قبل أيام، ظهر الملك عبد الله برفقة أبنائه وبعض إخوته، مؤدياً صلاة العيد في مسجد الحرس الملكي في العقبة، حيث يقضي إجازة بعد صخب الفترة الماضية والأحداث المتعلّقة بحادثة الفتنة. عبد الله ترك عمّان بعدما أعطى الضوء الأخضر للأجهزة الأمنية والماكينة الإعلامية لتكثيف التضامن، على وجه خاص، مع قضية الشيخ جراح واقتحامات المسجد الأقصى، على أنّ التضامن مع أهل غزّة بقي ضمن المستوى العادي. وقد جاء ذلك في وقت كان فيه وزير خارجيته يقوم بجولاته المكوكية، ويمارس الدبلوماسية الأردنية لوحده هذه المرّة، في سبيل التأكيد على تثبيت قضية الوصاية الهاشمية لدى الحلفاء والأصدقاء. عطفاً على ما تقدّم، بدا واضحاً المزاج الرسمي المتوافق مع الهبّة الشعبية في الأردن، الداعمة للمرابطين في الأقصى وحيّ الشيخ جراح. بل يمكن القول إنّ الأردن أراد للاحتجاجات أن تستمر في كلّ المدن والقرى، وأن تبقى القضية مشتعلة، على اعتبار أنّها تفيده في تثبيت قضيّته القديمة الجديدة المتعلّقة بالوصاية الهاشمية، لا سيما بعد أحداث ما سُمي اصطلاحاً بالفتنة، وتورّط الرياض وأبو ظبي فيها، خصوصاً بعد موقف محمد بن سلمان من مسألة الوصاية الهاشمية، ومحاربتها في فترة حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
فضلاً عن ذلك، تريد عمّان مضايقة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، عبر مناكفات سياسية «مضبوطة» لا ينفلت أثناءها عقال الوضع الداخلي من يدها. فالأمر يشبه المشي في حقل ألغام، على اعتبار أنّ الكتلة الفلسطينية، إن جاز التعبير، لم تعُد تتحرّك بسهولة، باستثناء النخبة المنخرطة في العمل السياسي، عبر أطر دستورية وقانونية تعامل هذه الكتلة كأردنيين خالصين، ومسألة تحريكها الآن في وضع داخلي حسّاس لا تحمد عقباه، ستفتح أبواباً لا يريدها القصر ولا الدولة العميقة ولا الحلفاء وعلى رأسهم تل أبيب وواشنطن. المشهد الأردني ربطاً بأحداث الشيخ جراح والأقصى، بدا متفوّقاً دبلوماسياً مقارنة برام الله. وأكثر من ذلك، يمكن القول إنّ الأردن يتصرّف كما لو كان ما زال يسيطر على القدس، مثل فترة الارتباط قبل عام 1988. ويظهر ذلك جلياً في تحرّكات وزير خارجيّته، أيمن الصفدي، اللاعب الأبرز في القضية، والذي فاقت تحرّكاته مواقف وجهود السلطة الفلسطينية التي بدا موقفها ضئيلاً وهزيلاً وآيلاً للسقوط. فعمّان تستطيع بسهولة ملء الفراغ بالتركيز على الحرم القدسي فقط، وتسليط الضوء على أهمّيته وقدسيّته لدى المسلمين.
لكن هذا المشهد الاحتفالي، والتوافق بين الرسمي والشعبي، اختلفت موازينه منذ تدخّل المقاومة في غزّة على خط القدس. إذ أنّ التصريحات الأردنية الاعتيادية تجاه ما يحدث في غزّة تأخذ طابع التضامن مع الضحية، وليس دعم تفوّق المقاومة الذي أبهر الجميع. الموقف الرسمي الأردني يمشي بتؤدة في هذا الموضوع، فهو يدين الغارات على المدنيين، من دون أن يقول في حقّ المقاومة أيّ كلمة، بالرغم من أنّ الوضع برمّته يمكن أن يكون في صالحه. فمن ناحية، يعزّز الموقف المساند للمقاومة شعبيّة الملك عبد الله، وتدعيم جبهته الداخلية، وكسب أكبر التفاف جماهيري حوله، سواءً من فلسطينيي الأردن أم من الشرق أردنيين التقليديين. ومن ناحية ثانية، سيتعزّز التقارب مع الدوحة المفيدة لعمّان، كونها حليف أميركي مهم، وثقل اقتصادي يمكنه التدخّل لدعم الاقتصاد الأردني. وقد أرسلت قطر العديد من الإشارات لعمّان، لكنّ الواضح أنّ هذه الأخيرة تخشى من استحقاقات هذا التقارب، وتجنح لعلاقات متوازنة مع الجميع ترعاها واشنطن، من دون الخوض في تفاصيل الخصومة الخليجية من وراء الكواليس، والتي ستخسر من خلالها عمّان، من دون أن تربح شيئاً.
أبعد من ذلك يستطيع الأردن تحسين شكل «زواجه النصراني» بإسرائيل، عبر إجراء تعديلات على اتفاقية وادي عربة من خلال مراجعة بنودها، ومحاولة حلحلة أبرز الملفات الشائكة، ومنها الماء والوصاية الهاشمية واللاجئين. ويمكن لعمّان التخلّص من اتفاقية الغاز التي وقّعتها من دون الحاجة إليها، كما يمكن للأردن ضبط نغمة العلاقة مع إسرائيل من موقف ندّ، وليس من موقف الاستعلاء الإسرائيلي على عمّان. داخلياً، تبدو العيون شاخصة تجاه السماء لرؤية الصواريخ. وبلا مبالغة يحتشد الأردنيون على المطلّات الجبلية لرصد وميض من صواريخ المقاومة. أما أكثر من يعيد ترتيب أموره، فهم «الإخوان المسلمون» الذين يحشدون لفعاليات، ويرفعون أعلامهم، ويستعدّون لجولة تفاهمات مع الدولة، هذه المرة باسم المقاومة في غزّة. بالتالي، إذا لم تقتنص الدولة فرصتها من إنجاز المقاومة، سيكون هناك من سيفعل ذلك.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا