كافكا الروسي أخيراً بلغة الضاد: أندريه بلاتونوف... صوت الملعونين في الأرض ■ بدءاً من أواخر الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، أُطلق سراح روايات أندريه بلاتونوف، بعد رقابة طويلة، لكنه بقي مجهولاً عربياً حتى وقت قريب، باستثناء بعض ترجمات القصص القصيرة، ما هو السبب برأيك؟
ـــ لغة الكاتب العصية على الفهم، ناهيك عن الترجمة.

بلاتونوف عاش في مدينة قد تعتبر هامشية، وهي فورونيج (جنوباً) البعيدة نسبياً، عن مراكز الإشعاع الفكري مثل بطرسبورغ وموسكو. عايش بالمعنى الحرفي للكلمة الشرائح الاجتماعية التي كتب عنها. جاءت لغته لغتها، بعدما أغناها وأثراها برمزيته المميزة وتعبيريته المدهشة، فصارت أكثر تنوعاً وإيحاءً حتى من لغة أعلام الأدب الكلاسيكي الروسي في عصره الذهبي (القرن التاسع عشر). يقول بعض من تعاملوا مع هذه اللغة من الباحثين والمترجمين، والعهدة على القائل، إنها أصعب من لغة بوشكين ربما بعشر مرات، وأصعب من لغة دوستويفسكي ربما بخمس مرات! رمزية بلاتونوف تختلف. إنها أكثر تعقيداً وأكثر شفافية في الوقت ذاته. وهي ليست من طراز الرمزية البدائية التي تستعين بـ «إيسوب» وتستخدم لغة الحيوان، كما يفعل الكتاب عادة في عهود الاستبداد. هو لم ينعت الحاكم بالثعبان، والمحكوم بالأرنب كما فعل الكاتب الروسي فاضل إسكندر في قصته الفلسفية الطويلة «الأرانب والثعابين» التي يحاكي فيها ابن المقفع. بلاتونوف يقدم صورة أو حادثاً أو مشهداً تتزاحم فيه الألغاز، ولك أن تفكّ رموزها على هواك، إلا أنك تصل في النهاية إلى مبتغى الكاتب شئت أم أبيت. ذلك هو سر عبقرية بلاتونوف ومصدر الإعجاز في كتاباته. الإعجاز عند بلاتونوف مزدوج: لغوي في الأسلوب ومعنوي في المضمون في آن. فكيف لك أيها الحمّال المسكين (المترجم) أن تنقل هذه الحقيبة الفكرية الغامضة من محطة القطار الروسي الصاعد (أو النازل) إلى جزيرة العرب؟!

■ لقد ترجمتَ أعمالاً لبعض الكتاب السوفيات مثل «رحى الحرب» لقسطنطين سيمونوف، كيف اهتديت إلى أندريه بلاتونوف، وما الذي دفعك إلى ترجمة رواياته؟
ــ لا أحد من المترجمين العرب المقيمين في روسيا، وأنا مقيم هنا منذ عام 1960، كان يستطيع أن يتملص من ترجمة «الكتب السوفياتية». الدولة التي توفر لهم الإقامة، تتولى شؤون الطباعة والنشر حصراً، وهذا معروف. «رحى الحرب» هي الجزء الثاني من ثلاثية سيمونوف «الأحياء والأموات» بخمسة مجلدات، وعدد صفحات الترجمة العربية يتجاوز الألفين. وأنا الآن، بعد مرور سنين، أشعر ببعض الأسف لأنني ضيعت شبابي عليها وعلى غيرها. يومها كنت أحلم بدوستويفسكي، إلا أن الناشرين العرب، سامحهم الله، حولوا هذا الكاتب العظيم إلى بقرة حلوب. فعمد إلى ترجمته مع باقي أساطين الأدب الروسي كل من هب ودب من غير الملمين باللغة الروسية، حتى آل الأمر أخيراً إلى فرض احتكار على ترجمة روايات دوستويفسكي عن الفرنسية. وما كانت السلطات السوفياتية ساعتها تشجع كثيراً على نشر كتابات الروائيين الروس بسبب تعارضها عموماً مع توجهات السوفيات. فكنا نحن المترجمين العرب نتحسر ونترحم على عمالقة الأدب الروسي. وعندما بدأت حركة التصحيح وحصل الانفراج في منتصف الثمانينيات على يد ميخائيل غورباتشوف، ترجمت أنا لكاتب يشبه بلاتونوف من نواح عدة، وأعني فاسيلي شوكشين «العناقيد الحمراء وقصص أخرى». ثم بدأت بترجمة «الأشباح» غير عابئ بالصعاب. وبعدها عكفت على ترجمة «الحفرة»، و«بحر الصبا». وكانت تلك تجربة «مريرة» استغرقت سنوات عدة أعتبرها من أعز سنوات العمر. ذلك أن بلاتونوف، برأيي، هو الكاتب الأكثر استحقاقاً وجدارة بالمطالعة إذا كنا نعتبر أنفسنا من المثقفين.

■ لماذا اخترت «الحفرة»، و«بحر الصبا»، و«الأشباح» لنقلها إلى العربية أولاً مع أن للكاتب أعمالاً مهمة أخرى مثل «موسكو السعيدة» و«تشيفينغور»؟ هل هناك مشروع لترجمتهما لاحقاً؟
ــ لا أعرف سبباً واضحاً لهذا الاختيار، لعله جاء من تلقاء ذاته في تلك الظروف. «الحفرة» تجسد السقوط والانهيار. والظروف آنذاك شهدت السقوط والانهيار على أرض الواقع، فيما دفن بلاتونوف الاتحاد السوفياتي في «الحفرة» قبل ستين عاماً من تفككه الفعلي. ثم إنّ النقاد مجمعون على أن الروايات الثلاث قمة في الأدب الروسي. من ناحية أخرى تتميز هذه الروايات ربما بالاعتدال في الانتقاد المبطن للنظام، وبالتالي فهي أدب خالص ليس فيه من السياسة شيء. أما «تشيفينغور» التي هي أضخم مؤلفات بلاتونوف، ويصح أن نترجم هذا العنوان بــ «المدينة الشيوعية الفاضلة»، فهي عبارة عن وعاء مفعم بالتهكم والانتقاد اللاذع، فيما تمثل «موسكو السعيدة» رواية سريالية أكثر من باقي مؤلفات الكاتب. ففيها تتشابك أحلام المنام العجيبة مع الواقع الذي لا يقل عنها غرابة في ثنائية مزدوجة. اثنان في واحد. موسكو، في الرواية، فتاة ومدينة في آن. الشخصية الرئيسية فيها، واسمها موسكو (والأصح موسكفا) تشيسنوفا، تعتبر نفسها سعيدة، إلا أنها تغدو معوقة في آخر الأمر. لن تكون ترجمة هكذا نصوص أسهل من غيرها على المترجم العربي. شخصياً ليس لدي مشروع لترجمة الروايتين، ولعل أحد المترجمين الشباب سينهض بهذه المهمة العسيرة.

لغته أصعب من لغة بوشكين ودوستويفسكي، ورمزيته أكثر تعقيداً وشفافية في الوقت ذاته

■ هناك نوع من تعديل العناوين الأصلية للكتب مثل «حفرة الأساس» التي أصبحت «الحفرة»، و«روح/ الجان» وقد صارت «أشباح»، هل لهذا التغيير علاقة بمعنى الرواية كما تلمسها الكاتب، أم هناك سبب آخر؟
ــ كثيرون يأخذون عليّ تعديل عناوين الكتب التي أترجمها. وكي تتضح الصورة، أورد هنا بعض تلك التعديلات، بناءً على أن العنوان الموفق في لغة قد لا يكون موفقاً في لغة أخرى: «رحى الحرب» لسيمونوف، عنوانها الأصلي هو «البشر لا يولدون جنوداً»، و«الهارب» لفالنتين راسبوتين ــ «عش وتذكر»، و«الأمير الأعرج» لألكسي تولستوي ــ «السيد الأعرج»، و«العناقيد الحمراء» لفاسيلي شوكشين ـــ «الغبيراء الحمراء»، و«الأشباح» لبلاتونوف ـــ «الجان»، و«الحفرة» لبلاتونوف ــ «حفرة الأساس». وقد مضى الصحافي فالح الحُمراني إلى أبعد («القدس العربي»، عدد 22/11/2016)، فهو يقول إن استخدام مفردة «الحفرة» بدلاً من العنوان الأصلي «حفرة الأساس» تعسف صارخ ضد بلاتونوف. ويعلن حكماً قاطعاً على الترجمة: «ليس هكذا يترجم أندريه بلاتونوف». وفي هذا الحكم القطعي تحدٍّ كبير من شخص لم يترجم لا لبلاتونوف ولا لغيره من الأعلام، كونه يعمل في مجال الإعلام. ويلمح السيد الحمراني إلى أن غرور المترجم هو الدافع الخفي لتغيير العناوين الأصلية. ويدلل على رأيه بإيراد الكلمة الروسية «ياما» التي تعني، فيما تعني، الحفرة والنقرة والوهدة والهوة والمطب والخسفة والفجوة والثغرة وما إلى ذلك، مشدداً على أن بلاتونوف لم يستعملها، بل عنون روايته بمصطلح «كوتلوفان» الذي يطلق عادة على «حفرة الأساس» بالمعنى الهندسي المعماري. وتذكرت بهذا الخصوص النكتة السورية: «ماذا تفعل بالجريدة يا شيخ؟» ــ «قاعد عَ نقرة». يبدو أن السيد الحمراني لم «يقرأ» الفارق في استعمال كلمتي «الحفرة» و«النقرة». وقد استخدمت أنا كلمة «الحفرة» بإيحاء من رمزية بلاتونوف في إشارة إلى تحول حفرة الأساس إلى حفرة قبر. كما تذكرت، بشأن الكلام عن «التعسف» في الترجمة، قول أحد زملائنا الروائيين الملمين جيداً باللغة الروسية عندما صدرت «العناقيد الحمراء» في أواخر الثمانينيات: «خيري حطم شوكشين». وبالنسبة إلى «الأشباح»، فقد جاء تغيير العنوان استناداً إلى تلميح بلاتونوف بأن بطلها الرئيسي «شبح ... يسير خلفه أناس لا وجود لهم تقريباً».

■ تعيش شخصيات أندريه بلاتونوف على مسرح سوفياتي. لكن هذا القالب الواقعي في الظاهر، يتلقف بسهولة كوابيس بلاتونوف وغرائبية بعض الأحداث ورمزياتها الممزوجة بإشكاليات فلسفية وإنسانية وسياسية ونفسية عميقة. كيف استطعت أن تحافظ على هذه العناصر أو الطبقات في ترجمتك؟
ــ وهل استطعتُ يا ترى؟ هذا أكثر ما يتمناه المترجم، أي مترجم. أحياناً أكون مسكوناً لعدة أيام بهذه الشخصية الروائية أو تلك، (وحتى بعبارة أو مفردة واحدة)، وأحياناً أتقمص تلك الشخصية وأتفاعل معها ليل نهار وأنا أبحث عن الوسيلة المناسبة لنقل ما يعتمل في نفسها إلى العربية التي تخلق لي بدورها مشاكل إضافية من طراز آخر. والحقيقة تلك عملية يتعذر توصيفها. لا أريد أن أتحدث هنا عن الإلهام، فهو، في الترجمة، أسطورة. ولعل الأنسب أن نتكلم عن النجاح بالصدفة. فالمترجم يبقى، على أي حال، «حمّالاً» ينقل أفكار الغير وليست له أفكاره.

■ ما أهمية قراءة أندريه بلاتونوف اليوم؟
ـــ نتاج بلاتونوف أدب عالمي، لا أدب مناسبات حتى نتحدث عن أهميته في هذه الفترة أو تلك، ولا تقاس تلك الأهمية بعقود من السنين. كانت الثغرة واسعة في ثقافة القارئ العربي في غياب بلاتونوف كل هذه السنين. فانتخت «دار سؤال» اللبنانية مشكورة لسد هذا الفراغ بإصدار ثلاث روايات للكاتب دفعة واحدة. وهذا بحد ذاته إنجاز للدار الفتية يرقى إلى مستوى المأثرة.