ليس شربل نحاس رجلاً تُختصر مسيرته بفيديو من أربع دقائق. في الساعات الثماني والأربعين الماضية، قيل في حقّه ما لم يُرمَ به الأعداء الحقيقيون للمقاومة، ورعاة النيوليبرالية في البلد. جماعة الـ«NGO›S» ومن تُطلَق عليهم تسمية «ناشطين»، وجدوا في الشريط القصير ضالّتهم «ليبلّوا أيديهم» بنحاس، هم المهجوسون بكيفية إسكاته وإخراجه من «ساحة الثورة». فرحتهم وتحولّهم فجأة إلى مُدافعين عن أبناء الجنوب مفهومان، فنحاس هو نقيض «عقيدتهم» الاقتصادية والاجتماعية. مُشكلتهم معه قديمة، ووجوده في أي انتفاضة، أو مشروع تغييري، يفضحهم. ادّعوا بأنّهم استُفزوا من قوله إنّ بعض من في حزب الله «عالم بشكل أساسي عيالن كبّوا رزّ على الجيش الاسرائيلي»؟ أليس بينهم إعلاميات وإعلاميون وأشخاص لم يملّوا من «المتاجرة» بهذه الصورة، مُستخدمين إياها في معرض صراعهم مع حزب الله؟ نحاس لا يريد أن تبقى المقاومة محصورة بالجنوبيين. وصف المقاومين الذين حرّروا الأرض سنة 2000 وتصدّوا لحرب 2006، «باللبنانيين، إخوتنا وأخواتنا. حققوا إنجازاً عجزت عنه كلّ الجيوش العربية». لم يذكر أحد هذه الفكرة في معرض الحكي عنه في اليومين الماضيين. فأبناء «الحَراك» يهمّهم فقط «التنقير» على نحاس وتظهير مواقف يُمكن عبرها تأليب قسم كبير من الرأي العام ضدّه، وتعميق الفصل أكثر فأكثر بين الأحزاب والشخصيات اليسارية والمقاومة اللبنانية. أما على الطرف الآخر، فقد استفادت أحزاب داخل فريق 8 آذار من الفيديو، لتوظيفه في «شيطنة» كلّ الانتفاضة الشعبية، وتأكيد أنّها مُجرّد «مؤامرة» لضرب المقاومة. في حين أنّ جمهور حزب الله، قادته عاطفته والدفاع عن معتقداته وأهله وبيئته إلى المُشاركة في الاعتراض على كلام الوزير السابق. بالمُحصّلة، قدّم نحاس لكلّ القوى «هدية مجانية». إلا أنّ هجوم الفئة الأخيرة عليه، هو الأكثر صدقاً وله تبريره، ففي جلسة النقاش (كانت مُدتها ساعة) استخدم نحاس تعابير وإيحاءات فيها الكثير من الاستعلاء. لامس «العنصرية» حين رسم الحجاب بيديه، قائلاً «إذا ذكّرونا عا طول بِتْيابن وشكالن إنّن شيعة، هيدي مشكلة بالنسبة لإلنا كيف نحلّلهم ياها. ننقذهم من الأسر يللي هني فيه». وضع نفسه في مرتبة أسمى من غيره، مُعطياً نفسه حقّ «تحرير» الناس من معتقداتهم. إنها مشكلة نحاس، بعدم تمكنه، بعد سنوات من ممارسة الشأن العام، من تطوير أسلوبه في مُخاطبة الجماهير والاستماع إليها، فعجز عن تسويق أفكاره خارج حلقة ضيقة.

في جميع الأحوال، من الظُلم أن يتحول الهجوم على نحاس إلى «ترند» بسبب هذه الحادثة. فهو المهندس والاقتصادي والسياسي، المُلتزم منذ التسعينيات بمشروع واحد: بناء دولة مدنية، تُضاف إليها فكرة «المقاومة». مقاومة نظام الحرب الاقتصادي ــــ الاجتماعي، المُستمر على نهش الدولة وهدم أي فرصة إنماء حقيقية. من وجهة نظره، الحلّ الوحيد هو في تغيير النموذج الاقتصادي. يريد من الدولة أن تكون دولة، وتؤمّن للمواطنين حقوقهم. طرح مشروع التغطية الصحية الشاملة لجميع اللبنانيين المقيمين، وأصرّ على فرض الضريبة على الربح العقاري بنسبة 25%، ورفع الضريبة على أرباح الفوائد إلى 15%. تحدّث، منذ أكثر من عقدين، عن خطر الدين العام، وانعكاساته على الاقتصاد. خاض معركة هيئة التنسيق النقابية وعمال «سبينس» وموظفي المصارف ومجانية التعليم الأساسي. ورفع لواء استعادة الأملاك العامة، وطالب بتسليح الجيش اللبناني. خرج من شركة «أوجيه» بسبب معارضته مشروع رفيق الحريري لإعادة إعمار بيروت، وكانت النتيجة إقفال مكتبه.

لا يجد تناقضاً بين العداء لإسرائيل، وبين تسجيل ملاحظاته على سياسة حزب الله

طُرد من وظيفته في «بنك سوسيتيه جنرال» عام 1998، لأنّه خاض الانتخابات البلدية ضد «لائحة السلطة». في وزارة الاتصالات، كافح الاختراقات الإسرائيلية للاتصالات اللبنانية، ثمّ استقال من وزارة العمل لأنّه رفض التوقيع على مرسوم بدل النقل غير القانوني. كلّ تاريخ نحاس قام على فكرة «المقاومة» لنظام انتفض عليه اللبنانيون قبل ثلاثة أسابيع. لا حاجة للتذكير بموقفه من العدو الإسرائيلي، وهو في الوقت عينه لا يجد تناقضاً بينه، وبين تسجيل ملاحظاته بوضوح على ممارسات حزب الله الداخلية. من الطبيعي أن لا يجد هذا «الراديكالي» نفسه معنياً بالسكوت عن سياسة يعتبرها خاطئة، ولا تؤدي سوى إلى تعزيز موقع النظام القائم وحمايته.
حماسة نحاس، والضغط الشعبي في الشارع، جرّاه إلى الذهاب بعيداً في الحديث عن حزب الله والمقاومة، فكان ذاك الفيديو، ثمّ المؤتمر الصحافي أمس للاعتذار «عن اختيارنا تعابير وصيغاً غير موفقة». الرجل «الشجاع» أطلّ من مركز «حركة مواطنون ومواطنات في دولة»، في جلسة «مهمة نُخاطب عبرها الناس. حصراً الناس»، قال أمس. أوضح أنّ كلامه فُهم خطأً، «فرَشّ الأرز على الإسرائيليين كان المقصود منه أن المقاومة نهضت للردّ على هزيمة... والكلام عن الشكل والثياب كان المقصود منه أنّ مظاهر الناس صارت تدل على انقسام المجتمع، ليس فقط عند الشيعة، بل عند الموارنة والسنّة والدروز وكل الباقين»، موجهاً رسالة إلى «المقاومين وأهلهم وكل الناس وكل المجتمع»، بأنّ «تاريخنا مشترك وهمّنا مشترك ومصيرنا مشترك».
يحتمل خطاب وطروحات نحاس، وفصله بين الدولة المدنية والمقاومة، الكثير من النقاش. ولكن ذلك لا يعني أنّه مُعادٍ للمقاومة، بخلاف العديد من المجموعات «المدنية». على النقيض من ذلك، نحاس هو صاحب طرح اقتصادي إنقاذي، يحمي البلد والمقاومة. الوزير السابق اعتذر، «وعلى الذي قَبِل توضيح جبران باسيل عن أنّه لا يكنّ عقيدة عداء ضدّ إسرائيل أن يقبل اعتذار شربل نحاس»، كما غرّد أسعد أبو خليل.