أحد الزحف العظيم و«السطح الفكري»
خريفَ العام الفائت، وشتاءَه، راحت جعاب المنطقة تراكم بين ثناياها المزيد من السهام المصوّبة تجاه رقعة جغرافية لا تزيد مساحتها عن 3058 كيلومتراً مربعاً (موزعة على غزة بواقع 360 والجنوب اللبناني بواقع 929 ثم القنيطرة السورية بواقع 1200).
والفعل، من حيث النتيجة، يشير، بل ويؤكّد، أنّ ذلك الثالوث بات كما الحجر الصوان الذي يستعصي أمام فعل الجرافات الماضية في شق «الأوتوستراد» الذي من شأنه فك العزلة ما بين كيان الاحتلال ومحيطه، إذ طالما توصلت آخر القراءات الغربية إلى نتيجة مفادها أن عملية «الشق»، الآنفة الذكر، هي الوحيدة الكفيلة بإزالة صبغة «الورم الخبيث» عن هذا الأخير تمهيداً لانخراطه فيها.
بشكل ما، يمكن لحظُ انتقال العمل من «السطح السياسي»، المتمثّل في مواقف الأنظمة والحكومات، إلى مرتبة «السطح الفكري»، الذي يتمثّل في «جهود» الكتّاب والمفكّرين والباحثين.
وإذا ما كان الهدف الأسمى لـ«اتفاقات أبراهام»، الموقّعة ما بين كيان الاحتلال والإمارات العربية عام 2020، هو عملية الانتقال السابقة الذكر التي تفترض انتقالها، في ما بعد، إلى «السطح الشعبي» الذي يرمز هنا إلى تمام المشروع ونجاحه، أو أقلّه تسويقه إلى مدى غير قصير.
كتب حازم صاغية في مقال في «الشرق الأوسط» يوم 31 كانون الثاني المنصرم، وهو بعنوان «هل من طريق أخرى مع إسرائيل؟»، أن «حروبنا الفلسطينية والعربية مع إسرائيل ليست استثناء على الحروب، ولا هي أكثر انطواء على الكراهية وتسبباً بالألم، لكن لربما كانت الطريقة الوحيدة (نعم الوحيدة) لتذليل العدوانية الإسرائيلية هي ما فكّر به الأوروبيون كميتران (يقصد فرانسوا ميتران الرئيس الفرنسي 1981 - 1995)، ممّن ظنّوا أن الاتحاد الأوروبي طريقهم الوحيد لتطويق ما اعتبروه عدوانية ألمانية محتملة ومنضبطة».
ولربما كانت حالة الخلط ما بين النموذجين، والتي لا تصمد لطويل نقاش حتى يثبت زيفها، خطوة متقدّمة على طريق الخطوات الموكل القيام بها لـ«السطح الفكري»، والتي لا بدّ ستعقبها خطوات وخطوات.
على الأرض، كانت هناك خطوات ثلاث تنعش المناخات اللازمة للقيام بذلك التمهيد، أولاها الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة الذي أعقبه عرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب للخطوط العريضة في رؤيته حيال حل «مشكلة القطاع»، وهي في تضاعيفها ذات بعد أعمق من مُنتَجه السابق المُسمى «صفقة القرن» الذي أطلقه زمن ولايته الأولى.
وثانيتها محطتا لبنان 9 و 13 كانون الثاني المنصرم اللتان شهدتا، على التوالي، انتخاب جوزف عون لمنصب الرئاسة في لبنان وتكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة. وكلتاهما أوحتا بأن لبنان قد سقط في الجعبة الأميركية كما «الثمرة الناضجة». أمّا الثالثة، فتتمثّل في «الردة السورية» التي راحت تتبلور ملامحها منذ 8 كانون الأول المنصرم إلى أن تكشّف الكثير منها عبر التقرير الذي نشرته «الأخبار»، يوم 1 شباط الجاري، الذي جاء بعنوان «تسريبات الجولاني على طريق السادات»، والفحوى إذ يشير إلى «إعجاب» الرجل بمسارات التجربة الساداتية، لكنه يبقى مؤقتاً لأسباب موضوعية عدة أبرزها مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الجغرافيا والذات السورييْن على حد سواء.
يوم السبت، 25 كانون الثاني المنصرم، كان قرار الجيش اللبناني هو «منع وصول المواطنين إلى حيث يتواجد الجيش الإسرائيلي»، لكنّ الحيثيات كانت تشير إلى أن الفعل سوف يتوقف على المدى الذي ستصل إليه تلك الاندفاعة، فإذا ما كانت الأعداد قليلة يمكن منعها، وإذا ما كانت كبيرة فإن من الواجب تسهيل مرورها، ومرافقتها، إلى القرى.
وفي الغضون كانت الرؤية عند حزب الله، الذي التزم ببنود «الاتفاق» طيلة ستين يوماً، تقول بأن تخلّف جيش الاحتلال عن الانسحاب يبدو حتمياً، ولذا، وفي ظل فشل كل السبل الدبلوماسية لإلزام هذا الأخير بتنفيذ تعهداته، مضت التحضيرات لملاقاة «اللحظة» التي تقف عند إجبار إسرائيل على الانسحاب بقوة «زخم الزحف» الشعبي، الذي يمثّل الظهير الأعتى للمقاومة، ترسيخاً لثلاثية «جيش وشعب ومقاومة»، وتجاوزاً للطروحات، التي كانت قد تكشّفت عن المضامين التي سوف يحتويها «البيان الوزاري»، والتي يمكن لها أن تتجاهل تلك المعادلة.
رسم الجنوبيون في ساعات الصباح الأولى من يوم 26 كانون الثاني مشهداً شعبياً «سوريالياً» ملحمياً. وهو لا يقلّ أثراً، لجهة تصليب الإرادة التي عبّر عنها، عن نظيرتها التي ظهرت عند مقاتليه أيام حرب الأيام السبعة والستين الأخيرة.
وفي اليوم التالي لهذا اليوم الأخير كان المشهد أكثر تنظيماً في ملمح يؤكد أن سبل مواجهة الاحتلال لن تكون بالخنوع، بل بموقف شعبي رافض له. والرسالة تحمل في تضاعيفها عنواناً أبرز يشي بأن «ساعة المنطقة» لن تسير على التوقيت الإسرائيلي، ومن الصعب انتظار عدّاد هذا الأخير للإعلان عن الخروج من القرى والبلدات التي يتواجد فيها.
كانت المشاهد المتوافدة من الجنوب، والزحف نحوه، قد أهالت التراب على نكوص عربي بدا وكأنه يمثّل نهجاً، وخياراً، هو الوحيد في مواجهة أعتى هجمات الغرب منذ بدء حملات هذا الأخير على المنطقة مطلع الألفية الثانية.
وفي تلك المشاهد، كانت السردية تحاكي نظيرتها في غزة بأدقّ تفاصيلها، لكأن المقصود هو القول بأن الترابط ما بين الجبهتين هو أعتى من قدرة «السكاكين»، التي كان أكثرها محمولاً بأيدٍ هي من صلب الخندق عينه الذي ارتسمت ملامحه عبر حقائق التاريخ والجغرافيا، على التقطيع. ولربما كان الفعل نتيجة طبيعية للحقائق التي أفرزتها «طوفان الأقصى»، والتي كان أبرزها علاقة «الاستلهام» القائمة ما بين فلسطين والجنوب والجولان وسيناء والأردن.
طوبى لأولئك الذين راحوا يستجمعون رفات أبنائهم الطاهر من على سفوح الجنوب، وعلى مسافة لا تزيد عن بضعة أمتار من مرابض مدفعية العدو، فهم أثبتوا للكل أن ذلك الرفات الذي تناثرت أشلاؤه كان الأكثر تجذّراً من هذا «الكل» كله، وهو الكفيل الذي حال دون أن ترتفع رايات الاحتلال في العمق اللبناني، الذي إن تهاوى، هذه المرة، فلسوف ترتفع تلك الرايات على هضاب لم يكن يخطر في مخيال «منظّري» الكيان أن ترتفع فيها.
* كاتب سوري