في سؤال عابر قبل ثلاث سنوات، سألناه إن كان سيعمل على قطع غنائية. وقتها اتسعت حدقتا عينيه قاطعاً بـ«لا». وبالفعل، كان هناك «تسجيل دخول» (2014)، و«كان يا مدينة» (2017)، و«صندوق ألعاب» (2018). لكن ما الذي حدث؟ إذ يظهر إلينا الآن ألبوم جديد «البيت الثاني» ليس بمرافقة غنائية، بل بصوت الفنان نفسه، المؤلف وعازف البيانو الفلسطيني فرج سليمان (1984). سنصدق أن الصدفة لعبت دوراً حين جرب غناء مقطع من أغنية غير مكتملة (إسا جاي) كتب بيتها الأول صديقه المسرحي عامر حليحل. يقول سليمان إنّ الموضوع بدأ كمزحة في أحد العروض التي قدمها في حيفا منذ عامين، لكن النجاح الذي لاقته هذه المزحة دفع صاحبها للتفكير جدياً بألبوم غنائي يحمل أجواء المزحة ذاتها التي سجلت وانتشرت يومها على نطاق واسع.كان في ربيعه الثالث حين لامس البيانو للمرة الأولى. والده أحضر الآلة إلى البيت، لكنها لم تنجح في إثارة الطفل وقتها. كبر الصبي بعيداً عن البيانو، كان يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم، ولأن الكرة خذلته؛ لم يعرف ماذا سيفعل بعد انتهائه من المرحلة الثانوية، اختار دراسة الموسيقى وأمام عينيه طموح متواضع يتمثل في تعليم الموسيقى بعد تخرجه. لكن الصدفة ستلعب دورها أيضاً، سيعود إلى اكتشاف الآلة التي هجرها سابقاً، وكما حلم بلعب الكرة، سيبدأ الصبي باللعب، لكن على البيانو.

يعلن سليمان عن تجربة جديدة في رحلة بدأها منذ أعوام لتطوير مفردته الموسيقية والبحث عن لغة وهوية خاصة

تعلم البيانو في الـ١٨ وهو سن متأخرة وتحدّ كبير لآلة تتطلب قدراً من التقنية. نأخذ جولة في ألبوماته السابقة لنعثر على تطور ملحوظ في العزف والأفكار اللحنية والتوزيع. تطور ينبع من موسيقي «شغيل» يصرف ساعات طويلة أمام آلته، وصاحب رأس يضج بالألحان، وباللعب، لعب الطفولة، وخفة لاعب كرة القدم الذي حلم به يوماً... كل ذلك سيعبّر عنه في ألبومه الجديد «البيت الثاني». سيستعين سليمان بأصدقائه لكتابة كلمات الألبوم، وبفرقته التي أسسها في باريس حيث يقيم منذ عامين: ترومبيت جوليان ألور، ودرامز بابتيست دو شابانيه، وغيتار أنطونان فريسّو وبيس غيتار كوم أغيار.
عنوان الألبوم لن نجده من ضمن الأغاني كما درجت العادة عند إعطاء عناوين للألبومات، بل هو إشارة إلى البيت الثاني لأغنية «إسا جاي» التي لم تكتمل، والتي كان انتشارها دافعاً أساسياً لإنتاج الألبوم الذي ضم ثماني أغانٍ بلهجة فلسطينية كتبتها مجموعة من أصدقاء الفنان القادمين من الأدب والمسرح، إلى جانب قطعتين موسيقيتين. كلمات خفيفة بسيطة متحررة تغرف من الحياة اليومية؛ كتبها أصحابها خصيصاً لصديقهم الذي سيدمجها مع الجاز والموسيقى العربية.
يبدأ الألبوم بأغنية «شارع الجبل» (كلمات مجد كيال) التي تحمل اسم شارع شهير في حيفا غيّر الاحتلال اسمه، وما زال يعرف لدى أصحاب المدينة بـ «شارع الجبل». الأغنية يفتتحها الترومبيت بالجملة الأساسية، لينطلق بعدها صوت سليمان مع البيانو «بجرب أكتب عسطر رقصة أفاعي» يحضر الدرامز مع الغيتار لتتآلف الآلات جميعها، بتوزيع لافت، يختلط فيه الجاز مع المجاز «ع كل حفة درج في حيفا تكسر كعب/ في كل حارة ولد بيحلم يربي كلب… حشاش زارع في بيتو خيبة أمل/ بحّار خايف متخبّي عَ راس الجبل».
في «واطحن بقلبك بن»، تنسحب الآلات في بداية الأغنية لتفسح المجال لصوت سليمان مع البيانو فقط. أغنية تحمل مسحة حزن لتحكي عن الغياب والغربة، كتبها الشاعر السوري عدنان العودة: «واطحن بقلبك بن وابكي دمع من هال يوم اللي انت تحن/ ما هن ما عادوا انت ولا انت ما عدت هن». يظهر الترومبيت والدرامز في منتصف الأغنية، ليعطيا دفقة من المشاعر والطاقة. يسكت المغني وتلعب جميع الآلات، ليعودوا لإكمال مقطع ثان تتّحد به كل الأصوات لتنسحب بعدها تدريجاً وتنتهي الأغنية كما بدأت.
يذكّرنا الألبوم بزياد رحباني وريم بنا وخالد الهبر وابراهيم معلوف لكن من دون الوقوع في فخ المحاكاة


«إسا جاي» التي يعود إليها فكرة وفضل إنجاز الألبوم، سيحافظ الفنان عليها كما كانت. لن يغيّر فيها شيئاً، ستنسحب جميع الآلات وسيبقى صوت سليمان مع البيانو يغني البيت الوحيد الذي كتبه عامر حليحل قبل عامين: «اسّا جاي؟ بعد ما خلص العنب/ ونبيذه نشف عالكباي؟». أما في «إنت كيف» (كلمات عامر حليحل)، فينطلق الغيتار والدرامز، ليبدأ سليمان أغنية يرد فيها على أغنية فيروز الشهيرة «كيفك إنت» بتوزيع موفّق مع الترومبيت والبيانو: «وإمك كيف كان الشيطان متلبسا؟/ وبوزها عالناحتين… كان بارم شبرين/ ساعتين لا دُقت قهوة ولا قطّين! انت كيف؟». وفي «حب»، يغيب الغناء ليفسح المجال لعود العازف الفلسطيني حبيب حنا وبيانو سليمان، تارة بتناوب وأخرى بتقاطع، مع إيقاع الدرامز الذي يرافق كامل القطعة التي ستذكرنا بالطفولة. تهرب جملة من القطعة فتذكرنا بأغنية ماجدة الرومي «طيري طيري يا عصفورة» لتجعلنا نتساءل: هل هي إشارة مقصودة أم جملة ظلت عالقة في ذهن الفنان لتخرج في هذه القطعة. أما في أغنية «الحب أنت»، فسيضع حبيب حنا عوده جانباً ويكتب كلمات الأغنية: «لما التقينا/ في شي بدي وراحت معه/ كل النظرات/ الا عيونك». البطولة هنا للبيانو الذي يتولى اللحن والإيقاع بتدخلات بسيطة من الترومبيت والبيس غيتار.
ويعود مجد كيال ليكتب كلمات «عرض زواج» التي ينطلق فيها الدرامز، معلناً عن أغنية مرحة وسريعة، تتشارك فيها الآلات الأربع ليقدم لنا سليمان عرضه السخي: «بدي بنتك تفهم مني كيف منصلحو للبنشر/ بدي بنتك تعرف مني كيف انحرقت الماركاف (دبابة إسرائيلية)... بدي نوكل أكل بايت/ بدي نصير نكسِّل نجلي/ بدي كل يوم نبدا دايت أو نشرب بابونج مغلي».
في «رغم الفشل» (كلمات عامر حليحل)، سيتخلى سليمان عن الآلات المرافقة وسيغني بصحبة البيانو: «خلصت القناني/ وعتقت الاغاني/ وخرب سحاب الجزدان/ وما عاد انكوت القمصان» في أغنية تشبه البكائية ولكن بكلمات ساخرة.
وفي أغنية بعنوان «الندم» (كلمات بشار مرقص)، ينتفي الندم ليحتفي سليمان بأخطائه «غلطاتي حلوة حلوة كتير - شو فخور فيها/ غلطاتي حلوة وشو بصير - اذا إرضيت فيها». أغنية تبدأ سريعة بصحبة الغيتار والدرامز يعطيها الترومبيت صخباً دراماتيكياً. أما القطعة الأخيرة «يوم الي إنت اتحن»، فيعود سليمان إلى أغنية «واطحن بقلبك بن» لتُلعب بدون غناء، وبتوزيع تشترك فيه كل الآلات ليحتل فيها الترومبيت الواجهة، معلناً نهاية موفقة للألبوم.
سنجد في الألبوم جمل لحنية تعلق في الذهن نعم، ومفاجآت وتحويلات في اللحن والإيقاع أنقذت بعض القطع من التكرار والرتابة وجعلتها ديناميكية أكثر. التقشف في الآلات يعكس حذاقة واعدة في التوزيع والتأليف بدون مؤثرات الديجيتال. أصوات «البيت الثاني» سمعناها سابقاً؟ بالطبع، وربما من المبكر الحديث عن شيء جديد. كما أن الجديد ليس بالضرورة أن يكون معياراً أساسياً لنجاح أي عمل فني. قد نجد في الألبوم زياد رحباني وريم بنا وخالد الهبر وابراهيم معلوف... سيذكرنا العمل بكل تلك الأسماء التي تأثر بها الفنان ربما، لكن بدون الوقوع في فخ المحاكاة. في ألبومه الجديد، يعلن سليمان عن تجربة موسيقية جديدة ضمن رحلة بدأها منذ أعوام لتطوير مفردته الموسيقية والبحث عن لغة وهوية خاصة. تجربة ستدفعنا بحماس؛ إلى انتظار ما بعد هذا «البيت الثاني».