كلّ هذا بات من الماضي «بعد 63 سنة في المصلحة انتهيت من مصمّم إلى كندرجي». لم يكن هاغوب يتصوّر في أسوأ أحلامه أن ينتهي به الحال هكذا. أمجاد تلك الأيام كانت تعده بالكثير، من تكبير الورشة، إلى معمل ينتج ماركة معروفة على مستوى العالم باسم جاكسون. أحلام بدأت بالتدحرج مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي «خرب معها كل شيء» وبدأت رحلة تهجير جديدة. هذه المرة كانت الوجهة إلى عنجر. بقي هاغوب هناك فترة طويلة أنفق خلالها كلّ مدّخراته. استمرّت الأشغال لكن ليس بالزخم الذي عرفته قبل الحرب، وأتت الضربة القاصمة مع نهاية الحرب وإغراق الأسواق اللبنانية بالبضائع القادمة من الصين وتركيا والهند... وراح معها كل أمل للصناعات اللبنانية التي بقيت من دون أي حماية لتنكفئ مع خروجها من المنافسة. يتحدث هاغوب عن تلك الأحذية الجاهزة «المصنوعة من البترول غير المعمّرة والتي لا تخدم كثيراً بعكس ما عُرفت به الصناعة اللبنانية الذائعة الصيت».
صمّم أحذية لصباح ولفرقة فهد العبدالله وللممثلين في مسرحية صيف 840
برغم ذلك، بقي لهاغوب زبائنه الأوفياء من محبي الذوق والصناعات اليدوية، ومعظمهم من المغتربين. يقصدونه كلما أتوا إلى لبنان ليصمّم لهم أحذيتهم المميزة من الجلد الطبيعي. لكن هذا لا يكفي هاغوب الذي يعيش بلا ضمان اجتماعي وتأمين صحي. حاله كحال جميع الحرفيين والصناعيين وخصوصاً في المهن الصغيرة والمتوسطة. أما الحال اليوم فهو أسوأ من أي وقت مضى مع الانهيار الاقتصادي في لبنان، والذي فاقمه انفجار المرفأ في 4 آب 2020 قاضياً على مشغله الصغير قبل أن يعيد ترميمه.
«اليوم أعمل في تصليح الأحذية المهترئة، لكي أحصل على مبلغ لا يطعمني منقوشة زعتر». فالناس هنا بحسب هاغوب «كلّو معتر بيحارجني ليصلح صباط رغم أن سعر الباتيكس (التلصيق المستخدم) 4 دولارات». عندما يشرح هاغوب للناس التكاليف التي يدفعها ليصلح الأحذية من اشتراك كهرباء، قماش، ضبان، نعال وحتى جلود من دباغة يتعامل معها... يجيبونه «ما تحكينا دولار أحكي لبناني».
يعاني هاغوب من أمراض الضغط والسكري والكولسترول. بعض الجمعيات تساعده في ثمن بعض الأدوية. وأحياناً يقصد جمعيات أخرى لتدعمه في ظلّ الغلاء الفاحش وانقطاع الدواء. وحتى «إن الكثير من الجمعيات الأجنبية جاءت وأخذت بيانات بعد الانفجار وراحت ولم تساعدنا بشيء». في السنة الماضية أجرى عملية قسطرة للقلب كلفته 12 مليوناً «هالمرة قدرت أمن المبلغ وناس ساعدوني، ولكن مرة تانية يمكن ما في حدا كل الناس وضعها صعب!».
«بكرا أنا ما بيفكر شو بصير». يحاول هاغوب أن يكون مرحاً «وإلا بموت سكتة قلبية». يردّد غالباً أغانيَ حفظها أيام الزمن الجميل، يسمع لمايكل جاكسون، وتوم جونز، وشارل أزنافور، كما يستمع لأم كلثوم وفريد الأطرش... يضع على رأسه قبعات الكاوبوي التي صمّمها بنفسه، ويرتدي أحذية ويسترن من تصاميمه.
لا يزال هاغوب يحلم، رغم أن أغلال الواقع كبّلت خياله الجامح لكنها لم تستطع تكبيل ضحكته وأحلامه.