أكاد أدمّر جسدي!فلا اغتسال، ولا استحمام، ولا راحة، ولا قوّة.
طال شعر لحيتي ورأسي، وباتت رائحة جسدي، مع اندفاع الحرارة السريع جداً ومن دون إنذار، مشمومة مثلها مثل رائحتي الجثث والبارود، فهل غدوت جثة وأنا لا أدري، جثة تتحرّك، أم أنني بت برميل بارود أو حقيبة بارود أو مسرباً صغيراً مملوءاً برائحة البارود. وحذائي تقطّع أيضاً، فمشيت حافياً، وما عدت أتحاشى جروح قدميّ أو أصابعي، أو الجروح التي يكاثرها جسدي، ولا سيما في ركبتي، بت أركع، وأجثو، وأحياناً أزحف، لا لشيء، وإنما من أجل أن أصل إلى مخيم جباليا مرة أخرى... وأخيرة، لأتعرف الشكل الجديد الذي صار عليه. لكأنّ هوساً أصاب عقلي، فجعلني أتعلّق بكل ما في المخيّم، وأنا أعرف أن كل مافيه الآن ليس سوى ركام، ودمار، ورماد، وعلامات وإشارات تدل على الحرائق والخراب.
المخيم الآن، مكان لا حياة فيه ولا بشر، ولا ألوان له سوى ألوان الغياب، والفقد والندب، والذكريات. المخيم الآن موسيقى، موسيقى جنائزية، أسمعها بوضوح، مطلعها بكاء، ومقاطعها المقطورة مثل عربات القطار... بكاء، ونهاياتها وخواتيمهما بكاء. نعم ها هي البيوت، بعد فقد أهلها، تتبارى بالبكاء، مثلها مثل الأشجار، وأعمدة الكهرباء والهاتف، مثل الآبار التي اختنقت بالركام، ومثل الفرش واللحف والمخدّات والبطانيات والبسط والسجاجيد وقطع الموكيت والكتّان التي اختنقت بالنيران، ومثل الكتب التي اختنقت بالأدخنة؛ نعم البيوت، تتبارى بنحيب خفوت، حزنه جارح، ونحيبه مفرد... لا يتبعه كلام.
أمشي من دون أن أعرف أنني أمشي، وأتحرك من دون أن أعرف أنني أتحرك، ما أعرفه هو أنني أقصد مكاناً واحداً في الدنيا... هو مخيم جباليا.
أتمنى الآن لو أنني أستطيع الوصول إلى بحر جباليا إلى القرب من السودانية، إلى شارع الرشيد. كي أرمي جسدي في ماء البحر، كي أملّحه، عفواً، كي أملّح جروحي، تمنيت لو أنّ جسدي ساعدني على الخلاص من رائحتي وما تطلقه من نتن. لكن جسدي هبط، حط بي عند خزان الماء في حارة العبابدة، عند العلوة الجنوبية للمخيم. وتمنيت، وأنا قرب الخزان، أن أجد مسيل ماء يهبط من حوافه، لكنني لم أجد. فرميت جسدي قرب جدار الخزان المهدوم كي أستريح في ظلّه القصير، فحر المخيم اليوم شديد، وقد هبط هبوطاً مظلياً من دون تنبيه. ولكم كانت المفاجأة لي كبيرة، فقد عمت قلبي بالفرح، لأنني رأيت أبو هدبا، أستاذ التاريخ المتقاعد، كان نائماً قربي، في الظل القصير أيضاً، فلا يدلّ على نومته العميقة سوى شخيره الرتيب. أفرح أنا وقلبي لمرآه، لذلك هممت، وبكل قوّتي، أن أوقظه، فأنا ومنذ شهر وأزيد، آتي إلى المخيم، وأغادره إلى المشفى، ثم أعود إليه من دون أن أراه. وقد بحثت عنه طويلاً، وناديته طويلاً من دون حذر أو خوف، لكنه لم يظهر. كنت أدور في المخيم مثل المجنون علوبة باحثاً عنه، ولكنني لم أجده. كنت حين أغادر المشفى أودع كل شيء فيه لأحفظ صورته، صورة الدمار الهائل الذي لحق به، والحرائق الهائلة التي اكتوى بها، والمقابر الوسيعة التي أحاطت به، وصرختي الهائلة التي صرختها وأنا أنظر إليه: عُد كما كنت أرجوك. وكنت حين أغادر المخيم، أدقق النظر في كل شيء أصابه، فأناديه صارخاً به، وهو تحت نظري: أرجوك عد كما كنت.
الآن، حين أعود إلى المخيم، أعود ممتلئاً بالكلام والصور والأسى والأحزان. أعود ممتلئاً بالحسرة على ما كان، وبالخيبة مما حدث، وبالبكاء وأنا أرى ما رأيت، وكيف صار المشفى أرضاً محروقة لا شيء فوقها بعد أن جرف الإسرائيليون كل ما كان فوقها. حتى المقابر والطرق والشوارع جرفوها. صار المشفى مكاناً لمحزنة وأكثر، ومكاناً لا رائحة فيه لدواء، ومكاناً لا رجاء يلفّه، وروحاً تمنّت لو أنها صارت طائراً لتفرّ من عذاب الصور، والقسوة، والبطش. لقد رأيت، ويا ليتني ما رأيت، رأيت الإسرائيليين يقتحمون ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ألف مرة جناح النساء الحوامل اللواتي حانت ولادتهن، اقتحموا جناحهن بالأسلحة والصلف والضحك المجنون والبنادق والرصاص، لقد قتلوهن جميعاً، ومن لم تمت منهن، تمنّت لو أنها ماتت قبل أن ترى ما رأت. فالجنود، ووسط هستيريا من الهرج والمرج، والضحك الذي لا لون له سوى السواد، راحوا يتأكّدون من موت النساء واحدة واحدة، ثم بقروا بطونهن واحدة واحدة، وهم يقولون ويتندرون أهو ذكر أم أنثى. ولم ينتهوا عن هذا حتى حين عمّهم بكاء الأجنّة وصراخهم، لحظتئذٍ، تمنّيت الموت، وأنا أرى دماء النساء الحوامل، ودماء الأجنة وهم يصارعون الهواء بأيديهم وأرجلهم وحبال سرّاتهم!
ماتت بعض الحوامل ليس بسبب الرصاص الإسرائيلي فحسب، بل بسبب هذا المشهد الذي لا يُرى في نوم من ينامون في المقابر.
نعم، التقيت أبو هدبا أخيراً، بعدما زالت حماستي للكلام وولّت، التقيت به ينام في أيقونة الظل، قرب خزّان الماء الذي كان خزّاناً، وكان الماء فيه ماءً. وانتظرته حتى يستيقظ، فهو وحين يفتح عينيه، لن يجد أمامه من أحد في هذا الفضاء سواي.
كنت سأرجوه حين يستيقظ، أن يحدثني عما حدث في المخيم في أثناء غيابه عنه، أن يقول لي كيف عاش، وماذا أكل، وماذا شرب، ومن رأى، وعن من مِن أهالي المخيم بحث عنهم تحت ركام البيوت. وكنت سأرجوه، لو بقي لدي وقت للكلام، أن يدفنني في قبر، وبجوار أمي إن مت، حتى لو أخذ حفر القبر منه أياماً. وكنت سأصارحه بأنني، ومنذ أيام ربما قاربت الشهر أو زادت عليه، وكلما جئت إلى هنا، كنت أدور بين بيوت المخيم التي كانت بيوتاً، وأقف في ساحة سوق جباليا التي كانت ساحة، كي أتذكّر أسماء البائعين، وأقف في باحة مدرسة الفاخورة التي كانت باحة، كي أتذكر أسماء أساتذة المدرسة حين كانت المدرسة مدرسة. وأقف أمام بوابة مركز الإعاشة، كي أتذكّر المبروك عواجا وعربته وحماره، مع أنّ المركز ما عاد له بوابة، والإعاشة ما عاد لها مبروك اسمه عواجا يحمل فوق عربته أكياس الطحين ويوصلها إلى البيوت. المبروك عواجا الذي ما كان يعرف من أعطاه أجراً، كثيراً أو قليلاً، لأنّ الجميع يعطونه، ويرجونه أن يدعو لهم. آه كم تمنيت أن أرى عواجا خلال شهر أو شهرين أو ثلاثة، وكلما جئت إلى المخيم كي أمشي المشي البطيء، وكي أتفقّد البيوت، وأنثر الأسئلة المدمّرة التي رتّبتها سؤالاً سؤالاً في صدري. تمنيت رؤية عواجا لعل هذه الرؤية تنقذني مما أنا فيه، لكنني لم أره. نعم، حين يستيقظ أبو هدبا سأسأله عنه! لكن أبو هدبا لا يستيقظ، مع أنّ صراخ الجنود الإسرائيليين يتعالى الآن، وبات يصل إليّ. وأصوات جنازير الدبابات تتعالى أيضاً، لعلّهم قطعوا خط السكة، وشارع صلاح الدين، وتقدّموا نحو المخيم. لذلك نبّهت أبو هدبا، وهززته، وناديته لكي يستيقظ وينهض، لأن الموت اقترب مع اقتراب الجنود الإسرائيليين. لكنه لم يستيقظ، لذلك سحبته مثل جثّة كي يتوارى، وأتوارى أنا أيضاً، وحين يستيقظ سأجيبه عن سؤاله الدائم لي، وكلما رأني، لماذا عدت، سأقول له
ما غفلت عنه:
أعترف بأنني لم ألتق أبو هدبا، لا عند خزّان الماء، ولا في ظلاله، كان ذلك أشبه بحلم، لا أدري كيف دهمني وأنا في تمام يقظتي.
وأعترف أيضاً بأنني لم أسمع أصوات الجنود الإسرائيليين القادمين من السكة، أو من طريق صلاح الدين، ولا أصوات جنازير دباباتهم، ولا أدري كيف ملأت تلك الأصوات سمعي.
ما غفلت عنه أيضاً:
أدرك الآن تماماً، أنني هنا، وسأبقى على انتظاري لكل ما أريده، وأنّ المخيم باق، يجاور جباليا، والبحر، وخط سكّة القطار، وكروم التين والعنب واللوز والتفّاح، وأنّ أبو هدبا هنا، يدور في أرجاء المخيم مثلما أدور هو يبحث عني، وأنا أبحث عنه، ولعلّه يحسّ بوجودي، مثلما أحسّ بوجوده، فأنا ذهبت إلى كوخه، عفواً، إلى عريشة التنك التي يعيش فيها، ووجدت بابها مفتوحاً وهذا يعني أنه موجود، وأنّ المبروك عواجا موجود هنا أيضاً، فأنا أكاد أسمع وقع قدميه الحافيتين تركضان في جنبات المخيم كما لو أنّهما في طراد، وأسمع صوته المتعالي بنداء الحذر: الجيش، الجيش.