الحرب النوويّة الإلكترونيّة: جولة أولى لـ«Apple»

«مصمّم للبشر». بهذا الشعار تسوّق أكبر شركة تكنولوجيا في العالم هاتفها الذكي الأحدث، «Galaxy S3». يلقى هذا الجهاز الجبار رواجاً لافتاً في أوساط المستهلكين ومجتمع الأعمال على حدّ سواء، كما سابقيه من المجموعة نفسها ويُحقّق للعملاق الكوري الجنوبي الأرباح الدسمة. ولكن إحدى الكلمتين من الشعار تنقصها الشفافية الكاملة؛ وبالتأكيد ليست كلمة «البشر»!

غياب الشفافية على صعيد التصميم ليس مسألة عابرة، فهو يضع شركة «Samsung» اليوم في أحد أصعب المواقف التي واجهتها منذ تأسيسها عام 1938. فهي خسرت أخيراً معركة قضائيّة حامية الوطيس ضدّ غريمتها في هذه السوق، الأميركية «Apple»، تتعلّق بحقوق التصميم وبراءات الاختراع التي تزعم الأخيرة أنّ منافستها سرقتها.
امتدّت المعركة فعلياً في المحاكم نحو شهر (بين جلسات استماع ومرافعات). وصدر الحكم في الولايات المتّحدة بنهاية الأسبوع الماضي ويقضي بتغريم الشركة الكورية 1.05 مليار دولار لانتهاكها براءات الاختراع الخاصة بتصنيع وتغليف وترويج أجهزة «iPhone» و«iPad».
فعلى ما يبدو، ووفقاً لمزاعم الشركة الأميركية، عمدت «Samsung» إلى نسخ ابتكاراتها لتطوير أجهزتها الإلكترونية الخاصّة. تبدأ الاتهامات على صعيد التصميم الخارجي _ الحواف المستديرة _ لتصل إلى طريقة التغليف وتقديم المنتج إلى المستهلك، مروراً بأساليب تحريك الشاشة وتوزيع الأيقونات المختلفة عليها (Multi Touch, Pinch & Zoo, Icons Display...) (راجع الرسم التوضيحي المرفق).
الحكم قد يعني أن الشركة الآسيوية التي قدّمت خلال السنوات الماضية نموذجاً فريداً عن الشركات العائلية التي تحوّلت عملاقاً إدارياً ناجحاً، لن تتمكن من بيع هواتفها وأجهزتها اللوحية (Galaxy Tablets) في السوق الأميركية. ومن المفترض أن تبتّ المحكمة الأميركية الخاصّة في 20 أيلول المقبل هذا الشأن، وما إذا كان سيُسمح لها بالاستمرار باستخدام التكنولوجيا المثيرة للجدل أو التوقف عن ذلك كلياً وسحب منتجاتها من السوق.
سعت «Samsung» إلى احتواء نتيجة المحاكمة التي تُعدّ الأكبر على الأراضي الأميركية منذ سنوات طويلة؛ وهدفت حتّى لتحويلها إلى ملعب آخر كلياً، إذ قالت إدارتها في بيان يهدف إلى طمأنة المعنيين من مستهلكين، مساهمين وموظفين، إنّها «تشعر بخيبة أمل كبيرة» بنتيجة الحكم، واعتبرت أنّ ما خلصت إليه الأمور يُعدّ «انتصاراً لـ Apple وخسارة للمستهلك الأميركي».
وفي ردّ فعلها المباشر على الحكم، قالت الشركة إنّها ستلجأ إلى الاستئناف، ما يُدخل القضية في نفق قضائي قد يمتدّ أشهراً، بل حتّى سنوات. غير أنّ المتابعين للقضية يُشيرون إلى أنّ فرص قلب الحكم ضئيلة جداً.
تُعدّ الغرامة الأكبر من نوعها في القطاع، وهي كبيرة بالمعايير المطلقة وحُدّدت من منظور الأرباح التي حققتها الشركة المتهمة والخسائر التي تكبدتها غريمتها من جراء عملية نسخ التقنية عوضاً عن ابتكار تقنيات خاصّة أو حتّى شراء التقنيات المستخدمة من الشركة الأم. ولكن بحسب معايير «Samsung»، ليست الغرامة قضية كبيرة، فالشركة تتمتع بمستوى عال جداً من السيولة الاحتياطية، كما أن أرباحها في الفصل الثالث من عام 2012 ستبلغ نحو 6.6 مليارات دولار.
في المقابل، تكمن المشكلة الأكبر للشركة في التداعيات الأخرى للحكم. فالولايات المتّحدة هي السوق الأكبر للمنتجات الإلكترونية عالمياً، والتفكير بخسارة هذه السوق هو كابوس تجاري فعلاً.
غير أنّ هذا الكابوس ليس حالة مفاجئة، وقد ظهرت إرهاصاته في لحظات عديدة خلال السنوات الخمس الماضية حين انطلقت شرارة التنافس على خيارات المستهلكين مع طرح «Apple» هاتفها الثوري «iPhone» الذي أعاد تعريف عملية تفاعل المستهلك مع هاتفه الذكي وفي ما بعد مع حاسوبه اللوحي.
فمنذ ذلك الحين، سعت الشركات المختلفة في عالم التكنولوجيا إلى السيطرة على حصص متزايدة من السوق. وهكذا ولد التحالف الصلب بين «Google» و«Samsung» عبر استخدام البرنامج التشغيلي «Android» في الأجهزة التي تصنعها الشركة الكورية. تحالف هزّ عرش «Apple» الذي بدا في لحظة ما أنه لا يُهزم، حيث جمعت الشركة التي نهضت من الحضيض مع عودة مؤسسها ستيف جوبز إلى الإدارة في بداية الألفية، بين التصاميم البسيطة والمبتكرة القريبة من رغبات المستهلكين، القوة في الأداء، إضافة إلى البرامج السهلة التي تُشكّل أساس إغراء شرائح المستهلكين كافة.
استخدام «Android» لتشغيل الهواتف الذكية والحواسيب اللوحية زحف إلى المصنعين الآخرين، ووصلت الأمور إلى درجة أنّ نحو ثلثي الهواتف الذكية التي شُحنت من المصانع إلى مختلف الأسواق في الربع الثاني من عام 2012، كانت مجهّزة بهذا النظام التشغيلي؛ ما يعني أنّ قطعة «Apple» من جبنة تكنولوجيا المستهلك تتقلّص.
رصدت الشركة الكاليفورنية ارتفاع حرارة الخطر الذي تتعرض له لدرجة أنّ ستيف جوبز نفسه قال في كتاب ذكرياته _ الذي يحمل اسمه وخطّه الصحافي والتر آيزكسون _ إنّ «Samsung» سرقت ميزات أساسية من البرنامج التشغيلي الخاص بـ«Apple»، المسمّى «iOS»، وإنّه سيشنّ «حرباً نووية» عليها.
هكذا استمرت طبخة الصراع على النار لفترة، سعى خلالها عمالقة السوق إلى التحوّط من التداعيات القضائية لخياراتهم التكنولوجية. فعلى سبيل المثال، استحوذت «Google» على شركة «Motorola Mobility» في صفقة قيمتها 12.5 مليار دولار، للإفادة من المحفظة الهائلة من براءات الاختراع التي تتمتع بها هذه الشركة الأميركية.
وقد عوّل شركاء آخرون لعملاق الإنترنت _ بينهم «HTC» التايوانية وحتّى «Samsung» نفسها _ على تلك الصفقة لحماية منتجاتهم من هجوم «Apple» عليهم وتهديد منتجاتهم؛ ولكن يبدو أنّ الدرع التي يتسلحون بها لا تقيهم غضب الشركة التي تتمتع بعلامة تجارية مميزة وجذابة في آن (ببساطة تفاحة!) بدليل الحكم الذي صدر أخيراً.
«توضح الشراسة التي خاضت بها Apple معركتها مع Samsung مدى تأثرها سلباً بالتحالف الذي أنشأته الأخيرة مع Google» يُعلّق خبير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، المستشار في وزارة الاتصالات اللبنانية، طوني حايك. «فالتحالف يقوم على تكنولوجيا عالية الجودة تعتمدها الشركة الكورية، وعلى بيئة البرامج المميزة التي يطورها محرك البحث الشهير».
يوضح هذا الخبير أنّ ما يجري في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على الصعيد العالمي حالياً عبارة عن «حرب كبرى من المتوقع أن تستمر بشراسة في المستقبل». وبرأيه، اتخذت هذه الحرب منحى جديداً مع القضية الأخيرة التي حسمتها محكمة سان فرانسيسكو، حيث أضحى العقاب بفرض الغرامات إحداثية جديدة.
فمنذ أكثر من عام بقليل، هاجمت الشركة الأميركيّة غريمتها «Google» حول تسمية المتجر الخاص بالتطبيقات الذي أطلقته الأخيرة. اضطرّ محرك البحث الذي يُعدّ الشركة الأكثر شباباً بين جميع اللاعبين (تأسس عام 1998) إلى تبديل تسمية متجره مرتين، وصولاً إلى اعتماد «Google Play».
«هناك كم كبير من الأمثلة حول الصراعات التي تدور حالياً في هذا المضمار، ولكن الضربة التي وُجّهت لـ Samsung أخيراً تُعدّ الأكبر وكأنّها عملية دفاع محصّنة لضمان استدامة Apple مستقبلاً»، يُتابع طوني حايك. «فليس من الهيّن أبداً أن تضمن هذه الشركة حصصها في سوق يُشغّل فيها يومياً ألف هاتف ذكي جديد يعتمد على برنامج Android».
لذا، تبدو معركة «Apple» الأكبر ضدّ «Google» التي لم تتورع عن تصنيع هاتفها الخاص (بالتعاون مع «Samsung» نفسها) وطرحه في الأسواق بنهاية العقد الماضي. حينها برّر المسؤولون في الشركة خطوتهم صوب الهواتف الذكية بالقول: لو لم ندخل هذا الميدان لكان بقي خاضعاً للاحتكار.
وبالفعل، فإنّ آليات ضمان الاحتكار أو ضمان المنافسة على أسس شفافة هي المحركات الأساسية في مضمار الحرب هذا. والأمور تأخذ مناحي مختلفة في كلّ حالة، بل قل في كلّ بلد.
ففي المواجهة القائمة بين «Apple» و«Samsung»، حكمت محكمة كورية جنوبية في اليوم نفسه الذي صدر فيه الحكم في كاليفورنا بأنّ الشركتين مذنبتان كونهما تبادلتا انتهاك براءات الاختراع؛ وقضى القرار بمنع بيع بعض من أجهزة العملاقين في البلد الآسيوي.
ولكن على الرغم من شراسة الصراع القائم وآخر نتائجه، يرصد البعض إيجابيات مفيدة للمستهلك. فعلى صعيد براءات الاختراع، سيدفع الحكم الذي صدر بحقّ «Samsung» المصنّعين الآخرين إما إلى شراء حقوق بعض البراءات (Patents) من «Apple» وإما إلى ابتكار براءات خاصّة بهم لضمان عدم المساس بمنتجاتهم عن طريق القضاء.
والأمور تنحو صوب مزيد من التعقيد في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، يرى بعض الخبراء أنّ انتصار «Apple» الأخير يُعدّ نقطة إيجابية لصالح شركة «Microsoft»؛ والشركة الأخيرة بحاجة ماسة إلى عوامل الدفع في هذه الفترة تحديداً بعدما ظهر أنّ تحالفها مع الشركة الفنلندية المتعثّرة «Nokia» يصطدم بعوائق كثيرة.
الغرابة في الأمر هو أنّ «Microsoft» كانت المنافس الأساسي لـ«Apple» في سوق الحواسيب الشخصية. وقبل 20 عاماً تقريباً، خسرت الأخيرة معركة مماثلة لتلك التي ربحتها أخيراً، في صراع بدا أزلياً على عرش الصناعة التكنولوجية الأميركية.
هكذا يبدو جلياً أنّ هناك حركة مستمرة لإعادة التموضع في هذا الصراع. وعندما يكون المتنافسون من عيار الشركات المعنية، يُصبح الصراع التجاري «حرباً» كما يطيب للخبراء والمعنيين تسميتها.
الآن تتركّز أعين الجميع على ما ستطرحه «Apple» في أيلول المقبل: النسخة الأحدث من «iPhone» وما إذا كانت ستحمل على متنها ابتكارات جديدة تعكس روحية ريادة التصميم التي صبغها الراحل ستيف جوبز في الشركة. كذلك سيترقّب الجميع كيف ستكون ردود «Samsung» وعمالقة التصنيع الآخرين على صعيد الابتكار أيضاً.
والإشارات حالياً توضح أن المرحلة المقبلة من الحرب ستكون أكثر ضراوة، الخاسر فيها سيتعرّض للعقاب التجاري أو القضائي، فيما عنوان النجاح هو الابتكار لأسر عقول المستهلكين وقلوبهم ودفعهم صوب عادات تكنولوجية جديدة.

أنقر هنا للإطلاع على الصورة المكبرة





12 مليار دولار

الخسارة التي تكبدها سهم «Samsung» أمس بعد تراجعه بنسبة 7.5% نتيجة الحكم ضدّ الشركة. في المقابل، ارتفع سهم «Apple» إلى أعلى مستوى في تاريخه، حيث كسب 2% مع زيادة ثقة المستثمرين في الشركة التي تستعدّ لإطلاق «iPhone 5» الشهر المقبل




ربح مباشر... وخسارة مرتقبة

لن يكون انتصار «Apple» في الحكم الأخير الذي صدر في الولايات المتّحدة عبارة عن برد وسلام أبديين؛ إذ وفقاً لما يلاحظه مصرف «UBS» السويسري في ورقة بحثية أخيراً، ستفيد الشركة من فوزها في المدى القصير؛ إذ تدفع النتيجة المصنعين إلى ابتكار تصاميم جديدة، وهو أمر لن يكون سهلاً نظراً إلى براعة الشركة الأميركية في هذا المجال واحتكارها للعديد من الميزات. لكن على المدى الطويل قد تتأذّى «Apple» إن توصل منافسوها إلى ابتكارات جديدة تجعل اللعبة عند مستوى آخر كلياً. وفرص تحوّل كهذا تكون أكبر إن وسّع المنافسون إطار تفكيرهم.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي