في حقيقة عاشوراء
ينظر العقل الإنساني في ثورة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ضدّ حكم يزيد بن معاوية، في السنة الثانية والستين للهجرة، ويقارنها من جوانب عدّة: دينية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية وعسكرية، وهل تشبه غيرها من الثورات والانتفاضات وحركات التغيير ومقاومة النظام الحاكم ومعارضته وسوى ذلك. وينظر العقل في ظروف هذه الثورة من كل النواحي، وفي طبيعة الثائرين، من هم، ما هي خصالهم وصفاتهم، من يمثّلون في مجتمعهم، كيف خطّطوا ونفّذوا ثورتهم، كيف اختاروا مكانها وزمانها، وما هي شعارات هذه الثورة وأهدافها، وما آلت إليه من نتائج؟

هكذا يدور العقل حول ثورة عاشوراء، ناظراً مدقّقاً محقّقاً مقارناً، لعلّه يصل إلى الحقيقة ويستند إلى وثائق التاريخ في المرويّات وإلى الروايات عن الأحداث التي تبعت وشكّلت مجموعاً من الأرشيف العاشورائي. بمعنى أنّ ما حدث في عاشوراء ما كان مجهولاً ولا اختفت أحداثه ولا جهل فاعله وأشخاصه. لقد كتب تاريخ هذه الأحداث وشكّلت منه مادة غنية لدراسة الباحثين والمحققين في حوادث صورة عاشوراء. وتحوّلت إلى إرث إنساني كبير، يشغل على مرّ الزمان، عقل العالم ويجذب نفوس البشر ويأسر قلوبهم. ويمثل لهم قدوة وإماماً وهادياً ونهجاً في الثورة والإصلاح، ومدرسة عظيمة الشأن لا تزال فاعلة حتى هذا الزمان.
■ ■ ■
يبحث العقل الفلسفي للوصول إلى الحقيقة. ويستخدم من أجل ذلك طرائقَ ومناهج ومقاربات عديدة، كل منها يدّعي أنه قادر على تحقيق هذا المراد. ولكن فلاسفة الميتافيزيقا يجدون في كل الطرائق دوراناً حول الحقيقة، دون الوصول إلى الحقيقة في ذاتها. كل طريقة ومنهج ومقاربة تنال جانباً من حقيقة الشيء؛ النظر السياسي يقف على الحقيقة السياسية، والاجتماعي على الحقيقة الاجتماعية، وكذلك الاقتصادي والعسكري والنفسي وعلم الثورات والتاريخ وسوى ذلك.
لا يستطيع منهج من هذه المناهج النفاذ إلى حقيقة الشيء، بل يكتفي بالدوران حوله. وحده النظر الميتافيزيقي قادر على النفاذ إلى حقيقة الشيء، لأن دور الميتافيريقا هو البحث عن الوجود بما هو وجود، وليس عن متعلقاته. وعليه، يكون لها فعالية النفاذ إلى حقيقة الشيء في ذاته. والميتافيزيقا مدارس متعددة لكنها متفقة المناهج من حيث ما ذكرت من معرفة الحقيقة.
في كتابنا «ميتافيزيقا عاشوراء»، بيّنّا، بعد دراسة معنى الميتافيزيقا ومناهجها، أنها هي الطريقة الموصلة إلى جوهر ماهية عاشوراء وحقيقتها. وهذا يساعد على إدراك المعاني الأخرى لها، التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية، من حيث ربط هذه المعاني المتحصّلة بالبعد الميتافيزيقي. كان ذلك وفق ما أصّلناه في كتابنا الآنف الذكر، ولا نزال نبني مفاهيمنا للمعاني اللامتناهية من عاشوراء ثورة الإمام الحسين على هذا المبدأ في النظر الميتافيزيقي إلى هذه الثورة المتدرّجة في حركة الإصلاح النبوي في التاريخ، وفي وظيفة الولاية في حفظ العالم في دورة آدم التي نعيش في كوكبها الأرضي، وتنتهي بظهور المهدي
■ ■ ■
«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» [البقرة: 30].
تظهر آية استخلاف الإنسان، وبإجماع المفسّرين، أن الله سبحانه وتعالى اختار أن يخلق الأرض ويجعلها محلّاً لخلافة الإنسان، وأمام احتجاج الملائكة لفساد مراحل سابقة من عمر الكون اللامتناهي، وثّق الله بذور الإنسان في الأرض، وأنه سيكون على قدر تكليفه العظيم.
ومن أجل ذلك نبّهه وهداه وأرسل إليه الأنبياء تباعاً وخاتمهم كان محمد بن عبدالله. وجعل مع النبوة التشريعية التي تبلغ الوحي في كتاب الولاية لحفظ العالم وجعله ينفّذ الإرادة الإلهية من الخلافة. وهذا سرّ الولاية، في حفظ العالم والوحي والكتاب والنبوة ومسار الإنسانية.
كان الإمام الحسين سبط الرسول وخليفة الله وإماماً وولياً حافظاً وحرفاً منيراً في الكلمة المحمدية، أو الحقيقة المحمدية. وعليه، فإنّ كلّ فعل وقول وتقرير، وقيام وقعود له، مرتبط بهذه الوظيفية الإلهية المنوطة به.
وعليه، تكون ميتافيزيقاه هي الإسلام في أصوله، التوحيد والنبوة والمعاد والإمامة/الولاية والعدل. وهو قاوم في حفظ الدين وأصوله وحفظ العالم، لذلك يلزم النظر إلى ثورته لا من حيث إنها ثورة على الحكم الظالم وحسب كما في ثورات العالم الأخرى، ولكن باعتباره قياماً بدور الولاية في حفظ العالم وحفظ الدين في الدورة الآدمية الراهنة والحقيقة المحمدية.
إنّ تاريخ ثورة الإمام الحسين هو في مسار تاريخ الاستخلاف أو تاريخ حركة النبوات ودروس الولاية الخاصة بالنبوة الخاتمة. وعليه، حتى تدرك حقيقته يجب النظر إليه كميتافيزيقيا، أو تاريخ نبوي، تاريخ متعالٍ. لا يمكن دراسته في ترابط الأسباب والنتائج وإلا يصعب فهم مجرياته.
■ ■ ■
لو أردنا أن ندرس الظروف التاريخية لواقعة عاشوراء التي حصلت في السنة 62 للهجرة، لوجدنا أنها في قلب العصر الإسلامي الأوّل وامتدادٌ للتاريخ النبوي، خاصّة إذا دقّقنا في موقفها من مرحلة خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومن خلافة ابنه الحسن المجتبى الذي يمثّل الخليفة الراشدي الخامس وفق المنطوق التاريخي.
يمكن تقسيم هذه المرحلة التاريخية بعد وفاة النبي إلى ثلاث مراحل:
-المرحلة الأولى: وتُعرف بعنوان خلافة الشيخين، الصاحبين، أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
- المرحلة الثانية: خلافة الصحابي عثمان بن عفان وصعود نفوذ البيت الأموي، والتي انتهت بثورة عارمة أدّت إلى مقتل عثمان وإلى فتنة.
- مرحلة خلافة الإمامين، علي بن أبي طالب والحسن بن علي عليهما السلام، والتي انتهت إلى ما يُعرف بصلح الحسن، بعد حروب داخلية قاسية.
يظهر أن الصراع بين الخلافة والبيت الأموي، صاحب نظرية الملك العضود، تصاعد بعد انقلاب معاوية على قواعد صلح الحسن وتعيين يزيد خليفة، خلاف اتفاق الصلح. وعليه، يكون مَن خرج وانقلب على شرعية عصر الخلافة هو البيت الأموي، وأنه اغتصب السلطة بالتوريث والانقلاب على الصلح مع الإمام الحسن، والذي نصّ على خلافة الحسين بعد موت معاوية.
الحسين، في ثورته، أكمل مشروع حركة أخيه الحسن، لكن في ظروف تصاعد الصراع والوصول إلى مرحلة الثورة المسلّحة، وفق تعبير معاصر. من ناحية المشروعية، يزيد مغتصب للخلافة، منقلب على الصلح، فاسد، لا يصلح لحكم المسلمين الراشد. وهو بذلك دفع الوضع إلى مرحلة الصدام للحصول على بيعة الناس لملكه بالقوّة، وارتكب من أجل ذلك ما لَم يقدِم عليه سواه في التاريخ. الحسين هو الخليفة الشرعي الذي دافع وقاوم لإقامة الإصلاح في أمّة جدّه. انتصر الدم على السيف وحُفظ الإسلام. وكانت تلك وظيفة ولاية الحسين استمراراً لولاية الحسن.
■ ■ ■
وضعت ثورة الإمام الحسين الحدود بين مشروعية الحكم في الإسلام واغتصاب السلطة. ولعلّ ذلك ما قصده في إعلان الإصلاح. إنّ جزءاً من الإصلاح الحسيني هو إعادة السلطة إلى حضن الشرعية، سواء كانت شرعية الولاية أو شرعية الخلافة. كيف تحقّق هذا الإصلاح في المسار التاريخي للأحداث والوقائع في العالم الإسلامي؟
انتهت حركة الإمام الحسين في العاشر من محرم باستشهاده وأهل بيته وأصحابه، وانتصار عسكري ظاهري لجيش الطاغية المغتصب لسلطة الخلافة، يزيد بن معاوية، وأكمل يزيد بعدها مشواره في أخذ فرض سلطته بالقوّة، في حملة دموية بربرية على الحجاز في مكّة والمدينة، وعلى بقية الأمصار الإسلامية. أدّى مصرع الإمام الحسين إلى رفع كلّ غطاء شرعي لحكم يزيد وبعده الحكم الأموي، وحوّله إلى حكم طغاة بستبدّون ويقمعون الشعوب بالقتل والحروب والخداع والنزاع القبلي الجاهلي، وذلك لا علاقة له بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد. فكلّ علماء الإسلام الحقيقيون أعلنوا عدم شرعية الخلافة الأموية وأنها ملك عضوض مستبدّ ظالم. وقامت في وجهها ثورات عديدة، من أبرزها ثورة التوابين وثورة الإمام زيد بن علي وثورات عديدة أخرى. كلّ هذه الثورات استندت إلى قاعدتين:
- ثورة الإمام الحسين واستشهاده، وطالبت بثأره، بمعنى تحقيق خطة إصلاحه وإعادة شرعية الحكم على مستوى الخلافة الإسلامية إلى قواعدها الشرعية، لأن أمر الولاية أمر إلهي له قواعده الدينية الأصولية.
- جعل خلافة الأمويين سلطة غير شرعية غاصبة، تحكم بالقوّة، سلطة أمر واقع. وعليه، فإنّ معارضة هذه السلطة الغاصبة كانت من ثمار عاشوراء وبركات الدم النبوي الطاهر الذي سُفك ظلماً على ضفاف الفرات.
■ ■ ■
أمضى الحكم الأموي فترة حكمه يواجه ضغوطاً عالية ومعارضة شديدة من المسلمين الذين التقوا حول أئمة أهل البيت، يأخذون منهم العلم والسير والسلوك وأخلاق التقوى. وكانت ممارسة الأئمة إكمالاً لثورة الإمام بأشكال أخرى، كلّ له طريقته الإلهية في تأدية وظيفة الولاية والحفظ: الإمام زين العابدين إمام الدعاء الذي هو سلاح المؤمن للوصول إلى الحقّ، ونموذج التقى والزهد والعبادة ومقاومة الظلم بقوة معنوية نادرة المثيل في التاريخ، كيف ينتصر الحق على الباطل؟ بعبادة الله وعمل القلب والعقل. وبعده الإمام الباقر العالم المعلّم الذي أخذ لقبه من بقر العلم وخزنه وتعليمه، والصادق مؤسّس مذهب الشيعة وأستاذ المذاهب الأخرى على اختلافها.
لم يهدأ للحكم الأموي بال ولا استراح، وقُتل يزيد في نواحي حمص -التي عُرفت بالتشيّع- وكان في حفل صيد. وبعده تنازع الملك أمثال له، وما استقرّ للأمويين أمر وما اعترف بسلطانهم عالم ولا مذهب معتبر. كانت المعارضات المتعدّدة ترفع راية الثأر للحسين، ومعنى ذلك على مستوى البرنامج السياسي للمعارضة: رفع شعار الإصلاح الحسيني في أمّة محمد، وعودة للإسلام الأصيل بعد الانحراف الكبير الذي لحق به من جراء انقلاب الأمويين على شرعية الخلافة وحقّ الولاية الإلهية وعلى مبادئ الإسلام وقيمه العليا.
وعليه، وحتى قيام ثورة العباسيين كان تحت شعارات حسينية، وما حصل مع حكم بني أمية أنه لم ينجُ منهم أحد، وفرّ عبد الرحمن الداخل صقر قريش إلى الأندلس، وما كانت تربطه بالأمويين سوى رابطة العروبة وهي رابطة هاشمية أقرب إلى أهل البيت منها إلى سواهم (سلطة الأندلس التي اندثرت، يلزم دراستها ومعرفة أسباب اندثارها، لأن ما بُني على باطل ربما لا يدوم، ليكون ذلك مثالاً، ولا أقصد في هذه الالتفاتة سوى توجيه النظر إلى حكمة التاريخ في حكم العرفان).
يبقى حتى ندرك حقيقة عاشوراء في ذاتها: النظر إلى ميتافيزيقاها، وقراءة أحداثها ووقائعها كنص ميتافيزيقي، وعندها ندرك ما استتر من معانيها وأبعاد حقيقتها في مقاربتها وفق المناهج المتعددة لإبداع العقل الإنساني في فهم النص والفعل والقول الميتافيزيقي.
* كاتب ووزير سابق

من إحياء ذكرى عاشوراء في باكستان (أ ف ب)
هكذا يدور العقل حول ثورة عاشوراء، ناظراً مدقّقاً محقّقاً مقارناً، لعلّه يصل إلى الحقيقة ويستند إلى وثائق التاريخ في المرويّات وإلى الروايات عن الأحداث التي تبعت وشكّلت مجموعاً من الأرشيف العاشورائي. بمعنى أنّ ما حدث في عاشوراء ما كان مجهولاً ولا اختفت أحداثه ولا جهل فاعله وأشخاصه. لقد كتب تاريخ هذه الأحداث وشكّلت منه مادة غنية لدراسة الباحثين والمحققين في حوادث صورة عاشوراء. وتحوّلت إلى إرث إنساني كبير، يشغل على مرّ الزمان، عقل العالم ويجذب نفوس البشر ويأسر قلوبهم. ويمثل لهم قدوة وإماماً وهادياً ونهجاً في الثورة والإصلاح، ومدرسة عظيمة الشأن لا تزال فاعلة حتى هذا الزمان.
يبحث العقل الفلسفي للوصول إلى الحقيقة. ويستخدم من أجل ذلك طرائقَ ومناهج ومقاربات عديدة، كل منها يدّعي أنه قادر على تحقيق هذا المراد. ولكن فلاسفة الميتافيزيقا يجدون في كل الطرائق دوراناً حول الحقيقة، دون الوصول إلى الحقيقة في ذاتها. كل طريقة ومنهج ومقاربة تنال جانباً من حقيقة الشيء؛ النظر السياسي يقف على الحقيقة السياسية، والاجتماعي على الحقيقة الاجتماعية، وكذلك الاقتصادي والعسكري والنفسي وعلم الثورات والتاريخ وسوى ذلك.
لا يستطيع منهج من هذه المناهج النفاذ إلى حقيقة الشيء، بل يكتفي بالدوران حوله. وحده النظر الميتافيزيقي قادر على النفاذ إلى حقيقة الشيء، لأن دور الميتافيريقا هو البحث عن الوجود بما هو وجود، وليس عن متعلقاته. وعليه، يكون لها فعالية النفاذ إلى حقيقة الشيء في ذاته. والميتافيزيقا مدارس متعددة لكنها متفقة المناهج من حيث ما ذكرت من معرفة الحقيقة.
في كتابنا «ميتافيزيقا عاشوراء»، بيّنّا، بعد دراسة معنى الميتافيزيقا ومناهجها، أنها هي الطريقة الموصلة إلى جوهر ماهية عاشوراء وحقيقتها. وهذا يساعد على إدراك المعاني الأخرى لها، التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية، من حيث ربط هذه المعاني المتحصّلة بالبعد الميتافيزيقي. كان ذلك وفق ما أصّلناه في كتابنا الآنف الذكر، ولا نزال نبني مفاهيمنا للمعاني اللامتناهية من عاشوراء ثورة الإمام الحسين على هذا المبدأ في النظر الميتافيزيقي إلى هذه الثورة المتدرّجة في حركة الإصلاح النبوي في التاريخ، وفي وظيفة الولاية في حفظ العالم في دورة آدم التي نعيش في كوكبها الأرضي، وتنتهي بظهور المهدي
«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» [البقرة: 30].
تظهر آية استخلاف الإنسان، وبإجماع المفسّرين، أن الله سبحانه وتعالى اختار أن يخلق الأرض ويجعلها محلّاً لخلافة الإنسان، وأمام احتجاج الملائكة لفساد مراحل سابقة من عمر الكون اللامتناهي، وثّق الله بذور الإنسان في الأرض، وأنه سيكون على قدر تكليفه العظيم.
ومن أجل ذلك نبّهه وهداه وأرسل إليه الأنبياء تباعاً وخاتمهم كان محمد بن عبدالله. وجعل مع النبوة التشريعية التي تبلغ الوحي في كتاب الولاية لحفظ العالم وجعله ينفّذ الإرادة الإلهية من الخلافة. وهذا سرّ الولاية، في حفظ العالم والوحي والكتاب والنبوة ومسار الإنسانية.
كان الإمام الحسين سبط الرسول وخليفة الله وإماماً وولياً حافظاً وحرفاً منيراً في الكلمة المحمدية، أو الحقيقة المحمدية. وعليه، فإنّ كلّ فعل وقول وتقرير، وقيام وقعود له، مرتبط بهذه الوظيفية الإلهية المنوطة به.
وعليه، تكون ميتافيزيقاه هي الإسلام في أصوله، التوحيد والنبوة والمعاد والإمامة/الولاية والعدل. وهو قاوم في حفظ الدين وأصوله وحفظ العالم، لذلك يلزم النظر إلى ثورته لا من حيث إنها ثورة على الحكم الظالم وحسب كما في ثورات العالم الأخرى، ولكن باعتباره قياماً بدور الولاية في حفظ العالم وحفظ الدين في الدورة الآدمية الراهنة والحقيقة المحمدية.
إنّ تاريخ ثورة الإمام الحسين هو في مسار تاريخ الاستخلاف أو تاريخ حركة النبوات ودروس الولاية الخاصة بالنبوة الخاتمة. وعليه، حتى تدرك حقيقته يجب النظر إليه كميتافيزيقيا، أو تاريخ نبوي، تاريخ متعالٍ. لا يمكن دراسته في ترابط الأسباب والنتائج وإلا يصعب فهم مجرياته.
لو أردنا أن ندرس الظروف التاريخية لواقعة عاشوراء التي حصلت في السنة 62 للهجرة، لوجدنا أنها في قلب العصر الإسلامي الأوّل وامتدادٌ للتاريخ النبوي، خاصّة إذا دقّقنا في موقفها من مرحلة خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومن خلافة ابنه الحسن المجتبى الذي يمثّل الخليفة الراشدي الخامس وفق المنطوق التاريخي.
يمكن تقسيم هذه المرحلة التاريخية بعد وفاة النبي إلى ثلاث مراحل:
-المرحلة الأولى: وتُعرف بعنوان خلافة الشيخين، الصاحبين، أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
- المرحلة الثانية: خلافة الصحابي عثمان بن عفان وصعود نفوذ البيت الأموي، والتي انتهت بثورة عارمة أدّت إلى مقتل عثمان وإلى فتنة.
- مرحلة خلافة الإمامين، علي بن أبي طالب والحسن بن علي عليهما السلام، والتي انتهت إلى ما يُعرف بصلح الحسن، بعد حروب داخلية قاسية.
يظهر أن الصراع بين الخلافة والبيت الأموي، صاحب نظرية الملك العضود، تصاعد بعد انقلاب معاوية على قواعد صلح الحسن وتعيين يزيد خليفة، خلاف اتفاق الصلح. وعليه، يكون مَن خرج وانقلب على شرعية عصر الخلافة هو البيت الأموي، وأنه اغتصب السلطة بالتوريث والانقلاب على الصلح مع الإمام الحسن، والذي نصّ على خلافة الحسين بعد موت معاوية.
الحسين، في ثورته، أكمل مشروع حركة أخيه الحسن، لكن في ظروف تصاعد الصراع والوصول إلى مرحلة الثورة المسلّحة، وفق تعبير معاصر. من ناحية المشروعية، يزيد مغتصب للخلافة، منقلب على الصلح، فاسد، لا يصلح لحكم المسلمين الراشد. وهو بذلك دفع الوضع إلى مرحلة الصدام للحصول على بيعة الناس لملكه بالقوّة، وارتكب من أجل ذلك ما لَم يقدِم عليه سواه في التاريخ. الحسين هو الخليفة الشرعي الذي دافع وقاوم لإقامة الإصلاح في أمّة جدّه. انتصر الدم على السيف وحُفظ الإسلام. وكانت تلك وظيفة ولاية الحسين استمراراً لولاية الحسن.
وضعت ثورة الإمام الحسين الحدود بين مشروعية الحكم في الإسلام واغتصاب السلطة. ولعلّ ذلك ما قصده في إعلان الإصلاح. إنّ جزءاً من الإصلاح الحسيني هو إعادة السلطة إلى حضن الشرعية، سواء كانت شرعية الولاية أو شرعية الخلافة. كيف تحقّق هذا الإصلاح في المسار التاريخي للأحداث والوقائع في العالم الإسلامي؟
انتهت حركة الإمام الحسين في العاشر من محرم باستشهاده وأهل بيته وأصحابه، وانتصار عسكري ظاهري لجيش الطاغية المغتصب لسلطة الخلافة، يزيد بن معاوية، وأكمل يزيد بعدها مشواره في أخذ فرض سلطته بالقوّة، في حملة دموية بربرية على الحجاز في مكّة والمدينة، وعلى بقية الأمصار الإسلامية. أدّى مصرع الإمام الحسين إلى رفع كلّ غطاء شرعي لحكم يزيد وبعده الحكم الأموي، وحوّله إلى حكم طغاة بستبدّون ويقمعون الشعوب بالقتل والحروب والخداع والنزاع القبلي الجاهلي، وذلك لا علاقة له بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد. فكلّ علماء الإسلام الحقيقيون أعلنوا عدم شرعية الخلافة الأموية وأنها ملك عضوض مستبدّ ظالم. وقامت في وجهها ثورات عديدة، من أبرزها ثورة التوابين وثورة الإمام زيد بن علي وثورات عديدة أخرى. كلّ هذه الثورات استندت إلى قاعدتين:
- ثورة الإمام الحسين واستشهاده، وطالبت بثأره، بمعنى تحقيق خطة إصلاحه وإعادة شرعية الحكم على مستوى الخلافة الإسلامية إلى قواعدها الشرعية، لأن أمر الولاية أمر إلهي له قواعده الدينية الأصولية.
- جعل خلافة الأمويين سلطة غير شرعية غاصبة، تحكم بالقوّة، سلطة أمر واقع. وعليه، فإنّ معارضة هذه السلطة الغاصبة كانت من ثمار عاشوراء وبركات الدم النبوي الطاهر الذي سُفك ظلماً على ضفاف الفرات.
أمضى الحكم الأموي فترة حكمه يواجه ضغوطاً عالية ومعارضة شديدة من المسلمين الذين التقوا حول أئمة أهل البيت، يأخذون منهم العلم والسير والسلوك وأخلاق التقوى. وكانت ممارسة الأئمة إكمالاً لثورة الإمام بأشكال أخرى، كلّ له طريقته الإلهية في تأدية وظيفة الولاية والحفظ: الإمام زين العابدين إمام الدعاء الذي هو سلاح المؤمن للوصول إلى الحقّ، ونموذج التقى والزهد والعبادة ومقاومة الظلم بقوة معنوية نادرة المثيل في التاريخ، كيف ينتصر الحق على الباطل؟ بعبادة الله وعمل القلب والعقل. وبعده الإمام الباقر العالم المعلّم الذي أخذ لقبه من بقر العلم وخزنه وتعليمه، والصادق مؤسّس مذهب الشيعة وأستاذ المذاهب الأخرى على اختلافها.
لم يهدأ للحكم الأموي بال ولا استراح، وقُتل يزيد في نواحي حمص -التي عُرفت بالتشيّع- وكان في حفل صيد. وبعده تنازع الملك أمثال له، وما استقرّ للأمويين أمر وما اعترف بسلطانهم عالم ولا مذهب معتبر. كانت المعارضات المتعدّدة ترفع راية الثأر للحسين، ومعنى ذلك على مستوى البرنامج السياسي للمعارضة: رفع شعار الإصلاح الحسيني في أمّة محمد، وعودة للإسلام الأصيل بعد الانحراف الكبير الذي لحق به من جراء انقلاب الأمويين على شرعية الخلافة وحقّ الولاية الإلهية وعلى مبادئ الإسلام وقيمه العليا.
وعليه، وحتى قيام ثورة العباسيين كان تحت شعارات حسينية، وما حصل مع حكم بني أمية أنه لم ينجُ منهم أحد، وفرّ عبد الرحمن الداخل صقر قريش إلى الأندلس، وما كانت تربطه بالأمويين سوى رابطة العروبة وهي رابطة هاشمية أقرب إلى أهل البيت منها إلى سواهم (سلطة الأندلس التي اندثرت، يلزم دراستها ومعرفة أسباب اندثارها، لأن ما بُني على باطل ربما لا يدوم، ليكون ذلك مثالاً، ولا أقصد في هذه الالتفاتة سوى توجيه النظر إلى حكمة التاريخ في حكم العرفان).
يبقى حتى ندرك حقيقة عاشوراء في ذاتها: النظر إلى ميتافيزيقاها، وقراءة أحداثها ووقائعها كنص ميتافيزيقي، وعندها ندرك ما استتر من معانيها وأبعاد حقيقتها في مقاربتها وفق المناهج المتعددة لإبداع العقل الإنساني في فهم النص والفعل والقول الميتافيزيقي.
* كاتب ووزير سابق