لا يمكن عزل تفاقم الأزمات العالميّة عن النظام التعليمي الراهن، فلطالما ارتبطت الأنظمة التعليميّة بالمشاريع السياسية - الاقتصادية الحاكمة. يوماً بعد يوم، يشهد العالم تفاقماً نسبياً بالأزمات؛ التضخم الاقتصادي العالمي، تنقّل الإرهاب، اختلال طبقة الأوزون، انتشار الأمراض (كورونا ومتحوّلاته)، حرب أوكرانيا - روسيا والتشنّجات الحاصلة في غرب آسيا وشرقها، من بين أمور أخرى. وإذ ليس دقيقاً إرجاع هذه الأزمات إلى الأنظمة التعليمية حصراً، إلا أن ذلك، بشكلٍ أو بآخر، مرتبطٌ بتصاعد الدعوات العلميّة نحو الشروع بتعلّم تحويليّ (Transformative Learning) حقيقي وفعّال - وفق ما تم التأكيد عليه في ندوة «أونيسكو» الخامسة (الأخيرة)، تحت عنوان التعليم التحويلي - وهو يقوم على التشكيك في جميع افتراضاتنا الموروثة المرتبطة بالعالم وبالإنسان نفسه، بسبب ما أدت إليه من مشاكل (صحية، اجتماعية،...) بغية تصحيحها اعتماداً على تفكيرٍ منطقيٍ أكثر ملاءمةً مع الطبيعة. وعلى الرّغم من أنَّ هذا الاهتمام بتعليم أو تدريب التفكير المنطقيّ يعود، ولو بشكل مجملٍ، لعقود قديمة، من زمن الفيلسوف مسكويه (932-1030)، وحتى قبله، إلَّا أنّ ذلك كان غائباً عن المدرسة الحديثة، ولا يزال.
لكن بعض الأعمال العلميّة، وفي أواخر الستينيّات من القرن الماضي، أشارت إلى هذه المشكلة المنهجيّة. حيث لاحظ ماثيو ليبمان - فيلسوف أميركيّ وأستاذ للمنطق في جامعة كولومبيا - أنَّ غالبيّة طلابه في الجامعة يفتقرون إلى مهارات التفكير المنطقي الناقد وقد أرجع ذلك إلى أنّ الطفل يبدأ المدرسة بفضولٍ طبيعيّ، ولكن المدرسة تؤدّي إلى حصر تفكيره، وتأطيره بدلاً من توسيعه. وبما أنّ فكر الطلّاب يكون قد تشكّل بالفعل في الصفوف العليا، فإنّ من الصعوبة تعليمهم التفكير السليم حينها، لذا فقد آمن بضرورة العمل مع الأعمار الصغيرة - ثانوي وما دون - بهدف تعليمهم التّفكير المنطقي.
والمقصود من تعليم الفلسفة للأطفال هو «تعليمهم التفكير المنطقي»، حيث يكتسب الطفل بذلك أساليب الحوار والمجادلة والنقاش المبني على الحجة. استناداً إلى ذلك، وضع ليبمان الركيزة الأساسيّة لما يعرف الآن ببرنامج الفلسفة للأطفال P4C، والذي اعتمد فيه على قصصٍ ألّفها، كان أبرزها رواية تحت عنوان «اكتشاف هاري ستوتماير» عام 1974. كان الهدف من هذه الرواية وغيرها هو تعليم الآليات الأساسيّة للتفكير المنطقي، وطرح الأسئلة والنقد.
تطوّرت التصاميم والمناهج تدريجياً وتنوّعت في مختلف أنحاء العالم، منها: منهج ميشال توزي الذي ركّز فيه على التفكير بالنفس، منهج أوسكار برينيفييه، وقد ركّز فيه على تعزيز المفاهيم وتنوع الآراء، وغيره...

واقع لبنان
في لبنان، بدأ النظام التعليمي يتبلور في بدايات القرن الثامن عشر، ولا سيّما بعد انعقاد مجمع اللويزة عام 1736 - أوّل مؤتمر دعا إلى توفير التعليم المجاني والإلزامي في لبنان. وفق ذلك تم إنشاء العديد من المدارس بشكل تدريجي. وقد تنظّمت بشكل كبير هيكلية التعليم من مؤسسات وإدارة مركزية ومناهج، ثم تابعت الحكومات العمل على تطوير المناهج الأكاديميّة وتحسين البرامج المدرسية، كما حدث في عامَي 1968 و1997. ورغم كون الأخير هو المنهج المتّبع في مختلف أنواع التعليم، إلا أن النظام التربويّ اللبناني، بقطاعَيه الرسمي والخاص، يتميّز بكونه نظاماً حرّاً - حسب ما نصّ عليه الدستور اللبناني. رغم مضارّه من جهات متعددة، إلا أنه ساهم في إثراء التجربة التربويّة في لبنان ورفع روح المنافسة بين المؤسسات المختلفة لتأمين خدمات تعليميّة متنوعة - تضمّنت مفاهيم التعلم التحويلي - كان من ضمنها تجربة الجامعة اليسوعية - كلية العلوم التربويّة في تنظيم وتطبيق برامج تعليم الفلسفة للأطفال.
تطوّرت التصاميم والمناهج تدريجياً وتنوّعت في مختلف أنحاء العالم


جرى تطبيقها في مدارس خمس مختلفة، تمتد تجربة إحداها إلى 2012 بحسب ما ذكر منسّق البرنامج الدكتور روك عشي. شمل البرنامج تطوير مجالات خمسة رئيسة (التحدّث، الاستماع، التفكير والفهم، التواصل والتعبير)، وذلك من خلال التركيز على تطوير المهارات الذاتية، تعزيز القدرة على السؤال، التحليل، المقارنة والاستنتاج وتخطّي الاعتقادات السائدة والأحكام المسبقة.
امتد البرنامج، وفق التقرير الصادر عن اللجنة المتابعة لتطبيقه من قبل الجامعة، إلى عشرة أسابيع، أشرف عليه أحد عشر مدرباً (يستخدم فقط أسلوب التحفيز) مختصّاً، تخيّروا في العمل على الكفايات بتناول أحد الموضوعات الآتية: الخوف، العائلة، السعادة، الصداقة، احترام الذات (من أنا؟ ماذا أريد أن أكون؟ كيف أختلف عن الآخر؟ وكيف يكمّلني الآخر؟)، احترام الآخر (من هو الآخر؟ التحمّل، عدم التّمييز)، احترام الوطن (ما معنى الانتماء، لماذا ننتمي؟ كيف يكون التطبيق العمليّ للانتماء؟) وغيرها التي اختلفت واختلف أسلوب تقديمها بحسب كل مرحلة من المراحل.
من جهة أخرى، أنتجت هذه التجربة بعض الوسائل الإيضاحيّة الأوليّة المفيدة، كما ظهر بالتوازي محاولات لبنانية عديدة في مجال إنتاج الأدب الفلسفي للناشئة مثل كتاب «عالم مريم» - عبارة عن قصص فلسفيّة مبسّطة لكاتب المقال (تم التعريف عنه سابقاً في «الأخبار» بمقال تحت عنوان «مريم... رحلة إلى عوالم فلسفيّة»)، وكتاب «ألف باء الحياة» وغيره للدكتوره أميمة عليق، «كيف يرى الله» للـ ش. حسين شمس الدين، وغيرها...
ورغم ضآلة المعلومات الموجودة، وامتداد التجارب حتى عقد من الزمن، إلا أنه إلى الآن لم يجر أي بحث لتقييم هذه التجارب؛ كيف سارت؟ أسبابها ونتائجها؟ وقعها وآثارها؟ هل تم تطبيقها بشكل كامل (برامج المدرسة)؟ واقع المتدرّبين أو القرّاء؟ كيف تفاعل الطلاب من وجهة نظر المدرّبين (برامج المدرسة)؟ مدى نجاحها بحسب الكتّاب والمعنيّين؟ إلى أيّ مدى كان الكتاب أو البرنامج مفيداً؟

*كاتب وباحث تربوي