حرب وقف إطلاق النار!

(أ ف ب)
(أ ف ب)


ينتج فعل الحروب أشكالها التي تتجدّد كما سريان الزمان. لا تسبح الحرب في مياه النهر مرتين بل تجد لنفسها اسماً ورسماً وثوباً جديداً. في حركة جوهرية صريحة الظهور والحضور.

وفي سردية الحرب الكبرى أحداث كثيرة، ولكن أكثرها ألماً وعجباً وعجاباً وخبثاً وخديعة ونفاقاً هي حرب وقف إطلاق النار. كيف نستطيع أن نقدّم وجه هذه الحرب وهويتها وقد لبست قناعها الجديد المناقض لكل ماهية وهوية وقف الحرب.

يحدّثنا الاتفاق المعقود برعاية دولية عن وقف أعمال الحرب. وما إن يدخل حيز التنفيذ حتى تبدأ، من جهة العدو، مراحل نفاقه، في أفعال قتل غادر جديدٍ تحت اسم جديد ووفقاً لقواعد جديدة، يمكن أن نسميها «حرب وقف إطلاق النار»، حيث يستمر القتل في كل مكان تحت أسباب تتعدّد، خلاف منطق العقل لتبرير فعل القتل، ووفقاً لتفاهمات تحصل في السرّ، لأن حصولها في العلانية يجعلها صعبة القبول. إنه تفاهم القاتل مع نفسه أن يمارس نفاقه في الخفاء. يعترف بوقف إطلاق النار ولكنه يستمر في الحرب بحجة مخالفة قواعد إيقاف الحرب، وهو وحده مَن يخرق قواعد الاتفاق.

من أخطر ما تحدثه حرب وقف إطلاق النار هي أنها تجرد من يعمل بها ويلتزم اتفاقها عن ممارسة حق الدفاع عن النفس ورد العدوان. يخرج الطرف المصدق على وقف إطلاق النار من الميدان وفقاً للاتفاق ولكنه يجد نفسه خارجه وقد كبّل به لأنّ العدوّ يعمل وفقاً لتفاهم النفاق والعدوان في تفاهم يبطنه ويقيمه مع نفسه. يظهر القبول في الأمر ويضمر خلافه. يوقف النار جهاراً ويشعلها في السرّ وفي العلانية.

لقد أحدثت حرب وقف إطلاق النار دماراً هائلاً في قرى الصمود في الخط الأول من جبهة الجنوب اللبناني، التي عجز العدو أن يحتلّها لكن حرب وقف إطلاق النار تركته يدمّرها بلدةً بعد بلدة وحارة بعد حارة ومنزلاً بعد منزل. يدمّرها وقد أوقف سكّانُها الحربَ بناء للاتفاق، وخرج شجعانها بناءً للاتفاق من خنادق القتال، ليعمل العدو فيها دماراً وقتلاً، في ظاهرة لم تشهد لها الحروب مثيلاً من قبل، ولذلك اتصفت بهذا الاسم والرسم الجديد: حرب وقف إطلاق النار.

لا حدود لميدان هذا النوع من الحروب. لأن العدو، وقد أبطن مقصده وحزم أمره في خرق كل اتفاق، يجعل من ساحات هذه الحرب كل أرجاء البلاد. يعمل فيها كل أشكال القتل والدمار. كأنها أرض مستباحة لجرائم ضد الإنسانية.

لا يبقى مكان بعيد لا يطاله، ولا يبقى مكان محصن دون عدوانه. لأننا ونحن ندخل في لعبة الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار، يتفلّت هو من كل قواعد هذا الاتفاق، الأمر الذي يوسّع ميدان الحرب عن مساحتها السابقة بقرار وقف إطلاق النار. إنّ مساحة الحرب السابقة لوقف إطلاق النار حدّدتها جبهات القتال وصحوة الميدان، فيما مساحة حرب وقف إطلاق النار مفتوحة الجهات لأنها ليست ميداناً للحرب بالمعنى الحقيقي، ولكنها ميدان لأعمال نقض إيقاف الحرب بممارسة القتل. وما سمّي الدفاع عن النفس يملكه طرف واحد خلاف كل شرع وقانون؛ فعل همجي يحاسب عليه قانون العدالة الدولية في حال وجدت.

أقصد القول إن أعمال هذا النوع من الحروب لا تدخل في إطار مفهوم الحرب، في ميدان المواجهة والاشتباك، إنها حرب خارج قانون الحرب، وخارج كل منطق، لإيقاف الحرب وكل فعل يضع حداً لأمر الحرب. لا يدخل فعل خرق اتفاق وقف إطلاق النار في أصل الاتفاق، وهذا أمر مخالف لقواعد المنطق وإدراك العقل. وهو أقرب إلى ما يسمّى في المنطق بمبدأ الهوية، وكذلك قاعدة استحالة الثالث المرفوع؛ أن يكون الشيء في نفس الزمان والمكان هو نفسه وغيره في آن واحد. وعليه، تكون حرب وقف إطلاق النار فعلاً مخالفاً لأصول المنطق، وهو أنه مع الاتفاق على إيقاف الحرب يستمرّ فعل الحرب في نفس المكان والزمان، أي إن وقف الحرب هو في الوقت نفسه عدم وقف الحرب. وهذه من المستحيلات المنطقية، ولكنها تحصل في فعل العدوان. لأن كل فعل عدوان هو خارج قواعد المنطق. والعقل لا يمكن أن يقدّم له تبريراً.

هل يمكن أن تستمرّ حرب وقف إطلاق النار؟ أمر يحصل أن تستمر، خلاف كل قانون عقلي ومنطق، ولكن استمرارها سوف يؤدي مع الوقت إلى تصحيح المعادلة المخالفة لقواعد العقل والمنطق وواقع الحق في الدفاع عن النفس وعدم القبول بالخرق المستدام الذي ينهي فعل الاتفاق؛ وهي أنه في حال استمر خرق وقف إطلاق النار فإن الاتفاق معرّض للسقوط. هذا أمر قائم لأنه لا يمكن استمرار فعل الحرب من طرف واحد فيها، ولذلك إن على من يريد الحفاظ على استقرار وقف إطلاق النار أن يلزم جميع الأطراف به وأن يكون الالتزام متبادلاً ومنصفاً وحقيقياً. وإذا استمر على قاعدة خرقه فهو معرّض للسقوط، ونعود مرة أخرى إلى الحرب.

ومسؤولية الدول التي صنعت اتفاق وقف إطلاق النار والتزمت حمايته ومراقبته وعدم خرقه أن تقوم بدورها، لأنها جزء أساسي ومكون من الاتفاق، وتمثّل جهة الرعاية الدولية له.

والدولة اللبنانية التي تتعرّض أرضها وشعبها للعدوان أمامها واجب حماية البلاد والعباد والعمل على إلزام العدو بمندرجات الاتفاق ومنع خرقه وإيقاف حرب وقف إطلاق النار بكل السبل المتاحة لها كدولة ذات سيادة وحقوق مشروعة ومعتبرة في كل مقاييس حقوق الدول والشعوب.

وهذا ما يلزم أن يعمل من يريد إيقاف الحرب حقاً؛ على تجنّب خرقه بفرض التزام كل الأطراف المعنية فيه، وعندها نوقف مهزلة ما سمّيناه بحرب وقف إطلاق النار. وهي حرب غريبة عجيبة في اسمها ورسمها على السواء، ومخالفتها كل منطق وقانون عقلي وإنساني، وحقوق الدول والشعوب وحقوق الأرض والسيادة الوطنية، وفقاً لمواثيق واتفاقات وتفاهمات وقرارات النظم الدولية، وميثاق الأمم المتحدة، وغيرها من المؤسسات الأممية المعنيّة.

* كاتب ووزير سابق

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي