عند تحليل الأرقام التي استحصلنا عليها من صندوق الضمان حول عدد المسجّلين في فرع تعويضات نهاية الخدمة وقيمة تعويضاتهم، تشكّلت الدهشة الأولى من معرفة أن المعدل الوسطي لتعويض كل مضمون هو 15 ألف دولار أميركي فقط لا غير! حسناً، لا تتعلّق الدهشة بكون المبلغ ضئيلاً جدّاً فحسب، بل كونه غير محمي أبداً، ويكفي أن نتخيّل كم ستبلغ قيمته الشرائية في ظلّ أي موجة تضخّمية أو تغيّر في سعر الصرف.يبذل مصرف لبنان جهوداً حثيثة لمنع المضاربات على سعر الليرة، وهو يعلن باستمرار التزامه بسياسة تثبيت سعر الصرف، مهما بلغت الكلفة، وطالما بقي «القرار السياسي» يقضي بذلك. ولكن ماذا لو تغيّر القرار السياسي؟ أو ماذا لو عجزنا عن تسديد المزيد من الأكلاف؟
في سياق إدارة السيولة لتثبيت سعر صرف الليرة إزاء الدولار وتمويل عجز الموازنة العامّة طوال ربع القرن الماضي، أُجبر الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهو أكبر صندوق للتأمينات الاجتماعية في لبنان، على تحرير كلّ أمواله بالليرة حصراً، وتوظيفها على شكل ودائع بالليرة لدى المصارف التجارية واكتتابات في سندات الخزينة بالليرة التي تُصدرها وزارة المال لتمويل عجز الموازنة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

حالياً، يوجد نحو 480 ألف مضمون في لبنان، مصرّح عنهم لدى فرع تعويضات نهاية الخدمة في صندوق الضمان. هؤلاء يمثّلون مجمل العمالة النظامية في القطاع الخاصّ والمؤسّسات العامّة والعاملين في القطاع العامّ غير الخاضعين لنظام التقاعد والسائقين العموميين. هذه الشريحة المهمّة من القوى العاملة اللبنانية، التي يقع على عاتقها إعالة نحو 800 ألف فرد في لبنان، تقف اليوم في مقدّمة المُتضرّرين في حال انهيار سعر الليرة وانطلاق «غول» التضخّم، ليس لأنها تتقاضى أجورها بالليرة فحسب بل لأنها مُهدّدة بخسارة القيمة الشرائية لتعويضاتها.
وفق إحصاءات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تبلغ قيمة تعويضات نهاية الخدمة المُجمّعة في حسابات المضمونين نحو 11 ألف مليار ليرة لبنانية. 96% من قيمة هذه التعويضات موظّفة، إمّا في سندات الخزينة (52.8%) وإمّا مودعة بالليرة اللبنانية لدى المصارف (47.2%)، أمّا القسم الباقي فيُستعمل خلافاً للقانون لسدّ العجز في فرع المرض والأمومة، وذلك نتيجة تخلّف الدولة عن دفع مساهماتها في الصندوق ومراكمتها كدين مُستتر من دون فوائد.
هذا التركّز الشديد للتوظيفات في الليرة حصراً وفي سندات الخزينة والودائع فقط، يعرّض تعويضات المضمونين لدرجة عالية جدّاً من مخاطر سعر الصرف والتوقّف عن السداد، ويفقدها أي حماية.
في السابق، قدّمت اللجنة المالية الاستشارية المُكلّفة بوضع سياسات توظيف أموال الضمان، اقتراحات عدّة لتنويع محفظة التوظيفات (الاستثمار في مشاريع سكنية وصناديق استثمار) والعملات (نقد أجنبي وذهب)، إلّا أن مجلس إدارة الضمان لم يقرّها. لا ينفي مدير عام الصندوق محمد كركي الأمر، بل يعيده إلى «عدم موافقة السلطة السياسية على استبدال عملة أموال نهاية الخدمة أو التداول بها». لكن ماذا لو حصل انخفاض في سعر الصرف الليرة؟ يردّ كركي: «عندها الجميع سيكونون في خطر، الدولة والأفراد والمؤسسات والضمان، الكل متضرّر وليس فقط الضمان».
لا يوافق وزير العمل السابق شربل نحّاس على التسليم، مع إقراره بأن مسؤولية القرار هي سياسية بالدرجة الأولى. ويشير إلى وجود أشكال عدّة لحماية الذمم النقدية عموماً، إذ «يمكن التحوّل من شراء سندات دين الدولة إلى شراء عملات أجنبية أو ذهب». يقول نحاس: «تفترض الأوضاع الاقتصادية الراهنة التفكير بكيفية صون الأمن الاجتماعي والاقتصادي للناس. ونقطة الانطلاق هي التفاوض مع السلطة السياسية لجعل دين الضمان (أي سندات الخزينة التي توظّف فيها أموال نهاية الخدمة) ديناً ممتازاً، أي أن تكون له الأولوية على سائر دائني الدولة في حال تخلّف الأخيرة عن السداد، وبالتالي عليها أن تلتزم بتسديده أولاً، وأن تعوّض له أي خسارة ناتجة من سعر صرف الليرة في السوق أو أي غلاء وتضخّم ثانياً، فضلاً عن إعطاء أصحاب هذه الأموال قبل أي دائن آخر حقّ الشفعة من كلّ عملية بيع أصول أو خصخصة لموجودات الدولة في حال لجأت إلى هذه الآليات للتمكّن من دفع ديونها».
هذه الحلول لا تؤمّن إلّا حماية مُجتزأة، وفق ما يقول نحاس، وهي لا تطال سوى المصرّح عنهم في فرع نهاية الخدمة، إلّا أنها في الأوضاع الراهنة تتّسم بالأولوية، ويجب أن تجد محلّها على جدول الأعمال، إذا كان هناك من لا يزال يحرص ولو قليلاً على الأمن الاجتماعي.