن تحمي نفسك من الأذيّة عبر حالةٍ من النّكران تخلقها لنفسك وحسب. أن تكونَ حيّاً بعد هذا التّاريخ، ويكونَ ما بعدَ هذا التّاريخ لديك ليس كما قبله، فأنت حتماً مغترِبٌ عن هذا الكوكب والقوانين التي يسير عليها، وفي كلِّ خليّةٍ من خلاياك الحيّة ــ الخَدِرة، جبهةٌ قائمةٌ بذاتها، ترصدُ فُرصةً للإسناد، فإن عِيلَ صبرُها، فيبقى العزاء أن يكون «الخبَرُ هو ما تَرَونَ لا ما تسمعون».