يَصعبُ ملء الفراغ الذي خلّفه نائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي»، أبو مهدي المهندس، في قيادة وإدارة التشكيل العراقي. فرضيّة تحوّل «الحشد» إلى «حشود» لم تعد فكرة مجرّدة، بل صارت أبرز تحدّيات المنظومة العقائديّة التي فقدت مطلع العام الجاري رجلاً اعتاد «جمع شتاتها»، بدعم من قائد «قوّة القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، الجنرال قاسم سليماني. خلال الأسابيع القليلة الماضية، ظهر ما كان مستوراً. الحديث عن «حشد المرجعية» و«حشد الولاية» عاد إلى الواجهة مجدّداً، إلى جانب صفات أخرى وزّعت على ألوية عديدة صنّفت بأنّها «حشد عراقي» وأخرى «إيراني»، علماً بأن خليفة سليماني، إسماعيل قاآني، أكد في زيارته الأخيرة لبغداد، قبل أسابيع، «عراقية الحشد»، مشيراً في لقاء مع عدد من قادته إلى أن «طهران لا ترغب في التدخّل... ندعمكم بكل قوّة، لكن وضعكم الداخلي شأن خاص بكم».في واجهة هذا الحراك، يقف قائد «فرقة العباس القتاليّة» (تتبع «العتبة العبّاسية»)، ميثم الزيدي، المتسلّح بقربه من «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني)، إذ يُتّهم بأنه يستكمل مساراً اتخذه منذ إعلان فتوى «الدفاع الكفائي» في حزيران/يونيو 2014، وفحواه: نرفض «حشداً» قريباً من طهران. بعد اغتيال المهندس، أجمعت قيادة «الحشد» على اختيار «أبو فدك» لمنصب رئيس أركان الهيئة. خيار لم يستسغه الزيدي ومن معه من قادة الألوية المحسوبة على «المرجعية»: «لواء علي الأكبر» (يتبع «العتبة الحسينية») و«فرقة الإمام علي» (تتبع «العتبة العلوية») و«لواء أنصار المرجعية». ويقال أن رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي سبق أن وعد الزيدي صيف 2018 بهذا المنصب إن نجح في إقالة المهندس.
الزيدي وداعموه وافقوا على تعيين «أبو فدك» شرط الحصول على أهم ثمانية مناصب في قيادة «الحشد»، أبرزها: العمليات والإدارة المركزية والمالية والتوجيه العقائدي والدعم اللوجستي، مع إبقاء المناصب الأخرى الخاصّة بـ«العتبات» كقيادة الأنبار والفرات الأوسط وشرق دجلة. هذه الشروط استبقت لقاءات جمعت وفداً رفيعاً يمثّل قيادة «الحشد» بوكيلي «المرجعية» في كربلاء: عبد المهدي الكربلائي وأحمد الصافي. الأوّل دعا إلى ضرورة إشراك الزيدي ومن معه في أي قرار مفصلي، مؤكّداً دعمه لهم. أما الثاني، فشدّد على أن المرجعية هي من تضع «المعايير... الحشد حشد المرجعية، ولنا حق الفيتو على من لا نراه مناسباً». في المقابل، تمسّك وفد «الحشد» بوضعه معايير قائد أي منصب «ومن تنطبق عليه المعايير يتولّاه». ويُنقل عمّن حضر اللقاء مع الصافي أنّه شهد «نقاشاً أقسى في المضمون... لم يسفر عن أيّ اتفاق، فعدنا إلى بغداد من دون أي نتيجة».
عديد «الحشد» البالغ 164 ألف منتسب قد ينخفض إلى 70 ألفاً


أُجّل الحديث عن تعيين «أبو فدك» رسمياً، لكنّ الرجل باشر عمله فوراً وبعيداً من الأضواء. لم يرق ذلك الزيدي، فتحرّك ومن معه باتجاه وزارة وزير الدفاع، نجاح الشمري، لكن الأخير وجد حرجاً في تقديم الدعم، قائلاً إن «ذهابكم إلى الوزارة مخالفٌ للقانون... أنتم حشد عالجوا مشكلاتكم بينكم». الخيار الثاني والأخير كان رئيس الوزراء المستقيل، عادل عبد المهدي. أراد الزيدي «فكّ ارتباط الألوية برئيس الهيئة (فالح الفيّاض) على أن تكون تابعة مباشرة لرئيس الوزراء». ويبدو أن عبد المهدي أراد باستجابته لمطالب الزيدي إرضاء «المرجعيّة»، ضارباً «عصفورين بحجر واحد»: الأوّل تأكيد أنّه لا يحيد عن رغبة النجف، والثاني ثمن قبول النجف عودته عن الاستقالة، والبقاء رئيساً في ظل الإخفاقات المتتالية لتأليف حكومة انتقاليّة. فسّر البعض رسالة عبد المهدي، المفتوحة والأخيرة، بأنّها ضغط على الأحزاب والقوى لتسهيل مهمّة المكلف الحالي مصطفى الكاظمي، أمّا آخرون، فرأوا أنّها «إعلان لجاهزيّة العودة عن الاستقالة». في اليوم التالي، صدر كتاب «فك الارتباط»، فذهب البعض إلى أن «ثمن العودة هو الخضوع لرغبة النجف». وسريعاً أعلن الزيدي، في بيان قبل يومين، شكره لمن سهّل «فكّ الارتباط»، من صالح إلى عبد المهدي وصولاً إلى النجف.
في حيثيات الخلاف، ثمّة من يشير إلى أن الزيدي يسعى إلى استرداد مبلغ كبير من «مالية الحشد» الرافضة لذلك. لكن عنده وعند فريقه تفسير أشمل لـ«المشروع الانفصالي»، يتمثّل في تأكيد تبنّي «المرجعيّة» هذا الخيار، وهو ما يواجهه خصومه بأسئلة مشككة: الأول أن الأمر يتناقض مع سلوك «المرجعيّة»، فهي رفضت التدخّل أو التعليق على استحقاق تسمية رئيس الوزراء، في ظل الأزمة السياسيّة المفتوحة التي ترزح البلاد تحتها منذ 1 تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، فكيف لها أن تتدخّل في تفاصيل مماثلة؟ وإن كانت «المرجعيّة» مع خيار «فك الارتباط»، فهذا يعني رفضها الهيكلية الموجودة، لكنّها لم يسبق أن عبّرت عن ذلك، بل أكّدت مراراً التزامها بالقانون الخاص الصادر عن البرلمان عام 2016. هذه الأسئلة وغيرها تقود إلى مخاوف لدى خصوم الزيدي من «تهديم الحشد» الذي أسهم في القضاء على «داعش».
وفق تفسير البعض، دفع القصف الأميركي الذي استهدف مطار كربلاء الزيدي وداعميه إلى التبرّؤ من الصيغ الحاليّة لـ«الحشد» والبحث عن صيغة جديدة تضمن تحييدهم عن أي استهداف. وبيان الزيدي كان محرجاً لعبد المهدي، خصوصاً أنّه يشرعن «فرط الحشد». وما زاد تعقيد المشهد أن الرجل أطلق حراكاً باتجاه الألوية الأخرى ودعوتها إلى «فكّ الارتباط»، على قاعدة أن «هذا الحشد الذي نريده». حراك «دغدغ» توجّهات «سرايا السلام»، الذراع العسكرية لـ«التيّار الصدري» بزعامة مقتدى الصدر، التي سارعت إلى إطلاق «مفاوضات» مع الزيدي للوصول إلى تفاهم ما. ووفق المعلومات، عديد «الحشد» البالغ 164 ألفاً منتسباً قد ينخفض إلى 70 ألفاً إن نجح جناح الزيدي في إقناع قادة الألوية والسرايا باللحاق بركبه.
هذا التوجّه أدركه عبد المهدي، الجمعة الماضي، فأعلن في بيان أنّه «لم يشاور أو يوافق على البيان الصادر عن ألوية الحشد... عملية ارتباط هذه الفصائل بالقائد العام ارتباط إداري وعملياتي فقط، ولا يتناول الكثير من الأمور التي ذكرها البيان المذكور»، مشدّداً على «أهمية الحفاظ على وحدة الحشد وخضوع جميع ألويته للسياقات الانضباطية والعسكرية وأوامر القيادات العليا، شأنها شأن بقية القوات المسلحة». وتبع البيان، وفق مصادر سياسيّة، اتصالات بين مطّلعين على مناخات النجف وعبد المهدي تسعى لرفض «أي حراك من شأنه أن يشقّ عصا الحشد».