في «6 ب شارع قصر النيل»، أسّس «ميريت» التي دعمت الأدب الجديد في مصر، وتحوّل مقرّها محجّة للكتّاب الشباب والفنّانين والصحافيّين ومدمني القراءة. الناشر المهدّد دوماً بالسجن بسبب ديون الدار، يفخر بأنّه مستقلّ، ينتمي إلى اليسار، ومنشغل بترسيخ إبداع يجاوز المحظور... ويشعر بالنشوة كلّما أصدر كتاباً جديداً
محمد خير
انكشفت الرمال والأتربة في صعيد مصر عن تمثال جميل المحيّا. إنّها الأميرة ميريت آمون ابنة رمسيس الثاني. تمثالها الذي خرج إلى النور عام 1981 بلغ ارتفاعه 11 متراً. لكن ما جذب أنظار الشاب محمد هاشم إليها آنذاك هو شفتاها غير المعقولتين: «كأنها فَرَغت لتوّها من قبلة» يقول الناشر الذي احتفل قبل أسابيع بعيد ميلاده الخمسين. هكذا، أطلق اسم«أميرة» على ابنته الأولى. وعندما حقّق حلمه بتأسيس دار نشر، أطلق عليها مرةً أخرى اسم «ميريت».
«ميريت آمون تعني محبوبة الإله آمون»، ودار «ميريت» هي أيضاً محبوبة هاشم الذي احتفل منذ يومين بمرور عشر سنوات على تأسيسها... هذه الدار التي دعمت، بكلّ قواها، الأدب الجديد في مصر. الآن، تنتشر إصدرات «ميريت» في كل مكان، تحمل كل نسخة منها الـ«لوغو» الذي رسمه الراحل الكبير جودة خليفة: وجه تحدّده الظلال لأميرة فرعونية جميلة وصارمة، انبعثت بعد آلاف السنين لتسكن خلفيّة الروايات والدواوين وكتب السياسة.
في «6 ب شارع قصر النيل»، عنوانه الذي يحفظه المثقفون والقراء عن ظهر قلب، يجلس محمد هاشم وسط صخب يبدو أبدياً. تبدو «ميريت» دار ضيافة أكثر منها دار نشر. كتّاب وفنانون وصحافيون ومدمنو قراءة. لكل منهم مواعيده التقريبيبة، فصاحب المكان لا يعود إلى منزله قبل الفجر. يبدأ هاشم يومه في الدار منتصف النهار: أعمال إدارية متنوعة، متابعة أخبار الطباعة، ثم يبدأ الزوار بالتوافد. المقرّ الصغير يبدو ــــ من فرط الزحام ــــ في حالة إنهاك دائمة، لكنّه مريح ودافئ و... رحب أيضاً.
هاشم «الذي عمل لسنوات طويلة مسؤول تسويق في دار نشر «المحروسة»، يعرف جيداً كيف لا يجعل الناس «يزعلون» منه. مع ذلك، فالخلافات لا تنتهي، وغضب المؤلفين مشروع في بعض الأحيان. يعترف: «أهم أسباب غضب الكتّاب هو تأخير طباعة كتبهم، ببساطة لأنّ الدار تعمل فوق طاقتها وإمكاناتها بكثير». ويمكن التأكّد من كلام الناشر الذي صعد السلّم من أوله، عند النظر إلى عدد إصدارات «ميريت»: أكثر من 550 عنواناً في أقل من عشر سنوات، أي 55 إصداراً في السنة، والمتوسط كتاب كل أسبوع! إنّه معدّل كبير جداً، أقرب إلى برنامج مؤسسة حكوميّة منه إلى دار نشر محدودة الإمكانات، ليست شريكة لجهة ثرية، ولا مدعومةً من رعاة أو مموّلين.
يفخر محمد هاشم بأنّه مستقلّ، يعترف بمشكلاته المادية المزمنة، لم يغيّر منها كثيراً اهتمامه المتأخر بطباعة كتب لمؤلفين من أصحاب الشعبية لدى الشباب. «سنزيد اهتمامنا بتلك الكتب، لكن من دون تنازل، حتى نستطيع تحمّل تكلفة الأعمال المغامرة فنياً». وإلى أن ينفّذ «خطته»، فهو ما زال الناشر المهدّد بالسجن دائماً بسبب ديون المطابع المتأخرة. أصدقاؤه وأصدقاء الدار تدخّلوا كثيراً لإنقاذهما معاً، لكنّه لا يتعظ. ترك منزله إلى آخر أقل كلفةً ليسدد جزءاً من ديون النشر. لا شك في أنّ ذلك لم يجعل الأسرة سعيدة، لكنّه لا يستطيع أن يقاوم ملمس الغلاف الجديد. «كل الهموم تهون حين أمسك كتاباً جديداً في يدي». يبدو كلامه غريباً لناشر يطبع بذلك المعدّل المخيف، ويمسك «غلافاً» كل أسبوع... لكنّه لا ينتبه لذلك. يقول إنّه بكى عندما صدر أول كتاب عن «ميريت»، العناوين الأولى مالت إلى منحى نقدي وسياسي. أما التحول الذي دفع «ميريت» إلى صدارة مشهد الأدب الجديد فجاء تدريجاً. يشير هاشم بفخر إلى رفوف الكتب في الدار: «قدمنا عشرات الكتّاب من الأصوات الجديدة، وتحوّلت الدار إلى نموذج، فاتحةً الطريق للعديد من الدور الشابة التي انطلقت الآن».
لكنّ الرهان لم يكن أدبياً فحسب، كان جمالياًَ أيضاً. يشير هاشم إلى الدور الكبير الذي لعبه الفنان أحمد اللباد، وقد رسم معظم أغلفة «ميريت» وصممّها: «أراه شريكاً كاملاً، وأدّعي أنّنا رفعنا من مستوى غلاف الكتاب المصري. قبل «ميريت»، نادراً ما كنت تقع على ناشر مهتمّ بغلاف كتابه. الأكثريّة كانت تقدّم أغلفة «منفّرة». يمسك بكتاب صادر عن دار حديثة، يضعه إلى جوار كتاب أقدم من «ميريت»، قائلاً: «التأثر أحياناً يصل إلى الحد الذي تراه». ننظر، فإذا الغلافان حقاً متطابقان تقريباً.
«تعلية السقف» و«توسيع الهامش» عبارتان سحريتان تختصران رؤية هاشم للدور الذي لعبته «ميريت» منذ تأسست على يد عدد من الداعمين والمستشارين، أبرزهم حسنين كشك والراحلان سيد خميس، جودة خليفة، حامد العويضي وإبراهيم منصور الذي يراه هاشم دائماً «رائد الثقافة المستقلة في مصر، لأنّه لم يرضخ يوماً للمؤسسة”. “كذلك نحن في «ميريت» لم نطلب دعماً، ولم نرضخ لأي سلطة. ننتمي إلى اليسار لكنّنا لا نتبع أحداً، عملنا ما كنا نريد أن نعمله ورسّخنا وجود أدب بلا رقابة، إبداع يتميز باختراق التابوهات من دون التخلّي عن الجودة الفنية.
المفارقة أنّ أكبر المضايقات كانت تأتي بتحريض من المتطرفين لا الدولة. لكنّنا نجحنا في تقديم أكبر عدد ممكن من الأصوات. تلك الأصوات أيضاً كانت بدورها جزءاً من تجربة الدار. تحلّق الشباب حولنا وساعدونا ودخلنا معاً دائرة الضوء. الجوائز والترجمات التي حازها كتّاب الدار غزيرة ومتنوعة». لكنّ الجوائز كانت مصدر خلافات أيضاً. يؤكّد محمد: «ألّفنا لجنة لستُ عضواً فيها لاختيار الترشيحات لجائزة «بوكر» العربية وغيرها... بعض الكتّاب يتصورون أنني أتحيّز ضد مؤلفاتهم، وبعضهم حاول أن يلتفّ على عمل اللجنة كي أرشّح روايته. كنت أميناً مع الجميع بالتساوي ومع القارئ أيضاً».
يعمل محمد هاشم الآن على كتابة روايته الثانية. الأولى صدرت قبل سنوات تحت عنوان «ملاعب مفتوحة»، ويستلهم في الجديدة تجربة عمله في بلد عربي لسنوات. كان يعمل «نقاشاً، يدهن الجدران وعامل ورق حائط». بلى. وأحياناً، كان يوظِّف عمالاً وعندما يُفلس كان يشتغل بيديه عاملاً باليومية. ثم بدأ يراسل الصحف وينشر هنا وهناك. عاد إلى مصر منتصف الثمانينيات، وعمل في دار «المحروسة»، يقصّ الأخبار من الصحف ويصنّفها من أجل الملفات المعلوماتية التي كانت تصدرها الدار. 12 عاماً ترقّى خلالها حتى أصبح مديراً تنفيذياً، ومسؤولاً عن التسويق. لكنّه استقال عام 1998 ليؤسّس «ميريت» التي أصبحت كلّ حياته.


5 تواريخ

1958
الولادة في طنطا
1986
عاد من الأردن ليعمل في مجال النشر موظّفاً في دار «المحروسة»
1998
أسّس دار «ميريت» برعاية مجموعة من رموز الثقافة المصرية. وكان أول إصدارين: «الوجه الآخر للخلافة الإسلامية» (سليمان فياض)، و«العولمة والطريق الثالث» (السيد ياسين)
2005
تأسيس جماعة «أدباء وفنانون من أجل التغيير» التي ضمّت كتّاباً ومثقفين من المكرّسين والشبان، واختارت «ميريت» مقرّاً لها
2006
جائزة «جيري لابير» الدولية لحرية النشر التي يمنحها «اتحاد الناشرين الأميركيين»