الجزائر تستعيد علاقاتها مع باريس: ماكرون أهون الشرور اليمينية
وكعادة العلاقات بين الجزائر وفرنسا، بلغ منحى الأزمة الذروة، ثمّ بدأ في التراجع بعد سلسلة تصريحات وبيانات من الجانب الفرنسي صبّت في اتجاه التهدئة. وأصدر قصر الإليزيه بياناً في 9 تشرين الثاني الماضي، يأسف فيه لسوء فهم تصريحات الرئيس الفرنسي، ويؤكد احترام الأخير للجزائر. وتبع ذلك لاحقاً إعلانُ فرنسا فتْح أرشيف الثورة الجزائرية، ورفْع السرّية عنه قبل الموعد المحدَّد له بـ15 سنة. ثمّ زار وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، الجزائر، والتقى تبون، ليتبع زيارتَه إعلانُ الجزائر عودة سفيرها إلى باريس مطلع العام الحالي، وهي كلّها مؤشرات كانت تؤكّد عودة العلاقات تدريجياً إلى طبيعتها، إلى أن أُعلن عن الاتصال الهاتفي بين الرئيسَين، والذي يُستشفّ منه قبول الرئيس الجزائري مبدئياً حضور القمة الأفريقية - الأوروبية في بروكسل، مع إمكانية لقائه ماكرون الذي تترأّس بلاده حالياً الاتحاد الأوروبي. لكن تخطّي الأزمة لا يعني بالضرورة تجاوُز نقاط الخلاف، وهذا ما يظهر بوضوح في الفارق بين تناول كلّ من الإليزيه والرئاسة الجزائرية للمكالمة الهاتفية بين تبون وماكرون؛ إذ أورد الأوّل أن ماكرون ناقش مع نظيره الجزائري ملفّ «تهدئة ذاكرة الاستعمار (الفرنسي) وحرب الجزائر»، وتناول كذلك «آخر المبادرات التي قامت بها فرنسا من أجل تهدئة ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر». وأضاف البيان أن ماكرون قال إنه «مستعدّ دائماً للعمل على هذا الموضوع مع نظيره الجزائري، خصوصاً في ما يتعلّق بالبحث عن المفقودين وتأهيل المدافن الأوروبية في الجزائر». في المقابل، لم يَذكر البيان الجزائري أيّاً من هذه النقاط المتعلّقة بمسائل الذاكرة، ما يشير إلى التباين الكبير في التعامل مع هذا الملفّ.
ولا تَنظر الجزائر عموماً بارتياح إلى بعض الخطوات الفرنسية الأخيرة المتعلّقة بالاعتذار من «الحركى» (الجزائريون الذين انحازوا إلى فرنسا خلال الثورة التحريرية)، والذين تَعتبرهم الأولى خوَنة، وكذلك «الأقدام السوداء»، وهم المستوطنون الأوروبيون في الجزائر، والذين أقام ماكرون، خلال الأسبوع الماضي، تكريماً لهم، واعتَبر أنهم وقعوا ضحايا للتهجير من موطنهم الأصلي. وأصبح الرئيس الفرنسي، في كلّ مرّة، يستحضر شيئاً من التاريخ الاستعماري الفرنسي في الجزائر، تارةً بالاعتراف بجرائم في حقّ الجزائريين، مثل الذين تعرّضوا للإبادة في تظاهرات 17 تشرين الأول 1961 في باريس على يد الشرطة الفرنسية، أو حوادث اغتيال مناضلين وطنيين جزائريين كالمحامي علي بومنجل والطبيب موريس أودان، وتارةً أخرى بالحديث عن آلام مَن كانوا في صفّ فرنسا خلال الثورة، وذلك باتّباع بعض ما ورد في تقرير المؤرّخ بن يامين ستورا حول تهدئة الذاكرة. لكنّ الجزائر، من خلال تصريحات بعض المسؤولين والمؤرّخين المقرّبين من الدوائر الرسمية، ترى أن هذا التقرير ساوى بين الضحية والجلاد، وهي لا تزال تصرّ على ضرورة الاعتذار عن كامل جرائم فرنسا في الجزائر من دون تجزئة.
وتبدو مسألة الاعتذار حالياً غير واردة في أجندة الرئيس الفرنسي، في ظلّ سعْيه للظفر بولاية رئاسية ثانية أمام منافِسين يتبنّون نظرة يمينية رافضة بالمجمل لأيّ تنازل في هذه المسألة. وتقع الجزائر، منذ أشهر، في قلْب المعركة الانتخابية في فرنسا، إذ لا يتوقّف مرشحو اليمين عن مهاجمة ماكرون في ما يتعلّق بمواقفه اتجاه الجزائر والتاريخ الاستعماري، ويحاولون جعل المهاجرين الجزائريين سبباً في أزمات فرنسا. ومن بين هؤلاء، إيريك زمور، الذي ينحدر من أصول يهودية جزائرية، ويتحدّث باستمرار بشكل مستفِزّ عن الاستعمار الفرنسي للجزائر، متجاهِلاً كلّ المجازر التي حدثت في تلك الفترة. والأمر نفسه ينطبق كذلك على مارين لوبان، سليلة جون ماري لوبان - الذي اشتُهر بتعذيب الجزائريين خلال فترة عمله في الجيش الفرنسي -، والتي هدّدت بحرمان الجزائريين المقيمين في فرنسا من تحويل أموالهم إلى بلادهم، وتتّهم ماكرون بأنه يقدّم هدايا بالمجّان للنظام الجزائري. وأمام هذا التوجُّه اليميني الطاغي في الانتخابات الفرنسية، يَظهر أن ماكرون، على رغم كلّ خلافات الجزائر معه، هو الأقلّ سوءاً من باقي المرشّحين الأقوياء، ما سرّع عملية تطبيع العلاقات. في المقابل، يُعدّ الجزائريون وأصحاب الأصول الجزائرية قوّة انتخابية كبيرة، ما يجعلها ذات تأثير يسيل لعاب المرشحّين للظفر بها، وفي مقدّمتهم ماكرون.