أنس إبراهيم

الجمعة 14 آذار 2025

شارك المقال

سموتريتش والضفة: ملك بلا مملكة


للفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة أن يختاروا بين ثلاثة خيارات يضعها أمامهم «ملك يهودا والسامرة» الجديد، وعلى الطريقة التوراتيّة، متمثّلاً نفسه النبيّ اليهوديّ يوشع بن نون. يهدِّد بتسلئيل سموتريتش، كما هدّد بن نون الكنعانيّين، بالقتال فالموت، أو الهجرة بسلام، أو البقاء كأفراد خاضعين للحكم اليهوديّ. وبغضّ النظر عن أيّ حقوق مدنيّة قد يحصل عليها الباقون، سواء كانت عشائريّة، أو قروية، أو بلديّة، ومهما كان الطريقُ صعباً للحصول على مواطنة كاملة يمكن منحها لاحقاً؛ المسألة الأساسيّة المحرّمة هي عدم وجود الطموح بأيّ هوية عربيّة جمعيّة قوميّة.

مقارنة بالقصّة التوراتيّة التي تقول إنّ الإسرائيليّين قد دخلوا إلى مدينة عاي الكنعانيّة وأحرقوها بكل ما فيها حتّى جعلوها خراباً، يظهِر سموتريتش قبولاً مبدئيّاً بـ«العرب» الذين يقبلون بالحكم اليهوديّ ولا ينازعونه في ما مَنَحَهُ إيّاه الربّ، أي أرض إسرائيل، وعلى وجه الخصوص الضفّة الغربيّة. يوضّح سموتريتش تفاصيل رغبته بالاستيلاء على الضفّة الغربيّة بشكل كامل وضمّها إلى السيادة الصهيونيّة في خطّته التي نشرها عام 2017 وحملت اسم «خطّة الأمل الواحد».

الخطّة التي يبدأها برسم ملامحه الإيمانيّة: «أنا مؤمن؛ أؤمن بالقدّوس، تبارك اسمه، وبمحبّته لشعب إسرائيل وعنايته بهم. أؤمن بالتوراة التي تنبّأت بالمنفى ووعدت بالخلاص... أؤمن بأنّ دولة إسرائيل هي بداية خلاصنا المتجلّي... وأؤمن بالصلة الحيّة بين شعب إسرائيل وأرض إسرائيل...». ليست سيادة الدولة ما يبحث عنه سموتريتش في هذه الخطّة، بل سيادة اليهودِ على الأرض وكلّ ما عليها.

وكلّ فعل سيادة يهوديّ فيه نفي لسيادة أخرى. سيادة الشعب اليهودي تعني نفي الشعب الفلسطينيّ، وجعل مَنْ تبقّى منهم عبيداً متفرّقين للشعب اليهوديّ «الأزليّ». بينما تعني سيادة الإله اليهوديّ نفي القداسة عن أيّ آلهة أو ديانة غير اليهوديّة، وبالتالي إنكار أيّ أحقّيّة دينيّة في الأرض غير الأحقّيّة اليهوديّة، وبذلك نفي أيّ صلة دينية ما بين أي جماعة دينيّة غير اليهود بالأرض.

في حين إنّ الإيمان بالصلة الحيّة -العابرة للتاريخ- ما بين شعب إسرائيل وفلسطين يعني أنّ الأرض وإن كانت مأهولة فهي قد كانت في حالة خاصّة من المنفى بدورها في انتظار عودة الشعب اليهوديّ إليها. وذلك ما يعني نفي أيّ صلة تاريخيّة أو عاطفيّة بين الفلسطينيّين وأرضهم، وعليه نفي أيّ حقّ تاريخيّ، أو دينيّ، أو إنسانيّ للفلسطينيّين بأرضهم، أي نفي وجود شعب فلسطينيّ، والاعتراف فقط بوجود مُقيمين عرب يختلف بعضُهم عن بعض في العادات والتقاليد وحتّى اللهجات، سكنوا أرضاً لم تعنِ لهم الكثير.

«الإرهاب» بين الأمل واليأس

يريد سموتريتش في خطّة «الأمل الواحد» نفي مقولة «الإرهاب يُولَدُ من اليأس»، واصفاً إيّاها بالكذبة، مؤكّداً على أنّ الإرهاب يولد من الأمل، وفي الحالة الفلسطينيّة الأمل هو إضعاف المجتمع الإسرائيليّ وإرغامه على القبول بتأسيس دولة عربيّة داخل حدود «أرض إسرائيل». ولذلك يرى «الانتحاريّين» -كما يصفهم- يعملون داخل فراغ ما، لكنهم يفعلون ذلك من أجل ما يرونه «غاية نبيلة»، وفي حال قتل هذه الغاية، أو جعلها تبدو عبثية، فستضعف الدوافع المحرّكة للإرهاب، و«بمشيئة الربّ، سيضعف الإرهاب نفسه».

ولفعل ذلك، على إسرائيل ضمّ الضفّة الغربيّة بشكل كامل، وتحويلها إلى أرض يهوديّة كاملة السيادة يستحيل فيها عمليّاً إقامة دولة فلسطينيّة. وبذلك يموت الأمل في نفوس الفلسطينيّين في السعي نحو أيّ شكل من أشكال تحقيق الهويّة الوطنيّة، ما يعني زوال دافعهم نحو القتال.

بالنسبة إلى سموتريتش، هذه نظريّة قابلة للتطبيق، والوحيدة التي من شأنها تحقيق السلام للشعب اليهوديّ، ورعاياه من العرب الذين سيقبلون بالحكم اليهوديّ. لكنّها خارج عدستَيْ نظارته العنصريّة، تقوم على عدّة مغالطات تُبنى الواحدة على الأخرى:
أوّلاً، نفي وجود أيّ صلة دينية وتاريخية وثقافية بين الفلسطينيّين وأرضهم يدفع سموتريتش للاعتقاد بأنّ الأمل بالحصول على دولة وطنيّة هو، من جهة، دافع الفلسطينيين الوحيد للقتال، ومن جهة، هو أمل ناتج فقط عن حديث الإسرائيليّين أنفسهم من اليسار عن تلك الدولة. وبذلك يلقي سموتريتش باللوم على اليسار الإسرائيلي لدفعه هؤلاء العرب للحلم بدولة ما!

ثانياً، أنّه وطالما لا يملك الفلسطينيّون دافعاً مترسّخاً بالرغبة في وطنٍ قوميّ، ولا الأرض نفسها تعني لهم الكثير، فإنّ الحلّ يكمن في أن يثبت لهم الإسرائيليّون مرّة واحدة وإلى الأبد استحالة هذا الخيار، وعندها لن يجد الفلسطينيّون بدّاً من القبول بأحد خيارات سموتريتش: الموت، أو الهجرة، أو الخنوع.

لكنّ المقاومة الفلسطينيّة في الضفة الغربية لا تقاتل استناداً إلى وعد اليسار الإسرائيليّ بدولة مستقلّة، بل من منطلق شعورها بالمسؤولية الدينيّة والوطنيّة في الدفاع عن شعبها، وعن الأرض، وعن الحق في التاريخ وفي الحاضر وما بينهما. وهي لا تقاتل استناداً إلى شعور إمّا باليأس أو الأمل، بل استناداً إلى شعور بالتكليف؛ قد يكون ذلك الشعور للبعض تكليفاً إلهيّاً وللبعض تكليفاً وطنيّاً، وللبعض إنسانيّاً، لكنّه التكليف الذي قد يتداخل فيه الشعور باليأس أحياناً وبالأمل أحياناً أخرى، وبالنسبة إلى البعضِ يستند إلى وعدٍ إلهيّ بالنصر: «إن تنصروا الله ينصركم»، ولبعض آخر يستند إلى مجرّد الواجب في الدفاع عن العائلة، وعن النفس، ولكثيرين لا يتجاوز الأمر مجرّد الشعور بالكرامة الإنسانيّة.

أمّا حلم الدولة، فهو حلم عابر في مخيّلة قائد يائس، لم يَدُم طويلاً قبل انكشاف عواره ومحدوديّته، لا في فلسطين فحسب، بل في المنطقة بأكملها. أمّا المقاومة، فهي لا تقوم على ثقافة الحلم بالدولة، بل على ثقافة تحمّل المسؤولية التي تحدّث عنها الشهيد السيّد حسن نصرالله، وهي ثقافة عدم الوقوف على الحياد في مواجهة الباطل والظلم، ثقافة نصرة الحقّ حتّى لو كان أهل الحقّ قلّة وكان أهل الباطل كثرة وكان ضجيجهم عظيماً.

وهي الثقافة المستمدّة من الإيمانِ، وواجب التكليف لنصرة الحقّ التي توجب على الإنسان الدفاع عن الناس. تلك هي الروح التي خاضت فيها المقاومة الإسلاميّة في لبنان كلّ معاركها، وهي الروح المبثوثة في المقاومة الفلسطينيّة في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة، وهي الروح التي انتصرت بها المقاومة.

هذه الروح هي التي تغيب عن نظر «ملك يهودا والسامرة»؛ وهذه الثقافة، التي وبالرغم من تجلّيها في خطابات وبيانات المقاومة وقادتها على مدار عقودٍ من الصراع، لا تزال تسقط من أيّ قراءة صهيونيّة لواقع الأرض والميدان، وسقوطها من تلك القراءات هو ما ينتِجُ مثل هذا الخطاب الصهيونيّ السموتريتشيّ العنصريّ الّذي لا يرى في الآخر سوى «بهيمة» من «بهائم» الأرض الموعودة.

«الأمل الواحد»: فرضيّة واحدة صحيحة فقط

الفرضيّة الأساس، والممكن الموافقة عليها، في خطّة سموتريتش، هي أنَّ أرض فلسطين من النهر إلى البحر لا يمكن لها أن تستوعب هويّتين وطنيّتين متصارعتين؛ وذلك يعني برأيه لامنطقيّة وعبثيّة حلّ الدولتين الذي سيعني ذلك الذهاب نحو صراع دمويّ شامل في حال لم تعمل إسرائيل على حسم الصراع قبل ذلك. أمّا ما دون ذلك، فهو مجموعة من الأفكار العشوائيّة التي تخاطب مستويَيْن، الأوّل: الجمهور الإسرائيليّ، لدفعه نحو إدراك ضرورة حسم الصراع، وعدم قدرة إسرائيل على البقاء في حالة «إدارة الصراع». الثاني: اليسار الإسرائيليّ والمجتمع الدوليّ القلق حول إمكانيّة بقاء الديمقراطيّة الإسرائيليّة في حالة ضمّ الضفّة الغربيّة من دون منح سكّانها حقّ المواطنة الكاملة والتصويت في الكنيست.

تجيب خطّة سموتريتش على هذا القلق بأنّ العرب سيتمتّعون بالكثير من السلام والحرّية في إسرائيل أكثر بكثير من أيّ دولة عربيّة أخرى أو تحت «حكم السلطة الفلسطينيّة الفاسدة». لكن دون التصويت في الكنيست، الأمر الذي سيُحافظ على الأغلبية اليهوديّة في الدولة. وهذا برأيه قد يكون أفضل حلٍّ ممكن بالنظر إلى «الظروف المعقّدة التي تعيشها إسرائيل في الشرق الأوسط».

هذه الحقوق الخاصّة بالحياة اليوميّة في ستّة غيتوهات -رام الله، نابلس، الخليل، جنين، بيت لحم وأريحا- تفصل في ما بينها تجمّعات استيطانيّة ضخمة وشوارع التفافيّة استيطانيّة، وتراقبها عديد أبراج وكاميرات المراقبة، والتي غالباً ما سيجري العمل على هندستها جغرافيّاً بحيثُ تتّسع شوارعها للآليّات العسكريّة من جرافة الـ D9 إلى الميركافا وناقلة النمر وغيرها؛ معسكرات للعمل الإجباريّ التي يجري بشكل يوميّ وعشوائيّ اختيار مجموعة من أفرادها للإعدام رمياً بالرصاص أو شنقاً أو ليودَع في السجون. فيما ستعمل بقايا الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة على حراسة هذه المعسكرات –كما تفعل الآن- وضمان عدم ظهور أيّ مقاومة أو ممارسة وطنيّة.
للوصول إلى هذه الحالة، يقترح سموتريتش خطّة من ثلاث خطوات أساسيّة، هي: الاستيطان، التهجير، الحسم العسكريّ.

وكجزء من تنفيذ الشقّ الأوّل من الخطّة، أنشأ سموتريتش هيئة حكوميّة جديدة تخضع لسلطته تسمّى «إدارة المستوطنات»، تهدف إلى إدارة جميع جوانب الحياة في المستوطنات في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. نتيجة لهذه الخطوة، شَهِدَ عام 2023 أعلى نسبة بناء للوحدات الاستيطانيّة في الضفّة الغربيّة بواقع 12,349 وحدة استيطانيّة.

ورغم الانخفاض الذي شَهِدَه عام 2024، بالتوازي مع تصاعد في عمليات جيش الاحتلال العسكريّة على المخيّمات الفلسطينيّة في شمال الضفّة، خاصّة جنين وطولكرم، إلّا أنّ عام 2025 قد يكون عام الحسم في استيطان الضفّة الغربيّة بعد تغيير منظومة المصادقة على البناء الاستيطانيّ لتصبح أسبوعيّة، إذ تتوقّع مؤسّسة «سلام الآن» أن تجري المصادقة على نحو 1800 وحدة استيطانيّة شهريّاً، خاصّة أنّ المداولات لم تعد بحاجة إلى مصادقة وزير الدفاع عليها، وهو التغيير الجذري الذي أجراه سموتريتش على منظومة المصادقة.

في المقابل، لا يبدو الحسم العسكريّ قابلاً للقياس وفقاً للمعايير ذاتها. فبحسب تقرير لـ«مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيليّ»، شَهِدَ عام 2024 تضاعفاً في عمليّات المقاومة عن عام 2023 بحسب بيانات «جهاز الأمن الداخليّ في إسرائيل - الشاباك»؛ إذ نُفِّذت 6828 عمليّة بما فيها العمليات الشعبية التي تتضمن إلقاء الحجارة وزجاجات المولوتوف، وهو ضعف عدد الهجمات في عام 2023 البالغة 3436 هجوماً. في حين بلغ عدد القتلى الإسرائيليّين في هذه العمليّات 46 بزيادة نحو 7% مقارنة بعام 2023، و337 جريحاً بزيادة نحو 50%.

يمكن القول استناداً إلى هذه الأرقام إنّ المعادلة على الأرض هي التالي: كلَّما أوغل المستعمِر في عنفه سيلقى المزيد من المقاومة وردود الفعل العنيفة. هي المعادلة نفسها التي سَبَقَ أنْ فصَّل فيها فرانز فانون؛ قد يحاول المستعمِر الإسرائيليّ –وكذلك تابعوه المحلّيّون- تجريد المستعمَرين إنسانيّاً وتقسيمهم واستغلالهم وتشويه ثقافتهم وتصويرهم على أنّهم بشر أدنى، وقد يحاول وصمهم بالفساد والفقر والجهل والكسل –إضافة إلى كونهم عُملاء لجهات خارجيّة- لكنّه سيفشل دائماً في إجبارهم على القبول بهذه الصفاتِ والتنكّر لوجودهم، أو إرغام المقاومين منهم على وجه الخصوص على التخلّي عن سلاحهم.

كما يقول فانون: «هو (أي المستعمَر) مغلوب على أمره ولكنه ليس مدجناً؛ يعامَل على أنّه أقلّ شأناً لكنّه ليس مقتنعاً بدونيّته». ولهذا السبب، يُدرِكُ المستعمَر سريعاً، وبمنطق بسيط، أنّ العنف يقابل بالعنف، وأنّ المستعمِر «لن يرضخ إلّا عندما يواجَه بعنف أكبر... وفي العنف فقط يجد الرجل المستعمَر حرّيّته ومن خلاله».

مقاومة متحرّكة في مقابل سيادة جامدة

تكمن مشكلة سموتريتش الأساسيّة في كونه متطرّفاً عنيفاً ملزماً بالتعبير عن عنف تطرّفه من خلال قنوات الدولة الّتي لا يمكنها التصرّف إلّا على نحو رسميّ، وهو الذي تشير الاستطلاعات الأخيرة إلى أنّه قد لا يتجاوز نسبة الحسم في انتخابات عامّة مبكّرة في حال سقطت الحكومة قريباً، إذ يعمل تحت شعور يوميّ بالضغط الناتج عن تحالفاته الحكوميّة وقاعدته الانتخابيّة الضيّقة أصلاً –فلم تحصل «الصهيونيّة الدينيّة» التي يتزعّمها إلّا على 7 مقاعد من أصل 120 مقعداً في الكنيست- التي يلجأ إلى استرضائها وتوسيعها بشكل روتينيّ اعتماداً على منصبيه؛ وزيراً للماليّة من خلال السرقة من أموال الضرائب الفلسطينيّة لصالح المستوطنين، وهو ما يعني الإضعاف التدريجيّ لبنية السلطة وتماسكها وهي الجهة التي تمثِّل المتعاون المحلّيّ مع الاستعمار الصهيونيّ؛ وأيضاً من خلال كونه وزيراً للاستيطان من خلال تسريع وتيرة المصادقة على الخطط الاستيطانيّة في الضفّة، ففي كلّ وحدة استيطانيّة جديدة ثمّة توسيع لقاعدة سموتريتش الانتخابيّة وبالتالي ضمان لقدرته على البقاء في الحكومة لوقت أطول.

لكنّ الهاجس الأكبر للمشروع الاستيطانيّ الذي يقوده سموتريتش هو محاولة فرض السيادة الإسرائيليّة واليهوديّة على الضفّة الغربيّة.

في عام 1977، سُئِلَ رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق، ورئيس الحكومة اليمينيّة الأولى في إسرائيل، مناحيم بيغن، عمّا إن كان سيضمّ الضفّة الغربيّة، فكانت إجابته: «أنت تضمّ أراضيَ أجنبيّة، لكنّك لا تضمّ أرضك الّتي حرّرتها». تشكِّل هذه الإجابة مثالاً على معضلة اليمين الإسرائيليّ وإسرائيل عموماً داخليّاً وخارجيّاً: الدولة الاستعماريّة والحركة الدينيّة القوميّة اللتان تريان في ممارسة الاستعمار والغزو حقّاً شرعيّاً، وفي الأرض المرغوبة –أي الضفة الغربيّة- أرضاً محرّرة.

لكنّهما، مِنْ جهة لا يستطيعانِ جعل هذين الأمرين يبدوان طبيعيّين بالنسبة إلى العالم، ومن جهة أخرى لا يستطيعان في الممارسة لا إعلان الأرض أرضاً إسرائيليّة دونَ التعامل مع مشكلة وجود أكثر من ثلاثة ملايين فلسطينيّ سيحوّلون الدولة اليهوديّة إلى دولة ثنائيّة العرقيّة، ولا التخلّي عنها وانتظار التهديد الوجوديّ الأمنيّ الذي سيأتِي منها لاحقاً، كما كان الأمر في غزّة.

في الجهة المقابلة، لا تشكّل السيادة هاجساً لدى المقاومة الفلسطينيّة في الضفّة، بل الواقع أنّها تستفيدُ من كونها هاجساً صهيونيّاً في معركة كسب النقاط مع الاستعمار الصهيونيّ. فبعد أكثر من 50 يوماً من الحصار الذي فرضته الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة على مخيّم جنين، في مفارقة ساخرة لفرض «السيادة الفلسطينيّة» على المخيّم، دخل الجيش الصهيونيّ إلى المخيَّم بالتزامن مع انسحاب قوات الأمن الفلسطينيّ، لكنّ المقاومة التي شكّل المخيّم حصناً منيعاً لها على مدار أعوام، لم تتردّد في الانتشارِ في القرى والبلدات المحيطة بالمخيّم، وربّما أبعد من ذلك، لتترك الجيش الإسرائيليّ يواجه منازل وحارات فارغة.

يؤشِّر هذا التكتيك إلى تحوّل في فكر وعمل المقاومة الفلسطينيّة، من «معركة جنين» عام 2002 التي قرّرت فيها المقاومة البقاء والقتال حتّى آخر رجل في المخيّم، إلى عام 2025 الذي تقرّر فيه المقاومة إعادة الانتشار والتخلّي عن فكرة «القتال حتّى آخر رجل». وهو تحوّل يتوافق مع مقولة السيّد حسن نصرالله التي تقول إنّ المعركة مع الاستعمار الصهيونيّ لا يمكن كسبها الآن في الحرب الشاملة، بل هي معركة نقاط.

وليست المسألة محاولة فرض سيادة والدفاع عن حدود إقليميّة ما، فالمقاومة التي تعمل في الضفّة الآن لا تبحث عن سيادة لا أمنيّة ولا سياسيّة، بل تعمل على مستوياتٍ ثلاثة:

أوّلاً، العمل داخل الحاضنة الشعبيّة والاستفادة من المخيّم في حالة السلم للتكتّل والتجنيد والإعداد.

ثانياً، الانتشار والاعتماد على الذئاب المنفردة، لاستهداف التجمّعات الاستيطانيّة في كلّ مناطق الضفة الغربيّة.

ثالثاً، العمليّات الفرديّة الناتجة عن التعاطف الشعبيّ، مثل عمليّة الدهس الأخيرة التي وقعت في مدينة الخضيرة في شمال فلسطين المحتلّة بتاريخ 27 شباط 2025، وأسفرت عن دهس أكثر من 10 مستوطنين، من بينهم 3 حالات خطيرة.

يبدو أنّ الدور الّذي رسمته المقاومة لنفسها في الضفّة الغربيّة، هو:

أوّلاً، المشاغلة العسكريّة الدائمة للجيش الإسرائيليّ، والإبقاء عليه في حالة من الاستنزاف البشريّ والعمليّاتيّ.

ثانياً، استهداف التجمّعات الاستيطانيّة والمستوطنين والإبقاء عليها هي الأخرى في حالة استنزاف بشريّ بالدرجة الأولى، واستهداف الشعور بالأمن لكي لا يتجاوز المشروع الاستيطاني عتبة مرحلة التشكّل وصولاً إلى مرحلة الرسوخ، أي أن يصبح طبيعيّاً.

ثالثاً، تشكيل النقيض الطبيعيّ والوطنيّ للمشروع السياسيّ التطبيعيّ للسلطة الفلسطينيّة الذي يؤدِّي دور الحارس للمشروع الاستيطانيّ.

إنّ حفاظ المقاومة على قدرتها على العمل يعني تحدِّياً جوهريّاً لمفهومي سيادة الدولة وسيادة اليهود على الأرض، وفي لحظةٍ كهذه وبالنظر إلى القوى المحرِّكة والدافعة في المشروع الصهيونيّ، يُصبح دور المقاومة الفلسطينيّة في الضفة الغربيّة الذي يتحدّى قدرة الدولة الاستعماريّة وحركاتها الدينيّة المتطرّفة على ممارسة السيادة والتوسع بشكل طبيعيّ، يصبح أكثر أهمّيّة من أيّ وقتٍ مضى.

* باحث فلسطيني

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي