القاهرة | لم تتأخر كثيراً الولايات المتحدة، بإدارتها الحالية أو المقبلة، عن التعليق على الحملة القوية التي تشنها السلطات المصرية ضد «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية». الخارجية الأميركية قالت في بيان مساء أمس، إنها تشعر «بقلق بالغ إزاء اعتقال موظف ثالث في المبادرة»، مضيفة: «نحثّ الحكومة المصرية على إطلاق سراح هؤلاء المعتقلين واحترام الحريات الأساسية للتعبير». وبالتوازي، هاجم العضو الديموقراطي في مجلس الشيوخ الأميركي بيرني ساندرز نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، قائلاً إن الموجة الأخيرة من الاعتقالات للناشطين في المبادرة المصرية «مثيرة للغضب»، ومضيفاً: «على الإدارة الأميركية المقبلة أن توضح لمصر وجميع البلدان أنها ستدعم الديموقراطية لا الديكتاتورية».بعيداً من هذا الهجوم الذي يتطابق مع التخوفات المصرية الرسمية من الإدارة الجديدة، فإنه رغم التضييق المستمر على العمل الأهلي منذ وصول السيسي إلى السلطة وإقرار قانون الجمعيات الأهلية المقيد لمنظمات حقوق الإنسان وتعديله لاحقاً، استطاعت «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» التي تعدّ من أعرق المنظمات الحقوقية وأقدمها (تأسست عام 2002) أن تتأقلم مع ضغوط السلطة، وأن تتفاوض في أحيان كثيرة للوصول إلى صيغة وسطية تضمن استمرار أعمالها بما لا يخالف الضوابط التي تخنق العمل الأهلي. لكن استباق المبادرة لزيارة عدد من السفراء الأوروبيين إلى مقرها من أجل مناقشة أوضاع حقوق الإنسان بإصدار تقرير حول إعدام 53 شخصاً خلال الشهر الماضي (راجع عدد السبت 7 تشرين الثاني)، وهو رقم يعادل تقريباً أعداد الإعدام المنفذة سنوياً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وما أعقبه من ردود فعل محتملة للسفراء الأوروبيين ودولهم، كل ذلك دفع الأجهزة الأمنية إلى التحرك سريعاً وخاصة بعدما لم تتمكن من معرفة طبيعة ما دار خلال الاجتماع الذي أُحيط بسرية كاملة من المبادرة، فضلاً عن إعلانه بعد انتهائه.
عمل المبادرة يرتكز على ملف حقوق الإنسان عامة وقضايا الحق في الجسد والحياة والإسكان بصورة رئيسية، لكنها تبنّت القضايا المرتبطة بملفات حساسة؛ بينها قضايا المثليين والإعدامات منذ نظام الراحل محمد حسني مبارك، الأمر الذي لم يعد نظام السيسي يتحمله اليوم، ليس بسبب التخوف من رد الفعل الغربي فقط بل لأن المبادرة هي الكيان الحقوقي الوحيد المتبقي في الداخل ويقدم تقارير تنتقد النظام وقراراته. حتى قبل رئاسة السيسي في 2014، نجح الجيش في تحويل وجهة غالبية المنظمات لتكون داعمة لقراراته، بل حتى الحقوقيون الذين انتقدوا مبارك هم أنفسهم تغاضوا عن انتهاكات نظام السيسي ودعموه، ومن هؤلاء مثلاً مدير «المنظمة المصرية لحقوق الإنسان»، حافظ أبو سعدة، وآخرون، في وقت فضّل فيه بعضهم مثل مدير «مركز القاهرة»، فضل بهي الدين حسن، نقل نشاط المركز إلى تونس بسبب المضايقات الأمنية، لتبقى المبادرة بمفردها في موقع المعارضة.
أكثر من ذلك، وقبل سنوات، فضّل مؤسسها ومديرها لأكثر من 14 عاماً، حسام بهجت، الاستقالة، لوقف جزء من المضايقات وخاصة مع بداية إصدار مبادرته تقريراً عن الانتهاكات في السجون، ليجري توقيفه والتحقيق معه مرات عدة. كما أن الأمن أوقف قبل أشهر أحد الباحثين في المبادرة بتهم فضفاضة كالتي يتعرض لها أي معارض. لكن التقرير واللقاء الأخير مع السفراء دفع الأمن إلى خطوات عقابية سريعة، فأوقف المدير الإداري، وبعد تحقيقات مطوّلة معه، اعتُقل المدير التنفيذي ومدير العدالة الجنائية، المحامي كريم عنارة، وهو المسؤول الرئيسي عن إصدار تقرير الإعدامات، وقد كان يقضي إجازة في مدينة دهب (جنوب سيناء). وبجانب الرد الأميركي، أثارت عمليات الاعتقال الخارجية الفرنسية لتصدر سريعاً بياناً، تبعه إصدار وزير الخارجية المصري، سامح شكري، استنكاراً لـ«التدخل الفرنسي في الشأن المصري». وهذا لم يزد من قلق العاملين في المبادرة على حياتهم فقط، بل من قدرتهم على الاستمرار جراء الملاحقات الأمنية التي تصاحبها حملة إعلامية لتشويه عملهم.
أما الاتهامات القانونية التي يجري بموجبها التحقيق مع المسؤولين الثلاثة الموقوفين، فهي كما تنقل مصادر مرتبطة بـ«نشر شائعات ودعم أنشطة جماعة إرهابية محظورة (الإخوان المسلمون)»، فضلاً عن «مخالفة القانون في طبيعة عمل المبادرة بصفتها شركة لكنها تمارس أعمالاً مخالفة لقانون العمل الأهلي وتعديلاته الأخيرة»، وهو ما لا يمكن تصنيفه كمصادفة ولا سيما أن مقر المبادرة معروف للسلطات منذ سنوات. وحتى الآن، لا تبدي الأجهزة الأمنية أي مرونة في التعامل مع أعضاء المبادرة الذين لم يرتكبوا أخطاء قانونية بشهادة محامين، بل عمدوا إلى توثيق ما يصدرونه من تقارير وفق المصادر المتاحة. لكن لم تصدر النيابة العامة أي بيان بشأنهم، فيما رفضت «الداخلية» توضيح أسباب التوقيف أو التطرق إلى القضية على أنها «بيد جهات التحقيق المختصة». المفارقة أن أعضاء المبادرة الذين كانوا يتحركون قبل أسابيع لتقديم الدعم القانوني إلى المختفين قسراً والموقوفين على يد «زوّار الفجر» هم أنفسهم اليوم بيد جهات غير معلومة ويجري استجوابهم في مقار تابعة لجهاز «الأمن الوطني» («أمن الدولة» سابقاً) من دون إبلاغ محاميهم!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا