منذ بداية الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، هناك ترقّب لما ستقوم به أوروبا في مواجهة احتمالات النقص في إمدادت الغاز، ولا سيما أن 40% من كميات الغاز المستهلك في أوروبا هي روسية. قدوم الشتاء يُعدّ محورياً في هذا المجال، ولا سيما بالنسبة إلى التدفئة، إذ إن فصل الشتاء في أوروبا يكون قاسياً ومصحوباً بالثلوج لفترة طويلة. فالمشاركة الأوروبية في العقوبات على روسيا، نسفت العلاقات المستقرّة طاقوياً بينهما. أوروبا أدركت ذلك، إنما لم تبادر إلى تصحيح العلاقة بسبب رغبتها في علاقة أفضل مع أميركا، ولم تستطع أيضاً تجنّب تداعيات انهيار العلاقة مع روسيا، ما دفعها إلى البحث عن بدائل للغاز الروسي، مثل التحوّل إلى الطاقة النظيفة وإيجاد مصادر جديدة للغاز، والاعتماد بشكل أكبر على الغاز المسال عبر توسيع قدرة إعادة التغويز لديها. إلا أن هذه الحلول تحتاج إلى وقت طويل للتطبيق، والوقت هو رفاهية لا تملكها أوروبا الآن.
القدرة التخزينية
لجأت أوروبا، بشكل عاجل، إلى مراكمة الغاز المسيّل في منشآتها التخزينيّة التي تبلغ سعتها نحو 107 مليارات متر مكعب. وحتى الآن استطاعت القارّة العجوز أن تملأ 82% من سعة التخزين هذه، أي نحو 87 مليار متر مكعب. يتوزّع هذا المخزون على 18 دولة تملك منشآت تخزين في الاتحاد الأوروبي. وأكبر المنشآت بينها، موجودة في ألمانيا بقدرة استيعابية تبلغ 22% من القدرة التخزينية في كل أوروبا، أي نحو 23 مليار و700 مليون متر مكعب، وفيها حتى الآن نحو 20.5 مليار متر مكعب من الغاز.


لكنّ الاعتماد على القدرة التخزينية وحده لا يكفي لتغطية حاجات أوروبا. فبحسب البيانات الموجودة على موقع المفوّضية الأوروبية «Eurostat»، تبيّن أنه في موسم الشتاء، الذي يمتدّ من شهر تشرين الثاني إلى شهر نيسان، استهلكت دول الاتحاد الأوروبي، في شتاء 2020 - 2019، نحو 216 مليار متر مكعب من الغاز. وفي شتاء 2021 - 2020 استهلكت نحو 223 مليار متر مكعب من الغاز. أما في شتاء 2022 - 2021 فاستهلكت نحو 221 مليار متر مكعب من الغاز.
ما تعنيه هذه الأرقام أن احتياطي الغاز الموجود لفصل الشتاء الذي يبدأ في تشرين الثاني 2022، لا يكفي لأكثر من شهرين حتى إذا امتلأت كل كهوف تخزين الغاز بنسبة 100%، وهذا على افتراض أن أوروبا ستعتمد على احتياطات الغاز حصراً. إنما هي تملك مصادر أخرى للغاز، مثل النروج والجزائر والغاز المسيّل، وبإمكانها الاعتماد على مصادر أخرى من الطاقة مثل النفط والفحم والطاقة المتجددة. لكن مع توقّف خط «نورد ستريم 1» عن العمل كلياً الأسبوع الماضي ملتحقاً بأغلبيّة خطوط الإمداد الروسيّة، من الواضح أن البدائل المتاحة غير كافية لتغطية العجز الذي تركه الغاز الروسي، لأن دول الاتحاد لا تزال تعيش حالة طوارئ بحثاً عن بدائل إضافيّة.

التضخّم إلى الانفجار
المشكلة لا تقف فقط عند تأمين البدائل، بل تمتدّ إلى ارتفاع أسعار الطاقة على المستهلك الأوروبي، سواء على الأسر أو المؤسسات. ولهذا الأمر انعكاسات على مختلف الأوجه الاقتصادية. فارتفاع أسعار الطاقة يعني ارتفاعاً في أسعار معظم السلع والخدمات، ما يعني زيادة في معدلات التضخّم. علماً أن الاتحاد الأوروبي يعيش أصلاً في ظروف تضخميّة اضطرته إلى رفع أسعار الفائدة مرتين متتاليتين، آخرهما الأسبوع الماضي، وتهاوت قيمة العملة الأوروبية إلى أدنى مستوى تاريخي لها مقابل الدولار.
ويعود ارتفاع أسعار الطاقة إلى ارتفاع سعر الغاز في أوروبا بنحو أربع مرات، وذلك بسبب توقّع الأسواق أن انقطاع الغاز الروسي عن الأسواق الأوروبيّة سيسهم في الحدّ من العرض المتاح في السوق. ومن ناحية أخرى، ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير، أيضاً بفعل تأثّر الأسواق بالعقوبات على النفط الروسي، ثالث أكبر مورّد إلى العالم.
على صعيد التضخّم، فبالاضافة إلى الأكلاف المباشرة لارتفاع أسعار الطاقة على المستهلك، مثل الكهرباء والنقل وغيرهما، تُعدّ الطاقة مدخلاً أساسياً في كل قطاعات الإنتاج، كما أنه يزيد من أكلاف النقل والتخزين. بمعنى آخر، إن ارتفاع أسعار الطاقة يعني ارتفاع أسعار السلع الأخرى بشكل تلقائي. وانعكاس هذا الأمر ثقيل على الأسر الأوروبيّة، فبحسب «بلومبرغ» إن متوسط تسعيرة الكهرباء للأسر في أوروبا لشهر آب أصبح 35.9 سنت كيلواط/ساعة، أما تسعيرة الغاز (وهي تسعيرة التدفئة) فأصبحت 16.8 سنت كيلواط/ساعة، وهو ما يمثّل ارتفاعاً للكهرباء بنسبة 67% مقارنة بأسعار العام الماضي وبنسبة 114% للغاز. وهذه الأرقام تظهر النتائج المباشرة فقط لارتفاع أسعار الطاقة.

ركود اقتصادي قادم؟
تستهلك أوروبا نحو 502 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، يُستخدم 32% منها لتوليد الطاقة و26% منها للصناعة و38% لإمداد المباني السكنية والتجارية. يُظهر هذا الأمر اعتماد المصانع الأوروبيّة بشكل كبير على الغاز، لذا، إن ارتفاع أسعار الغاز أربعة أضعاف، يُعدّ أزمة حقيقيّة للصناعات التي تعتمد على الطاقة، مثل مصانع الأسمدة، والزجاج، وقطع السيارات وغيرها. وهو ما يمثّل خطراً على استمرار عملها. فعلى سبيل المثال أعلنت شركة «يارا» النروجية، وهي أحد أكبر منتجي الأسمدة في العالم وثاني أكبر منتج للـ«أمونيا»، أعلنت عن تقليص إنتاجها للـ«أمونيا» والـ«يوريا» إلى أقل من 50% من قدرتها الإنتاجيّة، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وبالتالي أكلاف الإنتاج. وتجدر الإشارة إلى أن الأسمدة النتروجينية تعتمد بشكل كبير على الغاز في صناعتها بنسبة 80%. وهذا مثل واحد فقط من أحد الصناعات المهمّة، التي تؤثّر على القطاع الزراعي أيضاً. فمن المتوقّع أن تنتشر هذه الظاهرة في قطاعات صناعية أخرى، ما يهدد بإقفال الكثير من المصانع، وحتى المؤسّسات الصغيرة التي بدأت تعاني فعلياً من ارتفاع فواتير الكهرباء. إذا ما حدث ذلك، تنتظر أوروبا موجات من فقدان الأعمال، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الإنتاج، وبالتالي انكماش في حجم الاقتصاد، أي ركود محتّم.
الاتحاد الأوروبي قرّر دعم استهلاك الطاقة بـ375 مليار يورو سيضخّها المصرف المركزي الأوروبي


عملياً، لا تملك أوروبا خيارات كثيرة للتعامل مع الوضع. هي الآن تسعى أولاً لتأمين إمدادات الطاقة التي تكفيها «لتمرير» الشتاء بأقلّ الأضرار. لكنّ الأزمة الكبرى لديها هي في أسعار الطاقة المتزايدة، ولا سيّما أسعار الغاز. الخيار المتاح الأقرب لها هو تقديم الدعم المباشر للطاقة، وهي بالفعل بدأت بتطبيق ذلك عبر حزمة دعم الطاقة التي تبلغ قيمتها 375 مليار يورو. لكنّ هذا الخيار كلفته عالية على الحكومات، وحتى على المصرف المركزي الأوروبي، الذي سيجد نفسه مضطراً لطباعة الأموال لتغطية هذا الحجم الهائل من التمويل، مع ما يعنيه ذلك من مخاطر تضخّمية تضاف إلى الظروف التضخميّة التي تعيشها أوروبا اليوم. أما الخيار الآخر فهو الجلوس على الطاولة مع روسيا للتفاوض على إعادة إمدادها بالغاز، وهو أمر لن يحصل. في الواقع، أوروبا اتخذت قرار تحميل شعوبها ظروفاً بعيدة عن رفاهيتها التي اعتادت عليها، وهو ثمن قرار سياسي بمواجهة روسيا، وهي الآن تحصد نتائج هذا الخيار.



ترشيد الطاقة أوروبياً: لا لروسيا نعم لأوكرانيا
رغم أن الأرباح الإجمالية لشركات إنتاج الغاز والنفط في الربع الأول من عام 2022 سجّلت نحو 100 مليار دولار، إلا أن الوكالة الدولية للطاقة والمفوّضية الأوروبية، ارتأتا أن تفرضا ضرائب غير مباشرة على شكل إرشادات للمواطنين الأوروبيين بعنوان: «كيف تساهم في توفير المال، تخفيف الاتكال على الطاقة الروسية، دعم أوكرانيا، ومساعدة الكوكب».
وبحسب الوكالة الدولية للطاقة، فإن اتّباع هذه الإرشادات يوفّر للأسرة نحو 500 يورو سنوياً (تختلف القيمة حسب عدد الأفراد في الأسرة، والمكان، والقدرة على استخدام النقل العام). إذا التزم كل المواطنين الأوروبيين بهذه الإرشادات في منازلهم وأماكن عملهم، فسيوفر ذلك 220 مليون برميل نفط في السنة، ونحو 17 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي.
1- الحد من التدفئة وتكييف الهواء:
يمكن للأسرة الأوروبية توفير 70 يورو في السنة مقابل تخفيف التدفئة درجة مئوية واحدة، وتوفير 20 يورو في السنة برفع التكييف فقط درجة مئوية واحدة.
2- التعديل في عدّاد السخان:
أي تعديل في عدّاد السخان في المنازل لجعله أكثر فعالية، يوفر للأسرة نحو 100 يورو سنوياً.
3- العمل من المنزل:
العمل لثلاثة أيام في الأسبوع من المنزل إذا سُمح بذلك، يوفّر 35 يورو شهرياً مصاريف بنزين، وذلك بعد احتساب ارتفاع أكلاف الطاقة للوجود في المنزل.
4- استخدام السيارة بطريقة أكثر فعالية:
ركوب الأشخاص في سيارة واحدة، ورفع درجة الحرارة في المكيف الهوائي ثلاث درجات مئوية فقط، يوفران نحو 100 يورو في السنة.
5- تخفيف سرعة السيارات على الطرق السريعة:
تخفيف سرعة السيارة بعشرة كيلومترات في الساعة، يمكن أن يوفر للأسرة 60 يورو في السنة من فاتورة البنزين.
6- ترك السيارة مركونة في المنزل أيام الآحاد في المدن الكبيرة:
إذا اتُّبعت سياسة عدم استعمال السيارات في المدن الكبيرة يوم الأحد فقط، يمكن للأسرة أن توفر 100 يورو في السنة.