في مصادفة جميلة، نشهد استعادةً عربيّة هذا العام لأعمال الباحث الأميركيّ في الميثولوجيا جوزيف كامبل. صدرتْ بالتّزامن تقريباً ترجماتٌ لثلاثة كتب له: «البطل بألف وجه» (منشورات تكوين، ترجمة محمد جمال)، «سُبُل النّعيم» (دار نينوى، ترجمة نور الحريري)، و«أساطير نحيا بها» (دار فواصل، ترجمة أحمد م. أحمد). ستقتصر هذه المراجعة على الكتاب الأخير الذي يعدّه قرّاء كثيرون أفضل مدخل إلى أعمال هذا الباحث الذي كان اسمه (وما يزال) مهيمناً بدرجة كبيرة في حقل باحثي الميثولوجيا منذ خمسينيّات القرن الماضي. لعلّه الأشهر بينهم، ولكنّه ليس الأفضل بالضّرورة، على الأخص في ميثولوجيا حضارات الشّرق التي اعتمد بدرجةٍ كبيرةٍ في التّنظير فيها على أعمال باحثين هنود وصينيّين ويابانيّين لم تُكتَب لهم شهرته. ولكن هذا بحثٌ آخر ليس هذا مكان التفصيل فيه، وإنْ تبدّى لنا شيءٌ منه في كتاب «أساطير نحيا بها».من بين قرابة خمس وعشرين محاضرة ألقاها كامبل في برنامج «محاضرات منتدى جمعيّة كوبر» الأميركيّ بين عامي 1958 و1971، انتقى الباحث «دزّينة خبّاز» منها، كما يقول الإنكليز: أي ثلاث عشرة محاضرة، دمج اثنتين منها في محاضرة واحدة، ونشر الكتاب عام 1972. العنوان الذي اختاره كامبل فضفاض بعض الشيء، لأنّه لا يُحدّد مُراد الباحث بدقّة، إذ نجد عناوين عديدة يكاد لا يربط بينها رابط باستثناء إيراد بعض الأمثلة الميثولوجيّة فيها. تتناول المحاضرات موضوعات كثيرة: من الدين والأسطورة والعلاقة بينهما، إلى بحثٍ تفصيليّ بعض الشيء في الفروق بين الشرق والغرب، إلى الفن والرسم، وفلسفة الزن، وميثولوجيات الحب والحرب، وصولاً إلى الفصام وغزو الفضاء.


يبدو كامبل في أقصى درجات ثقته وعلمه حين يتحدّث عن الأساطير والملاحم الغربيّة وعن الأعمال الأدبيّة الحديثة التي استُمدّت منها، أكانت «كوميديا» دانتي أو روايات جيمس جويس أو توماس مان. ونتحسّر أحياناً حين لا يُسهب في التّحليل وفي تبيان العلاقة بين تلك الأعمال وبين سياقها الاجتماعيّ والسياسيّ والأخلاقيّ في العالم الغربيّ من الثلاثينيّات إلى الستينيّات. لكنّ ذلك الألق يبهت كلّما دنا كامبل من الشرق، إذ يقع في فخّ التّنميط الغربيّ للشّرق، وفي مأزق الانتقاء الاعتباطيّ للأساطير كي تلائم الفكرة التي يودّ معالجتها. ينزع كامبل سياق الميثولوجيات الشرقيّة فيُجرّدها من معناها أو يُغيّره أحياناً، فيما يُبقي سياق الأساطير الغربيّة، على الأخص حين يعقد مقارنات غريبة بين نصوص قديمة وحديثة، ويُعمّم نتائجه لتشمل حضارة أو حضارات بأكملها، كما فعل حينما قارَنَ بين نصوص الأوبنشاد الهنديّة وبين «الكوميديا الإلهيّة» والروايات الغربيّة، كي يصل إلى نتيجة مفادها أنّ الغرب منح الفرد تفرّداً شخصيّاً، بينما الشرق (كلُّ الشرق) لا يتعامل مع الفرد إلا بكونه جزءاً من جماعة، متناسياً أنّ الفاصل الزمنيّ بين طرفي المقارنة يصل إلى 1500 عام أحياناً، ومتجاهلاً أنّ معنى الفرد ومقوّماته وتفرّداته لا تُعطي المعنى ذاته شرقاً وغرباً. لكنّ هذا كلّه لن يُشكّل فارقاً حين تكون الخُلاصة التي يودّ كامبل الوصول إليها هي أنّ «[حقوق الفرد وحريّته] هي «الشيء الجديد» العظيم حقاً الذي نُمثّله للعالم وذلك ما يُشكّل جهرنا الغربيّ بالمثال الأعلى الإنسانيّ الروحيّ على أكمل وجه، الصحيح إلى أقصى إمكانيّة جنسنا البشريّ».
وحينما تنتأ مشكلة تُخرِّب على كامبل نتيجته التّعميميّة، فإنّه يلجأ إلى فبركة تقسيم اعتباطيّ للشرق والغرب كي يمنح تناغماً زائفاً لطروحاته. فالخط الفاصل بين الشرق وبين الغرب يشقّ إيران بحيث يكون يمينها شرقاً (الهند والشرق الأقصى)، ويسارها شرقاً آخر، لكنّه بات غرباً (المشرق وأوروبا). وبذا نزع كامبل من حضارات حوض المتوسط شرقيّتها ودمجها بغربٍ مُتخيَّل هو أوروبا التي لم تكن قد ولدت أصلاً حين قامت الحضارات القديمة.
يغفل كامبل عن تقسيمه الاعتباطيّ هذا حين يتورّط بمقارنة بين «سِفْر أيوب» ومسرحيّة «برومثيوس مغلولاً» المنسوبة إلى أسخولوس. بحسب تقسيمه السابق، نحن أمام نصّين متزامنين من ثقافتين «غربيّتين» (مع أنّ اليونان لم تُحسَم غربيّتها أصلاً، عدا عن أنّ «العهد القديم» ليس غربياً)، ولكنّه يُقلِّل من قيمة أيّوب الخانع أمام قوّة يهوه، ويُعلي من شأن برومثيوس الذي تمرّد على زيوس، مشيراً في عبارةٍ هازئة: «واليوم نُسلّم بذلك في قلوبنا، ولو أنّ ألسنتنا تعلّمت أن تلهج سعيدةً بذكر أيّوب». ليس هذا مجال البحث في مدى صحّة تأويل «سِفر أيّوب»، ولكنّ كامبل يتناسى أنّ برومثيوس ليس متمرّداً إلى هذه الدرجة، وأنّ صراعه مع زيوس محضُ نزاع بين آلهة وأنصاف آلهة، لا معنى لمقارنته مع «نزاع» بين آلهة وبشر. ولكنّنا سنفهم هذه التحيّزات الكامبليّة لأنّ كامبل (وهذا يدعو للصّدمة من باحث في الميثولوجيا) يتعامل مع الميثولوجيا بوصفها خرافات، لا بوصفها محاولات لعقلنة اللاعقلانيّ؛ عدا عن أهوائه الرافضة للدين والتي تؤثّر سلباً على فهمه للأساطير ولتأويله لها. بالمقارنة، لن نجد هذا الاستخفاف لدى الرعيل الأول من باحثي الميثولوجيا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مثل فردرش ماكس مولر، حيث كان انفتاحهم الدينيّ وسيلةً لفهمٍ أعمق لتلك الميثولوجيات الشرقيّة، حين كانوا يبحثون عن المشترك بين الميثولوجيات بغية استيعاب الفوارق.
ينزع سياق الميثولوجيات الشرقيّة فيُجرّدها من معناها أو يُغيّره أحياناً


وفي المقابل، وبسبب جهل كامبل باللغات الشرقيّة وبتنوّع فلسفاتها (يتحدّث كامبل عن هندوسيّة واحدة وعن بوذيّة واحدة طامساً الفروق الهائلة بين المدارس الفلسفيّة/ الدينيّة الكثيرة)، سنجد أنّ أضعف فصلين من فصول الكتاب هما الفصلان المتّصلان بالشّرق اتّصالاً تاماً: «إلهام الفن الشرقيّ»، و«الزن»، وهما مجالان تخصّصيان برع فيهما خبيران شرقيّان لم ينالا شهرة كامبل لأسباب كثيرة: د. ت. سوزوكي في فلسفة الزن، وأناندا كوماراسوامي في الفنّ الهنديّ. ومن هنا بالذات، ندرك أهميّة ترجمة الأعمال التي كتبها أبناء تلك الحضارات لأنّهم أدرى بشؤون فلسفاتهم، على أهميّة طروحات مرتشيا إلياده وجوزيف كامبل وغيرهما من الخبراء الغربيّين.
«أساطير نحيا بها» كتاب هام يستحق الترجمة والقراءة بلا شك، إذ يقدّم طروحات عديدة بعضها لم تقدَّم بالعربيّة من قبل عن الأسطورة ومعناها ودورها في الحياة. ولكنّه – مثل معظم الكتب الغربيّة – لا يخلو من تحيّزات وأفكار مغلوطة عن ثقافات وحضارات لاقتْ تنميطات وتعميمات برغم تنوّعها الهائل وبرغم التّباين الشّاسع، والتّعارض أحياناً، بين فلسفاتها.