ها، إنني أضبط نفسي واقفاً أمام بعض بيوت مخيم جباليا الشرقية، وأنا أفكر بتجوالي الذي يكاد يدمرني لكثرة ما رأيت ما لا تحب نفسي أن تراه، بيوت مهدّمة على نحو مهول وخرافي، بعضها أخذ بعضها الآخر إليه جذباً لشدة الدفع الذي أصابها، وبعضها انكبّ على وجهه، كأنه ما عاد يريد أن يرى شيئاً، وبعضها مال على جنبه ميلة لا راحة فيها ولا اطمئنان، لأنها قد تعاود السقوط والميلان أكثر إن هبّت عليها ريح قوية. والبيوت مشرّعة الأبواب تماماً، والنوافذ والحيطان والسقوف والغرف، لا شيء تضمره، ولا شيء تخفيه، حتى روائح من هم تحتها تشيع وتدعو كل من يقترب منها ألا يقترب. نعم، روائح مدوّخة، وغير مستحبة، وذباب بحجوم كبيرة، وبلون أزرق غير جميل، مع أنه لون بارق، يدور مثل نحل بري، يحط على الحجارة التي انفلتت من الجدران، ومن قطع الباطون التي تفلّقت، وعلى قطع قضبان الحديد التي ارتضت أن تكون أشلاء للبيوت المدمرة، وعلى أجزاء مهشّمة من أكواخ الزينكو التي ما عادت أكواخاً، ولا زينكو، وعلى ألواح الاسبست التي بدت لي وكأنها لم تنه صرختها بعد!
من مشروع "غارنيكا غزة" لمحمد الحواجري

أنا هنا في أطراف شارع العودة في جباليا، أواقف البيوت التي كانت بيوتاً، وأواقف الأشجار التي انحنت تحت ثقل الركام، فاختفت خضرتها وتبدّدت، وبريقها ما عاد بريقاً. وأواقف الشارع الذي كان شارعاً، فهو الآن مملوء ومكتظ بكل ما هو غير مألوف. أرى الصناديق المهشّمة، وعلب الكرتون، والملابس، والأواني، والبطانيات، والفرش واللحف، والمخدات، والحصر، والكتب، والأوراق، والزجاج المحطّم، والصحون، والأباريق، والكؤوس، والورود البلاستيكية، وإطارات الصور، وقطع الألمنيوم، والبلاط، والخشب، ولمبات الكهرباء، وأجهزة الكمبيوتر، وماكينات الخياطة، وعلب الزينة المخملية، والأحذية، وعلب التنك الصغيرة والكبيرة التي زُرعت فيها النباتات العطرية، والزهور المتعددة الألوان.
أرى أنّ كل شيء مما أراه، ها هو بادٍ أمامي، لكنه ليس في مكانه، فهذا الثوب النسائي، لعله من طلس أو حرير، ليس مكانه هنا في الشارع، وهذه القلادة، وعلبة الزينة، وهذه... لعلها مكحلة، وهذا المشط الطويل، وهذه الدبابيس التي توحّلت، وهذه الطاقية الصوفية، وتلك... إنها عباءة سوداء طويلة... كلها... ليس الشارع مكانها!
هنا، ثمة وحل، ومستنقعات صغيرة، تركها المطر الليلة الماضية، ربما للطيور، والدجاج، والكلاب لكي تشرب!
الكلاب، نعم. ها أنذا أرى كلاباً كثيرة تجول هنا، ها هي ذي حولي، وقربي، أراها لكأنها جزء من الشارع أو جزء من البيوت، أو جزء من المكان، إنها كلاب ترتدي ثياباً من غبار تشبه الثياب التي ترتديها البيوت وهي منهارة. كلاب من حجارة، وغبار، ورماد، وحركة بطيئة، ها هي في تباهت مميت، وأرى كلاباً مثلها... هناك، في الطرف البعيد، لكأنها تماثيل أو منحوتات غبارية أو حجرية لأنني أراها واقفة في مكانها! إنها كلاب متشابهة، صغيرها يشبه كبيرها، وكبيرها يشبه صغيرها، لا ألوان لها، ولا رشاقة، ولا نباح. صحيح، لماذا لا تنبح هذه الكلاب، إنها تنظر إليّ ببلاهة، مثلما أنظر إليها ببلاهة، لعلها تشبهني في شيء ما، فألفتني، أو لعلّني أشبهها بشي ما فآلفها. عجيبة هذه الكلاب، لقد قرأت لكتّاب كتبوا عن الحرب العالمية الأولى، كتبوا عن الكلاب، فوصفوها بأنها توحّشت في القرى والمدن التي دمرتها الحرب، أما هذه الكلاب فأراها ألوفة، لا وقاحة في نظراتها، ولا شراسة في حركاتها، ولا وهرة لها، ولا تربص، ولا غضب في وجوهها، مع ذلك سأظل حذراً منها!
أواصل سيري الهادئ وأشيح بنظري المتطاير من بيت إلى بيت، ومن دمار إلى دمار، ومن بقعة دم إلى بقعة دم، ومن سرب ذباب أزرق إلى سرب ذباب أزرق آخر، كل ما أراه يجعل قلبي يطرق في صدري لكأنه يريد الفرار أو الخروج ليرى ما أراه. هذه واجهة بيت ما زالت مرآته الأمامية الكبيرة باقية، عفواً الباقي منها هو نصفها فقط، النصف الآخر مشطور، وكسره مركومٌ بعضُها فوق بعض، أعيد مواجهتها كي لا أرى هيئتي، ومن زاوية نظري أرى نصف المرآة الذي ما زال مثبتاً في الواجهة وقد امتلأ بشجرة كينا عالية، وقربها حنفية ماء نحاسية راهجة اللون. وقرب باب البيت المدمر، يقف كلب، لونه غباري تماماً، لكأنه لا يقوى على النهوض، إنه يكتفي بالنظر إليّ، أهش عليه لعله يتحرك أو يهرب، فلا ينهض، ولا يهرب، يكتفي بمط رقبته إلى الأعلى، وينظر إليّ أنهره، فيعاود المشهد ذاته، أدقق النظر فيه، وفي كل ما هو حوله، فأرى كومة ركام كبيرة وثياباً، وقطع خشب تحيط به!
بدا لي كأنه حارس لباب البيت! أمر من أمامه، وأنا أهمهم لنفسي: ترى لو حاولت العبور إلى البيت، أينبحني؟ ولم أجب، لأنني تمنيت لو أنه يؤنس وحشتي هنا بنباح قصير، لأصير وإياه اثنين في هذا المكان! وهذا بيت أدنو منه فأرى براميل بلاستيكية مرمية أمامه، وخزان ماء تنكياً كبيراً مشقوقاً من أطرافه توسّط الشارع، وقطع خيش وكتان مقطّعة، وموقد خبز مهدوماً. هنا لا مرآة، ولا كلب، هنا حائط مرسوم عليه الكوفية الفلسطينية، أما الكلام فهو غير مقروء، وما عاد بمقدوري التقدم، بسبب الركام المهول. أستدير لكي أمشي بهمة كدت أفتقدها، وصوت الطائرات فوقي مثل سرب زرازير يظللني، أخرج من حقيبتي قنينة الماء، وواحدة من سندويشاتي التي أعددتها، وتخيرت مكاناً حسبته لائذاً ويخفيني عن عيون الطائرات المرحومة، وجلست فيه، كي آكل سندويشتي، وهي الثالثة اليوم، والدنيا لا تزال واقفة عند الظهيرة.
بعد وقت، والله ما عدت أعرف إن كان قصيراً أو طويلاً، واصلت سيري، ها أنا في الطرف الشمالي من مخيم جباليا أمشي، ويمشي معي الخراب، والدمار، وروائح أهل البيوت تحت ركامها المرعب، مثلما يمشي معي الخوف والحذر وصوت الطائرات الزنانة، وأخاف أن يظنني طيار إسرائيلي مجنون بأنني يحيى السنوار، فيرمي ما حملته طائرته من صواريخ ليقضي عليّ، نعم، أعي بأنه مجنون من يفعل فعلتي، فيمشي هنا وهناك لكي يرى من أجل أن يرى، ومجنون مثلي تماماً من لا يخشى جنون الطيارين الإسرائيليين الذين يحسبون كل شجرة، وكل بيت، وكل شارع، وكل نفق، وكل عمود كهرباء، وكل مراسل صحافي، وكل متطوع في الدفاع المدني، وكل متحرك، وكل ظل... هو يحيى السنوار!
ها أنذا، أرى كلباً أغبر يدفن رأسه في فتحة قدر واسعة، أقف لأرى ما سيخرج به هذا الكلب من هذه القدر، لكن الكلب لا يخرج رأسه، ولا يحرك جسده، فانتظرته قليلاً من الوقت ليخرج رأسه، أو يتحرك، لكنه لا يفعل شيئاً من هذا، فظننت أنه ميت على هذه الحال، لذلك ولكي أتأكد؛ مددت يدي والتقطت حجراً صغيراً، ورميته به، فلم يصبه، وتنبّه هو، فاستلّ رأسه من فتحة القدر، وظل ثابتاً، ينظر نحوي. أجل إنه حي، واستدار بعيداً عن القدر خطوة أو خطوتين، ثم أقعى، وراح ينظر إلي، القدر بادية أمامي وواضحة، إنني أرى فتحتها ولا شيء في داخلها، داخلها أبيض وهّاج، كأنه غُسل عشرات المرات، إذاً لماذا كان الكلب يدخل رأسه في فتحتها! ولم أجب، لأنني لا أعرف الجواب، لكنني أظن أنه يتنشق رائحة ما كان فيها من طعام.
وهنا، وفوق كومة هذا البيت، كلب آخر، يبدو لي كأنه نسر هرم، يقف في عشه، في هذه العلوة من الركام المخيف، أرفع له يدي بالتحية، فلا يتحرك، ولا يصدر صوتاً، ولا يلتفت إليّ، لكأنه لا يراني. أرفع يدي بالعصا التي استللتها من ركام أحد البيوت التي مررت بها، لكي أخيفه، لكنه لا يجفل مني، أقول له، وبصوت مسموع، إن جاءت الطائرات وقصفتك، ستكون آخر روح راحلة هنا، انتبه أيها العزيز، لأنهم إن رأوك، وفي هذه الوقفة الجامدة، سيظنون أنك أنت من يحول دون أن يتلاشى هذا الركام ويذوب... انتبه أرجوك!
ولا أدري كيف ضبطت نفسي مندهشاً وأنا أنظر إلى بعض طيور الحمام التي تتقافز فوق ركام البيوت، وفوق خراب الشوارع، أقف وأنظر إليها لأرى أين ستقف بعدما غدت البيوت بلا أسطحة، وبعدما غدت هي بلا أعشاش. انتظرت وانتظرت لكن طيور الحمام تتقافز بثقل غير معهود فلا تصير قفزاتها طيراناً، لعل حزن طيور الحمام على أهلها والبيوت والأعشاب التي وقعت... هو هذا القفز الثقيل الذي لا رشاقة فيه ولا جمال، أسأل نفسي وأنا أدور أصابعي سائلاً: أنسي الحمام كيف يطير؟!
هنا، وبعد ساعة، أو ساعتين من المشي والمتابعة والحزن العميم، والصمت الموجع، أخرج من الأطراف الشمالية للمخيم متابعاً سيري نحو الغرب، وقبل آخر بيت أو بيتين، أرى كلباً آخر أغبر اللون أيضاً، ممدّداً على بطنه، ولسانه الأغبر أيضاً يمتد من خطمه ويعود إليه. إنه يلحس شيئاً، لا أراه تماماً، لهذا أقترب خطوة أو خطوتين، فأرى رجلاً عجوزاً ممدوداً قرب الكلب تماماً، أو لعل الكلب هو قربه تماماً، أراه يلحس يده المكشوفة، ولعل الرجل حي، أتجاسر وأقترب منه، فأنا الآن لست خائفاً من طائرة أو صاروخ، أنا خائف من الكلب، ومع ذلك أتقدم، وأنا أنهر الكلب، وأشير إليه بعصاي لعله يبتعد، فيبتعد قليلاً عن الرجل الممدّد قربه، يبتعد خطوات فقط، وهو ينظر إليّ، كنت أنا في علوة صغيرة، فأهبط منها نحوه، وكان الرجل والكلب في منخفض بسيط دان مني. وحين اقتربت، لم أصرخ بالرجل الممدّد لكي أعرف إن كان حياً أو ميتاً، وقد ظننت أنّ الكلب يأكل في جسده، الرجل هو من نادى بصوت خفيض، ورفع يده، عندئذ شعرت أنّ الطمأنينة التي يحلم بها أهل غزة حلّت في صدري، فرميت نفسي، من علوتي الصغيرة نحوه، وأنا أصرخ به: أأنت حي؟! وأخذته إلى صدري، كأنه أخي، أو أبي، أو ابني، أو جاري، ورحت أسقيه من قنينة الماء التي أحملها في حقيبتي، والكلب ينظر إلينا، ويهز ذيله مثلما تهز أجمات النعناع أوراقها في صباح رضي!