آذربيجان والتغريد خارج السرب
h1>معضلة امتلاك الثروة ومجاورة الإمبراطوريات
دولة حديثة الولادة، عمرها لا يتجاوز 18 ربيعاً. أمضت تاريخها، الذي تدّعي أنه الأقدم، تحت الاحتلال. تمتلك نعمتي، بل نقمتي، توافر المواد الأولية والوقوع عند تقاطع إمبراطوريات. تغرد خارج سرب المنطقة التي تعيش فيها، وتطمح إلى أن تكون قوة إقليمية كبرى
إيلي شلهوب
كم تبدو آذربيجان خطيرة، بموقعها الجيو ـــــ استراتيجي وثرواتها النفطية وطموحاتها القومية وخياراتها السياسية. دولة صغيرة الحجم، هي عملياً المنفذ الوحيد للغرب على آسيا الوسطى وبحر قزوين وثرواتهما، بحكم وجودها كبوابة صغيرة بين سدّين منيعين: روسيا وإيران. تمتلك من الموارد النفطية، البترول والغاز، ما يوفّر لها مدخولاً سنوياً بمليارات الدولارات، تعزز الاقتصاد وتضمن للدولة من عناصر القوة ما يحميها من «الذئاب» التي تحيط بها. «ذئاب» تسعى إلى الانقضاض عليها، هي الدولة الوحيدة التي تدور في الفلك الأميركي (ومعها كازاخستان) وتسعى لإمدادت أوروبية في محيط يدين في مجمله بالولاء لـ«الشقيقة الكبرى»، روسيا.
تدرك آذربيجان واقعها بدقة. لها في التاريخ خير معين على الاستدلال على حال الذي يجاور الإمبراطوريات. أمضت الدهر تنتقل من هيمنة إلى أخرى، بدءاً بالفرس مروراً بالعرب مع الفتوحات الإسلامية إلى العثمانيين فالروس والإيرانيين والسوفيات... من هنا يمكن فهم تأكيدها أنها تسعى إلى «استقرار» المنطقة، التي تريد أن «يعمّها السلام». تعترف بأنها تجهد لسياسة خارجية متوازنة، تأخذ في الاعتبار موازين القوى في المنطقة، والأطماع الغربية فيها وفي ثرواتها. تبحث عن أصدقاء في محيطها، وخصوصاً جورجيا وكازاخستان. تستغل مواردها من الطاقة، وواقعها الجيو سياسي الذي هو ممر حيوي للغاز والذهب الأسود، كأحد أهم عناصر سياستها الخارجية، وإن أنكر بعض المسؤولين فيها ذلك. كذلك تستغل حاجة أوروبا إليها من أجل كسر احتكار موسكو للطاقة، لتعبيد طريقها الأوروبية.
تدرك باكو محدودية قدراتها العسكرية في محيط من الجيوش الجبارة، روسية أكانت أو إيرانية أو تركية. لذلك تراها تعتمد على الدبلوماسية التي ترى أن ضعفها لديها خلال العقدين الماضيين قد سبّب لها الكثير من الخسائر. تجهد لبناء سلك دبلوماسي محترف يحسن تسويق سياستها ورؤيتها لنفسها لدى المجتمع الدولي (لديها 70 بعثة في الخارج، بحسب نائب وزير خارجيتها حافظ بشاييف)،
بل هي تسعى جاهدة إلى تجنيب نفسها غضب الجوار. براغماتية إلى أقصى حدّ. الحرب الروسية على جورجيا في 2008 كانت درساً مصيرياً لسلطات باكو يؤكد أن الغرب عاجز عن مساعدتها إذا تورّطت في نزاع عسكري. لذلك تراها تسعى إلى شراء رضى الجيران. اتفاقها مع روسيا على بيعها 2 إلى 3 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً يمثّل نموذجاً. كذلك الأمر بالنسبة إلى اتفاقها مع إيران على تزويد الشمال الإيراني بمليار متر مكعب من الغاز سنوياً.
تجيد آذربيجان أداء دور الضحية المغلوب على أمرها. تقدم نفسها على أنها دولة مقطّعة الأوصال، قَضم الجيران معظم أراضيها على مرّ التاريخ. لعل أبرزهم إيران، حيث يعيش 21 مليون آذري في منطقة «تبريز المحتلة»، «العاصمة التاريخية» لآذربيجان. لكنّ كربلاء الآذريين تبقى منطقة ناغورنو كارباخ، التي «تحتلها» أرمينيا منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي وتمثّل «نحو 20 في المئة من أراضي آذربيجان». النزاع الأخير هو الذي يحتل الصدارة في العقل الآذربيجاني، وحوله يتمحور الجزء الأكبر من الجهد الدبلوماسي لباكو.
إيران: أعدقاء... ولكن
علاقة إيران بآذربيجان المستقلة بدأت سيّئة، رغم التشيّع الذي يجمع غالبية سكان البلدين. يومها كان يحكم باكو قوميون متطرّفون بقيادة أبو الفضل التشيبي الذي أعلن على الملأ عزمه على رفع العلم الآذربيجاني فوق تبريز، في إطار سعيه إلى استعادة «الأراضي الآذربيجانية السليبة».
في المقابل، دعمت طهران بكل السبل يريفان في حربها التي خاضتها بين 1992 و1994 مع باكو، والتي تمكّنت في خلالها من السيطرة على ناغورنو كارباخ. ولعبت طهران أيضاً على الواقع الديني الداخلي في آذربيجان، مستغلة حقيقة أن غالبية سكانها من الشيعة، وفي الوقت نفسه لا مراجع دينيين آذربيجانيين؛ أرسلت مجموعة من الدعاة إلى باكو، وعملت على بناء «حزب إسلامي» خلال الفورة الدينية التي اجتاحت آذربيجان في النصف الأول من التسعينيات.
لكن مع استعادة حيدر علييف «الأب» للحكم في باكو، أرسى أسساً لسياسة جديدة حيال إيران، كرّسها خلفه وابنه الهام علييف، تأخذ في الاعتبار قوة الجار الإيراني وقدرته على زعزعة استقرار آذربيجان، وبالتالي التعامل معه «بالتي هي أحسن».
تدرك السلطات الآذرية، بحسب مصادر وثيقة الاطلاع، أن منع تعاظم قوة آذربيجان يمثّل أحد الثوابت الرئيسة للسياسة الخارجية الإيرانية، وتوضح أن طهران تخشى قدرة باكو قوية على تأليف محور جذب لـ21 مليون آذري يعيشون في إيران سبق أن عبّروا عن نيّات انفصالية في الأيام الأولى للثورة الخمينية، علماً بأن المرشد علي خامنئي ينتمي إلى الإثنية الآذرية.
كذلك تعلم باكو بوجود عاملين يثيران القلق الإيراني: علاقة آذربيجان بإسرائيل وتحالفها مع الولايات المتحدة. في الملف الأول، توضح المصادر نفسها أن السلطات الإيرانية طالبت مراراً وتكراراً نظيرتها الآذربيجانية بإغلاق السفارة الإسرائيلية في باكو. الجواب الآذري كان يشدد على أن آذربيجان «بلد إسلامي ولسنا حكومة إسلامية»، مع تكرار لمعزوفة العلاقة التاريخية من أيام الخزر والسوفيات، وأن التعامل مع الدولة العبرية «لا يزال حذراً».
أما في ما يتعلق بالعلاقة مع أميركا، فإن آذربيجان تدرك أن «الحرب على إيران خطيرة»، و«أي تدخل عسكري سيؤدي إلى الخراب في المنطقة». وهي لذلك تعهدت للإيرانيين بعدم السماح باستخدام أراضيها ولا أجوائها في أي ضربة ضد إيران، على ما أوضحت المصادر السالفة الذكر، مضيفة أن «آذربيجان عندما فتحت أجواءها أمام الطائرات الأميركية لضرب أفغانستان، إنما فعلت ذلك لأن غزو هذا البلد جرى برضى طهران ومساعدتها، حيث كانت في ذلك الحين تقدم خدمات للأميركيين من أجل التخلص من طالبان».
كذلك فإن آذربيجان ترفض حتى العقوبات على طهران، على ما أفاد به حافظ بشاييف، الذي أوضح أن «سياسة العقوبات سيّئة جداً، ونحن لا ندعم أي عقوبات»، مشيراً إلى أن بلاده سبق أن عانت من عقوبات فرضها الكونعرس الأميركي بضغط من اللوبي الأرمني القوي في أميركا. وأضاف «نحن جيران إيران ونراقب بحذر ما يحصل، نحن ضد أي تصرّف حقيقي أو تهديد أو استخدام للقوة ضد إيران. نحن ضد العقوبات وضد استخدام القوة».
وتؤكد المصادر المطلعة أن العلاقة مع إيران تحسّنت، مستدلّة على ذلك بتصريح للرئيس الهام علييف أكد فيه أن «العلاقة مع إيران قوية وتاريخية، ولا أحد يستطيع أن يهدمها». لكنها تضيف «مع ذلك، لا تزال هناك أطراف في كلا البلدين تريد أن تفتعل مشاكل. القوميون الآذريون الذين يطالبون بتبريز، وبعض الإيرانيين ممن يعدّون آذربيجان أراضي إيرانية».
ومن أوراق طهران في مواجهة باكو، تضييق الخناق على منطقة ناخيتشيفان الآذربيجانية المنعزلة، التي تفصلها عن الأراضي الآذربيجانية من الشمال أرمينيا وتحدّها من الجنوب إيران.
روسيا: المصالح المتناقضة
لطالما حكمت الثروات النفطية لآذربيجان وموقعها الاستراتيجي علاقة روسيا والعالم بها. حتى إن لينين قال، حسبما يُنقل عنه، إن ضمّ آذربيجان إلى الاتحاد السوفياتي ضرورة قصوى إذا أريد للثورة البلشفية أن تنمو وتزدهر. وفي خلال الحرب العالمية الثانية، كانت السيطرة على هذه الجمهورية السوفياتية إحدى أولويات الجيش النازي يوم فتح الجبهة الشرقية.
من هذه الزاوية يمكن فهم العلاقة الروسية المتوترة مع آذربيجان، البلد الوحيد الذي يمكن من خلاله كسر احتكار موسكو للطاقة المصدّرة إلى أوروبا، منتجاً كانت أم ممراً. توتّر ظهر في أكثر من مناسبة، لعل آخرها أثناء العمل على مدّ خط أنابيب باكو ـــــ تبيليسي ـــــ جيهان، الذي ينقل نفط آذربيجان وقزوين إلى المياه المفتوحة في البحر المتوسط (وتلبّي إسرائيل 30 في المئة من حاجتها النفطية منه). وهو يستعر حالياً في أثناء المفاوضات التي تجريها باكو لتمويل خط نابوكو، الذي يفترض أن ينقل غاز قزوين من آذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا وبلغاريا ورومانيا والمجر والنمسا. ومعروف أن آذربيجان تعدّ الممر الوحيد للنفط والغاز الآتي من آسيا الوسطى إلى أوروبا من دون المرور بالأراضي الروسية، لكون الممر الآخر، إيران، وإن كان أقصر وأكثر جدوى، إلا أن الظروف السياسية تحول دون اعتماده.
كانت شعرة الودّ الأخيرة بين روسيا وآذربيجان قد انقطعت يوم دعمت موسكو يريفان بالمال والسلاح في حربها مع باكو، التي تتهم روسيا بالتحريض على هذه الحرب، فضلاً طبعاً عن «المجزرة» التي ارتكبتها «وحدات خاصة» من الجيش السوفياتي في 20 كانون الثاني 1990 موقعة نحو 137 قتيلاً و744 جريحاً، يوم حاول هذا الجيش الحؤول دون انفصال الجمهورية الآذربيجانية عن موسكو.
هناك من يقول في باكو إن الآذربيجانيين كانوا «يعشقون» روسيا قبل هذين الحدثين، وإنهم كانوا «يعتقدون أن الجيش الروسي هو الأعدل في العالم». على الأقل هذا ما يقوله مدير دائرة الشرق الأوسط في وكالة «ترند» الآذرية روفيز حافظ أوغلو. في المقابل، هناك من يتحدث عن «القمع» الذي كان يمارسه السوفيات في آذربيجان، في إطار «النموذج الشمولي» الذي كانوا يعتمدونه، والذي «كان يحسب حركة المرء بدقة» و«يمنعه من مغادرة البلاد».
تركيا: الشراكة الاستراتيجية
ويفاخر الآذربيجانيون بأن تركيا «الشقيقة» كانت أول دولة تعترف بآذربيجان في 1991. التلفزيون الرسمي الآذربيجاني احتفل بهذا الاعتراف واعتدّ به. كذلك يفاخر هؤلاء، عند إشارتهم إلى عمق العلاقة مع تركيا، بأن أنقرة، فور اندلاع الحرب في ناغورنو كارباخ، أغلقت حدودها مع أرمينيا.
ويؤكد أوغلو أنه «مع مجيء رجب طيب أردوغان إلى الحكم، كثير من الآذربيجانيين قالوا إن أفكار العدالة والتنمية الإسلامية تعدّ مشكلة. أنقرة في عهده انفتحت على الأكراد والعلويين والعرب والأرمن. الانفتاح على هؤلاء الأخيرين بدأ في تشرين الأول 2009. وُقّعت بروتوكولات لم تشر من قريب ولا من بعيد إلى ناغورنو كارباخ. عبّر الآذربيجانيون عن انزعاجهم الشديد، وفهم الأتراك أخيراً أنه لا استقرار من دون حل النزاع وإرجاع الأراضي. فهموا أن مفتاح الحل في ناغورنو كارباخ». وختم قائلاً إن «الموقف الآذري أجهض هذه البروتوكولات. باتت كارباخ قضية شرف لتركيا، بحسب تعبير وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو».
ولعل هذه العلاقة المتميزة هي التي دفعت السوفيات إلى التصعيد مع آذربيجان أيام الانفصال. كانوا يخشون التحاقها مباشرة بتركيا، تلك القاعدة الأطلسية الجاثمة على الخاصرة الجنوبية للاتحاد السوفياتي.
ويصف حافظ بشاييف العلاقة مع تركيا بأنها «شراكة استراتيجية». لكن اللافت أن العملة الآذربيجانية (المانات) غير معترف بها في تركيا، أو على الأقل لا يمكن صرفها فيها، حتى في محال الصيرفة.
وهناك مقولة رائجة في باكو تفيد بأن السوفيات جهدوا لمحو أمرين من الوجدان الآذري ولم ينجحوا، وهما اقتناع الآذربيجانيين بأن أصولهم تركية، وبأن الإسلام يمثّل جزءاً من هويتهم.
غداً «كربلائية» آذربيجان: ناغورنو كارباخ
علم إسرائيل يرفرف
يرتفع في باكو علم إسرائيلي على السطح المجاور لفندق «حياة ريجنسي». سفارة تتوّج علاقة الآذريين مع اليهود «القائمة منذ أيام مملكة الخزر» القوقازية، ومع إسرائيل منذ أيام الاتحاد السوفياتي. تبرير وجودها واحد لدى الجميع: إسرائيل بالنسبة إلينا دولة كغيرها من الدول. نتضامن مع الفلسطينيين، ولهذا السبب لم نفتتح سفارة في تل أبيب رغم المطالبات الإسرائيلية المتكررة. لكننا لم نتمكن من رفض إقامة سفارة إسرائيلية، وقد جاء الطلب في إطار ترتيب هجرة آلاف من اليهود الآذربيجانيين، من ضمن المليون مواطن سوفياتي الذين غادروا إلى الدولة العبرية أوائل التسعينيات. لا أحد ينفي وجود محطات للموساد في آذربيجان. الحجة أن موقعها الاستراتيجي يجذب أجهزة الاستخبارات الأجنبية، ولا غرابة في أن يكون الموساد من بينها، لكن من دون علم سلطات باكو. هناك من يتحدث عن أن الحافز الأساس للعلاقة مع إسرائيل هو الفوز بدعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة في مواجهة اللوبي الأرمني القوي الذي يمنع واشنطن من تعميق تحالفها مع باكو.
190 مليار دولار من النفط في عقدين و100 مليار من الغــاز في 2040 30 مليار دولار واردات أذربيجان من النفط في العقد الأول من القرن العشرين و160 ملياراً تقديراتها لأرباح العقد الثاني. الرهان على مدخول الغاز المقدر بـ100 مليار سنوياً بدءاً من 2040
دولة حديثة الولادة، عمرها لا يتجاوز 18 ربيعاً. أمضت تاريخها، الذي تدّعي أنه الأقدم، تحت الاحتلال. تمتلك نعمتي، بل نقمتي، توافر المواد الأولية والوقوع عند تقاطع إمبراطوريات. تغرد خارج سرب المنطقة التي تعيش فيها، وتطمح إلى أن تكون قوة إقليمية كبرى
إيلي شلهوب
كم تبدو آذربيجان خطيرة، بموقعها الجيو ـــــ استراتيجي وثرواتها النفطية وطموحاتها القومية وخياراتها السياسية. دولة صغيرة الحجم، هي عملياً المنفذ الوحيد للغرب على آسيا الوسطى وبحر قزوين وثرواتهما، بحكم وجودها كبوابة صغيرة بين سدّين منيعين: روسيا وإيران. تمتلك من الموارد النفطية، البترول والغاز، ما يوفّر لها مدخولاً سنوياً بمليارات الدولارات، تعزز الاقتصاد وتضمن للدولة من عناصر القوة ما يحميها من «الذئاب» التي تحيط بها. «ذئاب» تسعى إلى الانقضاض عليها، هي الدولة الوحيدة التي تدور في الفلك الأميركي (ومعها كازاخستان) وتسعى لإمدادت أوروبية في محيط يدين في مجمله بالولاء لـ«الشقيقة الكبرى»، روسيا.
تدرك آذربيجان واقعها بدقة. لها في التاريخ خير معين على الاستدلال على حال الذي يجاور الإمبراطوريات. أمضت الدهر تنتقل من هيمنة إلى أخرى، بدءاً بالفرس مروراً بالعرب مع الفتوحات الإسلامية إلى العثمانيين فالروس والإيرانيين والسوفيات... من هنا يمكن فهم تأكيدها أنها تسعى إلى «استقرار» المنطقة، التي تريد أن «يعمّها السلام». تعترف بأنها تجهد لسياسة خارجية متوازنة، تأخذ في الاعتبار موازين القوى في المنطقة، والأطماع الغربية فيها وفي ثرواتها. تبحث عن أصدقاء في محيطها، وخصوصاً جورجيا وكازاخستان. تستغل مواردها من الطاقة، وواقعها الجيو سياسي الذي هو ممر حيوي للغاز والذهب الأسود، كأحد أهم عناصر سياستها الخارجية، وإن أنكر بعض المسؤولين فيها ذلك. كذلك تستغل حاجة أوروبا إليها من أجل كسر احتكار موسكو للطاقة، لتعبيد طريقها الأوروبية.
تدرك باكو محدودية قدراتها العسكرية في محيط من الجيوش الجبارة، روسية أكانت أو إيرانية أو تركية. لذلك تراها تعتمد على الدبلوماسية التي ترى أن ضعفها لديها خلال العقدين الماضيين قد سبّب لها الكثير من الخسائر. تجهد لبناء سلك دبلوماسي محترف يحسن تسويق سياستها ورؤيتها لنفسها لدى المجتمع الدولي (لديها 70 بعثة في الخارج، بحسب نائب وزير خارجيتها حافظ بشاييف)،
بل هي تسعى جاهدة إلى تجنيب نفسها غضب الجوار. براغماتية إلى أقصى حدّ. الحرب الروسية على جورجيا في 2008 كانت درساً مصيرياً لسلطات باكو يؤكد أن الغرب عاجز عن مساعدتها إذا تورّطت في نزاع عسكري. لذلك تراها تسعى إلى شراء رضى الجيران. اتفاقها مع روسيا على بيعها 2 إلى 3 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً يمثّل نموذجاً. كذلك الأمر بالنسبة إلى اتفاقها مع إيران على تزويد الشمال الإيراني بمليار متر مكعب من الغاز سنوياً.
تجيد آذربيجان أداء دور الضحية المغلوب على أمرها. تقدم نفسها على أنها دولة مقطّعة الأوصال، قَضم الجيران معظم أراضيها على مرّ التاريخ. لعل أبرزهم إيران، حيث يعيش 21 مليون آذري في منطقة «تبريز المحتلة»، «العاصمة التاريخية» لآذربيجان. لكنّ كربلاء الآذريين تبقى منطقة ناغورنو كارباخ، التي «تحتلها» أرمينيا منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي وتمثّل «نحو 20 في المئة من أراضي آذربيجان». النزاع الأخير هو الذي يحتل الصدارة في العقل الآذربيجاني، وحوله يتمحور الجزء الأكبر من الجهد الدبلوماسي لباكو.
تدرك باكو محدودية قدراتها العسكرية في محيط من الجيوش الجبارة، روسية أكانت أو إيرانية أو تركية
اللافت في آذربيجان تلك الرواية المعممة على الجميع في شأن صورة هذا البلد لحاضره ولماضيه ومستقبله، لمآسيه وطموحاته. رواية تخدم في مخاطبة الخارج ورصّ الصفوف في الداخل. لعلّ في كلام بشاييف، الذي التقته «الأخبار» في إطار منتدى نظمته المفوضية الأوروبية في باكو شمل صحافيين من لبنان وتونس والجزائر والمغرب، ما يلخّص الحال، رغم طابعه الدبلوماسي: «استطعنا تدبّر نموّ اقتصادنا بفضل سياسة الطاقة التي تمثّل جزءاً مهماً من سياستنا الخارجية... نبحث عن السلام في المنطقة، وعن حل سلمي لقضية ناغورنو كارباخ التي تتولاها مجموعة مينسك... لسنا مع روسيا ولا إيران ولا أميركا. نحن مع آذربيجان ومصالحها، وحتى الآن نجحنا... نسعى إلى سياسة توازن.... الغاز يؤدي الآن دوراً أكبر من النفط في السياسة الخارجية الآذربيجانية». إيران: أعدقاء... ولكن
علاقة إيران بآذربيجان المستقلة بدأت سيّئة، رغم التشيّع الذي يجمع غالبية سكان البلدين. يومها كان يحكم باكو قوميون متطرّفون بقيادة أبو الفضل التشيبي الذي أعلن على الملأ عزمه على رفع العلم الآذربيجاني فوق تبريز، في إطار سعيه إلى استعادة «الأراضي الآذربيجانية السليبة».
في المقابل، دعمت طهران بكل السبل يريفان في حربها التي خاضتها بين 1992 و1994 مع باكو، والتي تمكّنت في خلالها من السيطرة على ناغورنو كارباخ. ولعبت طهران أيضاً على الواقع الديني الداخلي في آذربيجان، مستغلة حقيقة أن غالبية سكانها من الشيعة، وفي الوقت نفسه لا مراجع دينيين آذربيجانيين؛ أرسلت مجموعة من الدعاة إلى باكو، وعملت على بناء «حزب إسلامي» خلال الفورة الدينية التي اجتاحت آذربيجان في النصف الأول من التسعينيات.
لكن مع استعادة حيدر علييف «الأب» للحكم في باكو، أرسى أسساً لسياسة جديدة حيال إيران، كرّسها خلفه وابنه الهام علييف، تأخذ في الاعتبار قوة الجار الإيراني وقدرته على زعزعة استقرار آذربيجان، وبالتالي التعامل معه «بالتي هي أحسن».
تدرك السلطات الآذرية، بحسب مصادر وثيقة الاطلاع، أن منع تعاظم قوة آذربيجان يمثّل أحد الثوابت الرئيسة للسياسة الخارجية الإيرانية، وتوضح أن طهران تخشى قدرة باكو قوية على تأليف محور جذب لـ21 مليون آذري يعيشون في إيران سبق أن عبّروا عن نيّات انفصالية في الأيام الأولى للثورة الخمينية، علماً بأن المرشد علي خامنئي ينتمي إلى الإثنية الآذرية.
كذلك تعلم باكو بوجود عاملين يثيران القلق الإيراني: علاقة آذربيجان بإسرائيل وتحالفها مع الولايات المتحدة. في الملف الأول، توضح المصادر نفسها أن السلطات الإيرانية طالبت مراراً وتكراراً نظيرتها الآذربيجانية بإغلاق السفارة الإسرائيلية في باكو. الجواب الآذري كان يشدد على أن آذربيجان «بلد إسلامي ولسنا حكومة إسلامية»، مع تكرار لمعزوفة العلاقة التاريخية من أيام الخزر والسوفيات، وأن التعامل مع الدولة العبرية «لا يزال حذراً».
أما في ما يتعلق بالعلاقة مع أميركا، فإن آذربيجان تدرك أن «الحرب على إيران خطيرة»، و«أي تدخل عسكري سيؤدي إلى الخراب في المنطقة». وهي لذلك تعهدت للإيرانيين بعدم السماح باستخدام أراضيها ولا أجوائها في أي ضربة ضد إيران، على ما أوضحت المصادر السالفة الذكر، مضيفة أن «آذربيجان عندما فتحت أجواءها أمام الطائرات الأميركية لضرب أفغانستان، إنما فعلت ذلك لأن غزو هذا البلد جرى برضى طهران ومساعدتها، حيث كانت في ذلك الحين تقدم خدمات للأميركيين من أجل التخلص من طالبان».
كذلك فإن آذربيجان ترفض حتى العقوبات على طهران، على ما أفاد به حافظ بشاييف، الذي أوضح أن «سياسة العقوبات سيّئة جداً، ونحن لا ندعم أي عقوبات»، مشيراً إلى أن بلاده سبق أن عانت من عقوبات فرضها الكونعرس الأميركي بضغط من اللوبي الأرمني القوي في أميركا. وأضاف «نحن جيران إيران ونراقب بحذر ما يحصل، نحن ضد أي تصرّف حقيقي أو تهديد أو استخدام للقوة ضد إيران. نحن ضد العقوبات وضد استخدام القوة».
وتؤكد المصادر المطلعة أن العلاقة مع إيران تحسّنت، مستدلّة على ذلك بتصريح للرئيس الهام علييف أكد فيه أن «العلاقة مع إيران قوية وتاريخية، ولا أحد يستطيع أن يهدمها». لكنها تضيف «مع ذلك، لا تزال هناك أطراف في كلا البلدين تريد أن تفتعل مشاكل. القوميون الآذريون الذين يطالبون بتبريز، وبعض الإيرانيين ممن يعدّون آذربيجان أراضي إيرانية».
ومن أوراق طهران في مواجهة باكو، تضييق الخناق على منطقة ناخيتشيفان الآذربيجانية المنعزلة، التي تفصلها عن الأراضي الآذربيجانية من الشمال أرمينيا وتحدّها من الجنوب إيران.
روسيا: المصالح المتناقضة
لطالما حكمت الثروات النفطية لآذربيجان وموقعها الاستراتيجي علاقة روسيا والعالم بها. حتى إن لينين قال، حسبما يُنقل عنه، إن ضمّ آذربيجان إلى الاتحاد السوفياتي ضرورة قصوى إذا أريد للثورة البلشفية أن تنمو وتزدهر. وفي خلال الحرب العالمية الثانية، كانت السيطرة على هذه الجمهورية السوفياتية إحدى أولويات الجيش النازي يوم فتح الجبهة الشرقية.
من هذه الزاوية يمكن فهم العلاقة الروسية المتوترة مع آذربيجان، البلد الوحيد الذي يمكن من خلاله كسر احتكار موسكو للطاقة المصدّرة إلى أوروبا، منتجاً كانت أم ممراً. توتّر ظهر في أكثر من مناسبة، لعل آخرها أثناء العمل على مدّ خط أنابيب باكو ـــــ تبيليسي ـــــ جيهان، الذي ينقل نفط آذربيجان وقزوين إلى المياه المفتوحة في البحر المتوسط (وتلبّي إسرائيل 30 في المئة من حاجتها النفطية منه). وهو يستعر حالياً في أثناء المفاوضات التي تجريها باكو لتمويل خط نابوكو، الذي يفترض أن ينقل غاز قزوين من آذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا وبلغاريا ورومانيا والمجر والنمسا. ومعروف أن آذربيجان تعدّ الممر الوحيد للنفط والغاز الآتي من آسيا الوسطى إلى أوروبا من دون المرور بالأراضي الروسية، لكون الممر الآخر، إيران، وإن كان أقصر وأكثر جدوى، إلا أن الظروف السياسية تحول دون اعتماده.
كانت شعرة الودّ الأخيرة بين روسيا وآذربيجان قد انقطعت يوم دعمت موسكو يريفان بالمال والسلاح في حربها مع باكو، التي تتهم روسيا بالتحريض على هذه الحرب، فضلاً طبعاً عن «المجزرة» التي ارتكبتها «وحدات خاصة» من الجيش السوفياتي في 20 كانون الثاني 1990 موقعة نحو 137 قتيلاً و744 جريحاً، يوم حاول هذا الجيش الحؤول دون انفصال الجمهورية الآذربيجانية عن موسكو.
هناك من يقول في باكو إن الآذربيجانيين كانوا «يعشقون» روسيا قبل هذين الحدثين، وإنهم كانوا «يعتقدون أن الجيش الروسي هو الأعدل في العالم». على الأقل هذا ما يقوله مدير دائرة الشرق الأوسط في وكالة «ترند» الآذرية روفيز حافظ أوغلو. في المقابل، هناك من يتحدث عن «القمع» الذي كان يمارسه السوفيات في آذربيجان، في إطار «النموذج الشمولي» الذي كانوا يعتمدونه، والذي «كان يحسب حركة المرء بدقة» و«يمنعه من مغادرة البلاد».
تركيا: الشراكة الاستراتيجية
تجيد آذربيجان أداء دور الضحية كدولة مقطعة الأوصال، قَضم الجيران معظم أراضيها على مرّ التاريخ
العلاقة التركية الآذربيجانية «ليست علاقة دولتين، إنها علاقة أخوية حقيقية. الأتراك إخوتنا»، على ما يؤكد كلّ من تلتقي به في باكو، مسؤولاً كان أو مواطناً. ويقول روفيز أوغلو إن «أكثر من 90 في المئة من العادات والتقاليد مشتركة بين الأتراك والآذربيجانيين. اللغة الآذربيجانية هي الأقرب إلى اللغة التركية. كأنهما لهجتان للغة واحدة. كلتاهما تنتميان إلى اللغات الطورانية». ويضيف أن «فترة الذروة في العلاقات كانت في عهود تورغوت أوزال ونجم الدين أربكان وسليمان ديميريل». ويفاخر الآذربيجانيون بأن تركيا «الشقيقة» كانت أول دولة تعترف بآذربيجان في 1991. التلفزيون الرسمي الآذربيجاني احتفل بهذا الاعتراف واعتدّ به. كذلك يفاخر هؤلاء، عند إشارتهم إلى عمق العلاقة مع تركيا، بأن أنقرة، فور اندلاع الحرب في ناغورنو كارباخ، أغلقت حدودها مع أرمينيا.
ويؤكد أوغلو أنه «مع مجيء رجب طيب أردوغان إلى الحكم، كثير من الآذربيجانيين قالوا إن أفكار العدالة والتنمية الإسلامية تعدّ مشكلة. أنقرة في عهده انفتحت على الأكراد والعلويين والعرب والأرمن. الانفتاح على هؤلاء الأخيرين بدأ في تشرين الأول 2009. وُقّعت بروتوكولات لم تشر من قريب ولا من بعيد إلى ناغورنو كارباخ. عبّر الآذربيجانيون عن انزعاجهم الشديد، وفهم الأتراك أخيراً أنه لا استقرار من دون حل النزاع وإرجاع الأراضي. فهموا أن مفتاح الحل في ناغورنو كارباخ». وختم قائلاً إن «الموقف الآذري أجهض هذه البروتوكولات. باتت كارباخ قضية شرف لتركيا، بحسب تعبير وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو».
ولعل هذه العلاقة المتميزة هي التي دفعت السوفيات إلى التصعيد مع آذربيجان أيام الانفصال. كانوا يخشون التحاقها مباشرة بتركيا، تلك القاعدة الأطلسية الجاثمة على الخاصرة الجنوبية للاتحاد السوفياتي.
ويصف حافظ بشاييف العلاقة مع تركيا بأنها «شراكة استراتيجية». لكن اللافت أن العملة الآذربيجانية (المانات) غير معترف بها في تركيا، أو على الأقل لا يمكن صرفها فيها، حتى في محال الصيرفة.
وهناك مقولة رائجة في باكو تفيد بأن السوفيات جهدوا لمحو أمرين من الوجدان الآذري ولم ينجحوا، وهما اقتناع الآذربيجانيين بأن أصولهم تركية، وبأن الإسلام يمثّل جزءاً من هويتهم.
غداً «كربلائية» آذربيجان: ناغورنو كارباخ
علم إسرائيل يرفرف
يرتفع في باكو علم إسرائيلي على السطح المجاور لفندق «حياة ريجنسي». سفارة تتوّج علاقة الآذريين مع اليهود «القائمة منذ أيام مملكة الخزر» القوقازية، ومع إسرائيل منذ أيام الاتحاد السوفياتي. تبرير وجودها واحد لدى الجميع: إسرائيل بالنسبة إلينا دولة كغيرها من الدول. نتضامن مع الفلسطينيين، ولهذا السبب لم نفتتح سفارة في تل أبيب رغم المطالبات الإسرائيلية المتكررة. لكننا لم نتمكن من رفض إقامة سفارة إسرائيلية، وقد جاء الطلب في إطار ترتيب هجرة آلاف من اليهود الآذربيجانيين، من ضمن المليون مواطن سوفياتي الذين غادروا إلى الدولة العبرية أوائل التسعينيات. لا أحد ينفي وجود محطات للموساد في آذربيجان. الحجة أن موقعها الاستراتيجي يجذب أجهزة الاستخبارات الأجنبية، ولا غرابة في أن يكون الموساد من بينها، لكن من دون علم سلطات باكو. هناك من يتحدث عن أن الحافز الأساس للعلاقة مع إسرائيل هو الفوز بدعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة في مواجهة اللوبي الأرمني القوي الذي يمنع واشنطن من تعميق تحالفها مع باكو.