الإغلاق القسري الناجم عن تفشي فيروس «كورونا» يأتي بعد أشهر من أزمات مالية واقتصادية حادة، كانت نتيجتها خسائر فادحة في المداخيل، وارتفاع في أعداد المصروفين من العمل وتخفيضات على مداخيل من بقوا في وظائفهم. وإلزام الناس بالحجر المنزلي له تبعات كارثية على المياومين والأعمال الحرة والأجراء، وكل من ليس لديه مدخول ثابت. لذا، يجب التدخل سريعاً لتأمين سبل الصمود المالية لهذه الفئات، وتفادي انهيار اقتصادي واجتماعي شامل.هدف هذا الاقتراح هو توزيع تعويضات مالية مباشرة على لبنانيات ولبنانيين، فوق 18 عاماً، ممن فقدوا مداخيلهم بعد 21 شباط الماضي، أو الذين لم يتعدّ دخلهم الشهري في الستة أشهر الأخيرة 675 ألف ليرة، على أن يكون الدعم المقترح لهؤلاء 500 ألف ليرة شهرياً، وعلى مدى 3 أشهر قابلة للتجديد، تصرف ابتداءً من منتصف نيسان المقبل. ويُحصر عدد المستفيدين بشخصين في كل أسرة كحدّ أقصى، على أن يستثنى من هذا الدعم أي شخص حافظ على دخل شهري يزيد على الحد الأدنى للأجور (675 ألف ليرة) من وظيفته أو عمله أو مدخراته، وأي شخص لديه حساب مصرفي بأكثر من خمسة ملايين ليرة.
يعتمد هذا المشروع على الرقابة اللاحقة لا المسبقة، إذ يمكن وضع معايير واستمارات وطرق للاستهداف أكثر صرامة، لكنها ستستغرق وقتاً أطول للتطبيق وكلفة أعلى، فيما توزيع مساعدات بطريقة شاملة مع ضوابط أولية يمكن التأكد منها بطريقة سريعة (مثل استثناء أصحاب الحسابات والسيارات الجديدة مثلاً) أفضل في حال الطوارئ، مع إمكانية رقابة لاحقة على عيّنة ممن استفادوا من المساعدات بعد الشهر الأول.
يقدر حجم القوى العاملة اللبنانية بنحو 1,7 مليون شخص، منهم 170 ألف باحث عن العمل، و700 ألف عامل غير نظامي. وإذا احتسبنا أن نصف العمال النظاميين في القطاع الخاص و75 في المئة من غير النظاميين قد فقدوا مداخيلهم، يكون مجموع المحتاجين إلى الدعم مع العاطلين من العمل نحو مليون شخص، علماً بأن عدد الفقراء في لبنان يناهز 1,3 مليون، وعدد ذوي الحسابات المصرفية التي تقل عن 5 ملايين ليرة يصل الى 1,7 مليون. بذلك، تقدر الكلفة الاجمالية الشهرية للمشروع بـ520 مليار ليرة (1560 مليار ليرة على ثلاثة أشهر)، مع تقدير كلفة ادارته ومراقبته بنسبة لا تتعدى 3%. وتمثل هذه المساعدات أقل من 8% من مجمل الانفاق الحكومي المقدر في موازنة 2020. ويمكن أن تقترض الحكومة المبلغ المطلوب بالليرة اللبنانية من مصرف لبنان الذي يمكنه شراء سندات خزينة من السوق الثانوية بعملية سريعة. كما يمكنها الاقتراض من جهات مانحة دولية، قروض طوارئ مخصصة لأزمة «كورونا». كما أن من شأن فرض ضريبة استثنائية قدرها 1% على الودائع فوق المليون دولار، أن تؤمّن نحو 800 مليون دولار سنوياً.
من ناحية الأثر الاقتصادي، عادة ما يترافق طرح سيولة جديدة في الاقتصاد مع مخاطر تضخم، إذ ترتفع الكتلة النقدية بالعملة المحلية، وتولّد ارتفاعاً في الطلب العام، الذي يؤدي بدوره إلى رفع الأسعار. الا أن الواقع يختلف في لبنان، حيث مكوّنات التضخم الأساسية هي عوامل خارجية (مثل سعر النفط وأسعار الصرف)، وهذه حالياً منخفضة، فيما فترة المساعدة القصيرة (3 الى 6 أشهر) غير كافية لتنتج ارتفاعاً كبيراً في الطلب العام والأسعار، خصوصاً أن المبلغ الاجمالي يشكل أقل من 6% من كتلة العرض النقدية (M2). والى إنقاذ نحو مليون لبناني من الفقر والعوز الى حين انحسار الأزمة، تولّد عملية ضخ هذه المساعدات المالية أثراً إيجابياً على القطاعات الاقتصادية لناحية زيادة الطلب الاجمالي وأثر المضاعف المالي (multiplier effect) الذي يوازي 1900 مليار ليرة (نسبة 1,6 لكل مبلغ يصرف). أما في ما يتعلق بتسديد الدين الاضافي، فيمكن للحكومة إقرار ضريبة استثنائية على أرباح الفوائد لدى الثروات الكبيرة، وهي أكثر من كافية لتغطية هذا الإنفاق حتى إلى ستة أشهر.
يعتمد مشروع المساعدات المالية على الرقابة اللاحقة لا المسبقة


هذا الاقتراح يبقى أفضل من توزيع مساعدات عينية أو حصص غذائية، إذ إن هناك صعوبات لوجيستية لتأمين توزيع شامل وعادل للمساعدات العينية، إضافة الى الكلفة المرتفعة للتوزيع مقارنة بالمساعدات المالية المباشرة، فضلاً عن صعوبة تقدير الحاجات الغذائية لكل عائلة، وإمكانية ظهور سوق سوداء لبيع المساعدات. وعلى المدى القصير، تؤمّن المساعدات المالية المباشرة صمام أمان للعائلات ومصدر دخل ثابتاً لبائعي الغذاء، شرط مراقبة الأسعار وتأمين البضائع لدى هذه المحال.
ولا يعتمد هذا الاقتراح على برنامج دعم العائلات الفقيرة لدى وزارة الشؤون الاجتماعية، لأن لهذا البرنامج آليات لتوزيع المساعدات تستهدف فقط العائلات المسجلة لديه، ما يجعله غير مناسب للأهداف العامة لهذا المشروع.
يشبه هذا النموذج من المساعدات، المقترح هنا، ما يسمى الدخل الأساسي الشامل (Universal Basic Income) مع بعض التعديلات. وهو مطبّق حالياً في العديد من البلدان الأوروبية التي استدانت قروضاً طارئة من المصرف المركزي الأوروبي لتأمين دعم للشركات والمواطنين المتضررين. فإيرلندا، مثلاً، رصدت 3 مليارات يورو كدعم مباشر للدخل، وتسعى الولايات المتحدة الى توزيع بين ألف وألفي دولار للشخص كدعم شخصي مالي مباشر.
عملياً، يتم تشكيل هيئة خاصة لإدارة المشروع لدى رئاسة مجلس الوزراء، برئاسة قاضي(ة) يتم تعيينه(ا) من قبل مجلس القضاء الأعلى، وعضوية ممثلين عن وزارات المالية، والشؤون الاجتماعية، والاقتصاد، والداخلية والبلديات، والدفاع، والاتصالات، والتنمية الادارية ومصرف لبنان، إضافة الى ممثّل عن نقابة المحامين ومدقق مالي مستقل.
وبغية تنفيذ المشروع بسرعة وفاعلية، تقدم الطلبات عبر تعبئة استمارات إلكترونية من قبل الأشخاص أو من يمثلهم، وتتم مراجعة الطلبات وفق المعلومات المقدمة وإبلاغ أصحابها بأهليتهم للحصول على المساعدة بشفافية وسرية، على أن يتم التدقيق في أوضاع المستفيدين تحت طائلة فصلهم من البرنامج في الشهر الثاني إذا كانت معلوماتهم خاطئة. وتتم الموافقة من قبل مقدّمي الطلبات على رفع السرية المصرفية عن حساباتهم. ولدى الحصول على المساعدة، يتم إعطاء المستفيدين فترة سماح مجانية لهواتفهم لمدة ثلاثة أشهر، ويتم تحويل المبالغ للمستفيدين نقداً عبر شبكتي ليبان بوست وOMT في منتصف كل شهر، وفق وثائق تسلم إلكترونية شخصية يتم إرسالها الى كل مستفيد على هاتفه الجوال.

* اقتصادي لبناني