يُحسب لنادين لبكي أنها تجيد استخدام الكاميرا، لجهة الجماليات البصرية. ويُحسب لها أنها تعرفت إلى زين أو بلغةٍ أخرى جاءت من مكانٍ بعيد لتعترف بهِ. وهذا المكان البعيد هو المكان الذي عشّشت فيه السينما اللبنانية حتى تعفنت، والذي اعتاد أن يقيس العلاقات بين الناس على قواعد طوائفية، كما لو أن ذلك قدر محتوم، أو منهج ضروري للفهم والتحليل. وهذا ما استقام عليه الحال في شريط لبكي الفائت «وهلأ لوين». هذه المرة، يُحسب لها أنها حاولت الذهاب أبعد من ذلك. اكتشفت زين ورحيل وهاروت وكارثة الزواج المبكر. لكن المزج بين جميع هذه الشخصيات لامس الافتعال في أكثر من مناسبة، ما أفقد الحبكة جزءاً من قوتها. وعلى الأرجح، هذه الحبكة لم تفقد قوتها عندما عُرِض الشريط في «كان»، لأن المشاهدين ليسوا كتلةً واحدة دائماً. ذلك أن زين ليس اكزوتيكياً في لبنان، بل هو واحد منّا. لاجئ بين لاجئين. فقراء مثله آخرين. لكنه في مكانٍ آخر قد يصير لافتاً. وبلا أي حسابات مؤامراتية، لا يُحب الكثير من «البِيض» (لا يعرفون أنهم بِيض) أن يكتشفوا أن الآخر يعاني من مشكِلة سببها طبقي، إنما يحب هؤلاء إشباع فِكرة أساسية مفادها أن الآخر هو نفسه المشكلة. ولهذا، فإن الحي المجهول، كان يجب أن يُنتِج كل هذه المشاكل دفعةً واحدة. كان يجب أن نرى الدم على السرير، وأن تموت شقيقة زين، وأن يكون الدكنجي مغتَصِباً، وأن يكون المهرِّب أجنبياً... وأنه لا يوجد أشخاص طيّبون في هذا الحي، ولا أي شخص في الشريط بأكملهِ إلا من خارج الحي.
يُحسب لنادين لبكي أنها تجيد استخدام الكاميرا، لجهة الجماليات البصرية
لا يوجد طيّبون إلا رجل الأمن الذي أعاد الطفل إلى العامِلة، ورجل الدولة الذي نفذ شروط نظام الكفالة بأمانة، والقاضي الذي يبدو لطيفاً في الفيلم، وطبعاً المحامية التي أنقذت الطفل في النهاية. وفي النهاية، الصيغة التعليمية التي تقترحها الحبكة من المشهد المستورد من مخيال بلا أي أساس عقلاني يتمثل بطفل يحاكم والديه في محكمة، وصولاً إلى موضةٍ أخرى تتجاوز ذلك فظاعة، وهي تحميل الفقراء مسؤولية فقرهم، إنما هي صيغة أقل ما يقال عنها إنها تنصل كبير من المواجهة. ويذكّر الطرح الذي يطرحه الفيلم بما يرد عن كارل ماركس، في «نقد فلسفة الحق عند هيغل»، عندما يسخر من المثالية البورجوازية. يتحدث ماركس عن «نقطة شرف روحية»، تشكّل مدخلاً للتعرف إلى ما يتوجب أن نعترف به حين نواجه الآخرين مباشرةً. أي إنه، ولكي نواجههم، يجب أن نضع وجهنا في وجوههم. لا يمكن أن نرى وجوههم من دون أن يروا وجهنا، لأن كلمة «مواجهة» بذلك تفقد معناها. وفي هذه الحالة، يصبح النظر إلى الهامشيين، من دون النظر إلى الذين يحتلون المركز والمساحات وأمكنتهم، نوعاً من معاينة تستجدي التعاطف المتبوع بالتسليم، ولا يصلح لأن يكون مواجهة. وبذلك فإنه ليس حدثاً عادلاً.
تعرّف «كفرناحوم» إلى زين، لكنه لم يعترف بهِ، وبحقه في بلورة تصور شخصي عن العالم. لقد ابتسم في نهاية الشريط، وجميع الذين في السينما سألوا أنفسهم، بعد كل ما حُمِّل من أفكار تتجاوز عمره، وصلت إلى حد النداء، طفل مثل هذا لماذا يبتسم في السجن، وفي المحكمة، وفي هذا المكان الذي هو العالم. لماذا يؤمن شخص مثل هذا بعدالة على هذه الأرض، طالما أنه سيخرج إلى الحيّ نفسهِ ليجد كل شيء في مكانه، وطالما أن المسؤول عن فقر والديه لن يُحاسب. لماذا يوضع الطفل ضدّ والديه، بدلاً من أن يوضع مع والديه أنفسهم في مواجهة مع الذي تسبب بفقرهم. سيبقى الحي فقيراً، وفي أي حال هو كذلك منذ وقتٍ طويل ويتسع. ستبقى الإطارات على الأسقف تنتظر من ينزلها إلى الأرض ويشعلها. لأن زين والذين مثله لن يرتفعوا في حياتهم إلى النقطة التي بدأ منها الفيلم. سيكبرون ولن يذهبوا إلى المحكمة ليشهدوا ضدّ أهلهم. سيحبّون أهلهم، وإن أتيحت لهم النجاة، فلا يجب أن ينجون بالصدفة، في مركبٍ ذاهب إلى السويد، أو في ضربة حظ. لأن هذا ليس هو «الأمل»، بل هذا هو الوهم. زين وأصدقاؤه لن يخضعوا للسُلطة التي يحاول الشريط من أولهِ إلى آخره إخضاعهم إليها وتأطيرهم في حدودها: لن يقبلوا أن تحاكمهم الدولة التي فعلت بهم كل هذا.
* «كفرناحوم»: حالياً في الصالات اللبنانية