مقالات للكاتب

عامر محسن

الأربعاء 5 شباط 2025

شارك المقال

الذكاء الاصطناعي: لم نعد وحدنا


في رواية الخيال العلمي الشهيرة لفرانك هربرت التي نشرت في الستينيات، «كثبان»(Dune)، يكون ما يسمّى بـ«الجهاد البتلري» هو أحد الأحداث الفارقة والمؤسسة في التاريخ البشري: بعد عشرة آلاف سنة من اليوم تقريباً، وقبل عشرة آلاف سنة من أحداث الرواية، يُعلن «جهاد» وتنطلق حربٌ شاملة ضدّ «الآلات المفكّرة» والذكاء الاصطناعي. تشتعل كلّ الكواكب المأهولة بالمعارك وتفنى حضارات ويموت الملايين. وبعد أن تنتهي الحرب بانتصار البشر، ويتمّ تدمير كلّ الماكينات الواعية، يصدر قانونٌ جديد أصبح جزءاً من ثقافة النّاس ودينهم: «حرّم عليكم صنع آلةٍ على صورة عقل الإنسان».

يؤمن التقنيون ورجال الأعمال الذين ينظّرون للذكاء الاصطناعي بأنّ هذا الفتح الجديد سوف يكون أهمّ عنصر تغييرٍ في الاقتصاد والمجتمع في القريب من الأيام. خلال سنوات قليلة، هم يؤكّدون، سيتبدّى أن تأثير الذكاء الاصطناعي على العالم سيفوق تأثير الإنترنت، أو أيّ اكتشافٍ آخر في العقود الماضية، وسيخلق اقتصاداً بتريليونات الدولارات ويُطلق «ثورة صناعية رابعة». من أشهر هؤلاء المنظّرين رجل أعمال تايواني اسمه كاي-فو لي، وقد نشر كتاباً يتصوّر فيه العالم عام 2041 ودور الذكاء الاصطناعي فيه.

هو يقدّم رؤيته عبر عشرة أمثلةٍ - قصص «واقعية» من المستقبل القريب عن كيفية حياة الناس بعد عشرين سنة، ثم يقدّم شرحاً تقنياً في نهاية كلّ فصل عن التكنولوجيا التي تقف خلف هذه الأمور. هو لا يقول فحسب إنّ الذكاء الاصطناعي سيصبح طبيبك ومستشارك وأستاذك وسائقك الخاص ومدير أعمالك، بل إنّه سيكون أقدر «الناس»، موضوعياً، على اختيار شريكٍ لك (وسيكون خياره على الدوام أفضل من خيارك أو خيار أمّك)، وسيأخذ على الأرجح وظيفتك (وهذا عنده ليس أمراً سيئاً). يضيف لي أننا نتجه إلى ما يشبه «مجتمع الوفرة»: أكثر الوظائف سوف يؤديها الذكاء الاصطناعي، والطاقة ستكون متجدّدةً ورخيصة (ومعها تصبح أمورٌ مثل الماء وفيرةً أيضاً)، ولن نحتاج إلى الكثير من المواد والمعادن النادرة، فلا سبب لأن تكون هناك ندرةٌ في الحاجات الأساسية مثل الطعام والمسكن، وحتى في أدوات الرفاهية واللهو في الدول المتقدّمة؛ سوف تصبح هموم البشريّة ومشكلاتها في مكانٍ آخر تماماً (كاي-فو لي و تشن تشيوفان، AI 2041، بنغوين، 2021).

كان أحد أصدقائي يقول لي إنّه، بالتكنولوجيا الحالية، أصبح من الممكن أن يصنعوا عقلاً إلكترونياً يقوم بعمله بالضبط (وهو يعمل في مجالٍ عالي المهارة - أبحاث وأسواق عالمية وبيع وشراء سندات). فقلت له إنّهم لن يصنعوا موظفاً إلكترونياً يستبدله، بل سيتمكنون وقتها من صنع ألف موظّفٍ مثله، أو مليون بالسهولة ذاتها، والقيام بمهمات ووظائف لا يمكن لنا أن نفكّر بها أو نتخيّلها اليوم. ونحن هنا لا نتكلّم عن برنامج «تشات جي بي تي» المجاني الذي تستخدمه على هاتفك، بل عن النسخة الكاملة من هذه البرامج المتقدمة التي تنتجها شركات مثل «ميتا» و«اوبن إي أي» و«انثروبيك».

هي تحلّ بسهولةٍ مشكلات حسابية معقّدة من النوع الذي يطرح في مسابقات الرياضيات، أو مسائل برمجية تحتاج في العادة إلى مهندسين متخصصين يكون راتب الواحد منهم أكثر من نصف مليون دولار - ونحن ما زلنا في بداية البداية. يقول المبشّرون بالذكاء الاصطناعي إنه قد يتمكن اليوم من القيام بوظيفتك نيابة عنك، ولكنه قريباً سيؤديها بشكلٍ أفضل منك بكثير، ومن بعدها سوف تنسى المقارنة (حين تدرّب عقلاً اصطناعياً على الطبخ، مثلاً، فهذا لا يعني أنه سيقدر على «إعداد وجبة» أو قلي البيض، بل سيكون بمستوى شيف عالمي، وسيعرف بالضبط ذوقك وما تحبّ، ووضعك الصحي وما يصلح لك وما لا يصلح). وهو لن يستبدل الوظائف الفكرية والمكتبيّة فقط، بل إن الناس سيفاجَؤون حين يكتشفون أن الذكاء الاصطناعي، في تزاوجه مع الروبوتات، سيعطيك روبوتاً تم تدريب عقله على الطبخ مثلاً، أو صيانة المنزل، أو إصلاح السيارات، أو كلّ هذه الأمور سوية؛ وهذه الآلات سوف تقوم في المستقبل بمهمات يدوية مثل بناء البيوت وإدارة المزارع وقطف التفّاح.


السور التكنولوجي العظيم
في مقابلةٍ مع باحثين متخصصين في المجال قبل أشهر، قال جون واي ما معناه أنك لو تفحّصت العقوبات الأميركية التي تمّ فرضها على الصين من وجهة نظرٍ تقنية، تفهم أنها مصمّمة بالكامل، ومن الأساس، لهدفٍ وحيدٍ هو منع الصين من اللحاق بأميركا والغرب في مجال الذكاء الاصطناعي تحديداً. كل العقوبات التكنولوجية التي فرضتها واشنطن، كحظر تصدير شرائح متقدّمة تنتجها «نفيديا»، أو منع الشركات الصينية من الحصول على الجيل الأخير من ماكينات «اي اس ام ال» الهولندية، والضوابط على الأبحاث والتبادل المعرفي؛ هذه كلّها عناصر في منظومة عقابية تستهدف هذا الأفق التكنولوجي الجديد وتريد إبقاء الصين خارجه. وهذه السياسات تم إقرارها، يضيف واي، عام 2021 / 2022 أي قبل أن يظهر برنامج «تشات جي بي تي»، وتنطلق حمى الذكاء الاصطناعي وتنهال الاستثمارات على شركاتها، وهو ما يدلّ على الوعي المبكر للحكومة الأميركية بأهمية هذه التقنية. هم أيضاً يؤمنون بأنه - في المستقبل القريب - قد يكون الفارق بين من يمتلك ذكاءً اصطناعياً جيداً ومن لا يمتلكه كالفارق بين من يمتلك كمبيوتراً ومن لم يصل بعد إلى العصر الرقمي. وهذا يشمل الاقتصاد والأعمال والإدارة ولكن، قبل كلّ شيء، الحرب والقدرة العسكرية. هم، بتعابير أخرى، يراهنون بأنّ من سيسبق في هذا المجال، ويبني «بيئة الذكاء الاصطناعي» التي ستسود غداً، هو من سيمتلك المستقبل.

من هنا صُدم الكثيرون حول العالم حين أعلنت شركة صينية، في اليوم نفسه لتنصيب دونالد ترامب رئيساً، عن نموذج ذكاءٍ اصطناعي يشبه النماذج الأميركية الأكثر تقدماً ويبزّها، ثم أعلنت «علي بابا» بعدها بأيامٍ عن نموذجٍ ثانٍ لا يقلّ تنافسية عن الأوّل. هنا يجب أن نعود قليلاً إلى عالم ما قبل «ديبسيك»، وكيف كنا ننظر إلى المسألة حتى أسابيع قليلة. قبل صدور نموذج «ديبسيك»، كانت القناعة السائدة أن هناك عنصرَي ندرة في مجال الذكاء الاصطناعي وتطويره: «السيليكون» والطاقة. السيليكون هنا بمعنى المعالجات المتقدمة التي تنتجها شركة مثل «نفيديا»، والتي تمّ تصميمها خصيصاً لأداء المهمات الحسابية المعقدة التي يستلزمها تدريب عقل اصطناعي على كميات هائلة من الـ«داتا» (تمثّل أغلب الإنتاج الفكري الإنساني)، وعلى مئات مليارات الـ«معايير» (parameters) التي يحلل عبرها هذه المعلومات. كانت القناعة أنك تحتاج إلى عشرات الآلاف من بطاقات «نفيديا» هذه (والواحدة منها تكلّف ما بين ثلاثين وأربعين ألف دولار)، وأن تشغّلها لسنةٍ أو سنتين حتى تدرّب لك عقلاً اصطناعياً كفؤاً (شركة «ميتا»، مثلاً، اشترت أكثر من 100 ألف بطاقة H-100 من «نفيديا»). هذا الحاجز هو الذي كان يردع الشركات الصغيرة، التي ليست في حجم «غوغل» و«أمازون»، عن الدخول في هذا المضمار أو محاولة تدريب نماذج كبيرة خاصّة بها، فكلفة البنية التحتية والتدريب تصل إلى مليارات الدولارات، وهي لن تربح ضدّ الكبار في لعبة «التضخيم» (scaling) التي تشبه سباق التسلّح.


عنصر الندرة الثاني هنا هو الطاقة، وإن كان استهلاك مراكز الداتا من الكهرباء لا يزال بسيطاً نسبياً اليوم، إلا أنّه حين يرتفع مع انتشار الذكاء الاصطناعي عشرة أضعاف، أو مئة ضعف، فإنّه سيصبح مكوّناً كبيراً من استهلاك الطاقة في بلدٍ مثل أميركا. ولو كنت في مكانٍ ثمن الطاقة فيه مرتفعٌ وباهظ، فأنت قد لا تتمكن من المنافسة. هذا يفسّر عقيدة الذكاء الاصطناعي - قبل «ديبسيك» - ولماذا كانت تقوم على «التضخيم الفائق» (hyperscaling)، وربط أعدادٍ هائلة من بطاقات «نفيديا» القوية ببعضها البعض، وإنفاق مئات المليارات على هذه البنى التحتية. بل إنّ ترامب قد افتتح عهده بمشروعٍ تقوده «اوبن إي أي» قيمته أكثر من نصف تريليون دولار، وهدفه الأساسي هو الاستثمار في مثل هذه المنشآت لتدريب نماذج متفوقة - وتكريس السيادة المطلقة لأميركا في مجال الذكاء الاصطناعي.

من هنا تمت هندسة العقوبات التكنولوجية على الصين بشكلٍ يمنعها من الحصول على السيليكون اللازم للمنافسة، أي بطاقات «نفيديا» المتخصّصة التي حظر تصديرها إلى الصين، ويمنعها أيضاً من صناعة شرائح من مستواها. في وسعهم الحصول على نماذج أقل قدرة من بطاقات «نفيديا» (تمّ تصميمها خصيصاً للسوق الصينية ولكي تتوافق مع معايير العقوبات)، وفي وسعهم أن يصنعوا ما يشاؤون من الشرائح القديمة التي يتمّ استخدامها اليوم في كلّ منتجٍ، من البرادات والغسالات إلى السيارات (في سيارة «تسلا» اليوم، مقبض الباب وحده يحوي خمس شرائح دقيقة تشغّله، والسيارة ككلّ فيها أكثر من ألفي شريحة). ولكن الصينيين لن يحصلوا على معالجات H-100 أو ما يماثلها، وسيستخدمون دوماً التكنولوجيا التي كان يستخدمها الأميركيون قبل سنوات، وإن حصلوا على بعض هذه الشرائح عبر التهريب مثلاً، فهي لن تكون بالأعداد اللازمة لتدريب عقل اصطناعي متفوّق - أو هكذا كانت النظريّة.

«السور التكنولوجي العظيم» للصين جزء من المعركة الكبيرة، حيث الفارق بين من يمتلك ذكاءً اصطناعياً جيداً ومن لا يمتلكه كالفارق بين من يمتلك كمبيوتراً ومن لم يصل بعد إلى العصر الرقمي

أغلبكم قد سمع عن «ديبسيك»، وأنّ هذا النموذج الصيني للذكاء الاصطناعي قد ظهر فجأةً، وتبيّن أنّه لا يقلّ مستوىً عن منافسيه الأميركيين (كانت تقدّر قيمة «اوبن إي أي»، لو أصبحت شركة ربحية، بأكثر من 150 مليار دولار قبيل ظهور «ديبسيك»)، وأنّه أكثر «فعالية» من البدائل، ولم يكلّف إنتاجه كثيراً، والشركة التي صنعته تضمّ لا أكثر من 200 موظّف، وهي أساساً تتاجر في البورصة وليست شركة تقانة. الفكرة الأساسية هنا ليست في هذه التفاصيل، بل في أنّ كامل «العقيدة» التي كانت تقود الحصار التكنولوجي ضدّ الصين قد تبيّن أنها لم تكن دقيقة، وأنّ الصينيين قد استغلّوا هذه الثغرات لكي يفرضوا نفسهم قطباً ثانياً في لعبة الذكاء الاصطناعي، كما حصل مع الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية وغيرها من الصناعات في السنوات الأخيرة. على حدّ قول خبيرٍ أميركي، فإنّهم قبل «ديبسيك» كانوا مرتاحين إلى أنّ الصين هي خلفهم في الذكاء الاصطناعي بسنتين أو ثلاث على الأقلّ، فتبيّن أنّ الفارق هو بالأسابيع.

العقل الصيني
ما الذي يجعل «ديبسيك» فريداً؟ وكيف تمكّنوا من بنائه وتدريبه على أقلّ من ألفي شريحةٍ، وهي من النوع «المحدود» بسبب العقوبات، والذي لا يفترض به أن يقوم بهذه المهمات بفعالية؟ وأن لا تكون مدّة التدريب أكثر من شهرين؟ ولا تكلّف أكثر من بضعة ملايين من الدولارات؟ البعض يقول إن الشركة «تخفي» شرائح متقدمة حصلت عليها بشكلٍ غير قانوني، والبعض يفهم تقدير الكلفة على نحوٍ خطأ («الكلفة» هنا هي حصراً كلفة جولة التدريب النهائية لنموذج الذكاء الاصطناعي؛ أي استئجار شرائح «نفيديا» وثمن الكهرباء على طول مدة الشهرين، وليس كلّ ما سبق ذلك لإعداد النموذج وتحضيره، أو رواتب المهندسين، الخ). ولكن هذا لا يهمّ، العنصر الأساسي هنا هو أنّ كلفة تشغيل العقل الصيني هي أيضاً أقلّ بأضعافٍ مضاعفة مقارنةً بالمنافسين الأميركيين. بمعنى آخر، النموذج الصيني يكلّفك أقلّ من عشر سنتات - كهرباء وبنية تحتية - لكل مليون «رمز» يقدّمه لك (ما يقارب المئة إجابة عن أسئلة تطرحها)، بينما بعض المنافسين يطلبون منك أكثر من أربعة دولارات للنتائج ذاتها. هنا لا يهمّ أن يكون «ديبسيك» بمستوى النماذج الأخرى، يكفي أن يكون «قريباً كفاية»، فهذا يشبه أن يصنع أحدٌ سيارة تسير لمسافة مئة كيلومتر بخزان وقودٍ مملوء، ويصنع آخر سيارة تشبهها ولكنها تسير لألفي كيلومتر بكمية الوقود ذاتها.

قرأت أكثر من نصٍّ تقني يشرح كيف أصبح «ديبسيك» بهذه الفعالية، ولماذا هو لا يحتاج إلى البنى التحتية الخرافية التي نجدها في الغرب، ولم أفهم منها شيئاً. ولكن ما فهمته هو أنّ «ديبسيك» لم يستخدم آلية واحدة، أو وسيلة «سحرية»، لحلّ كلّ هذه المشكلات، بل استخدم عدداً من التقنيات والإبداعات في مجال التصميم والبرمجة تضافرت لصنع هذا المستوى من البساطة والسرعة. على سبيل المثال، يبدو أن مصممي النموذج جعلوه «يعلّم نفسه بنفسه» كيفية التفكّر والمنطق، عبر التجربة والخطأ، بدلاً من أن يلقموه - كما يفعل الأميركيون - كميات هائلة من الداتا العالية الجودة، التي تم تصنيفها بعناية، لكي يقارن بينها ويتعلّم منها تدريجياً منهجية التفكير الأصلح. أو أنّ مصممي النموذج الصيني قد اعتمدوا هندسة اسمها «مجلس الخبراء»، إذ إنك حين تسأله سؤالاً فهو لا يقوم بتشغيل كامل «جهازه العصبي» للإجابة عنه، بل يوجّهك إلى الجزء الصغير الذي يحوي المعلومات التي تحتاجها (يحوي نموذج «ديبسيك» الكامل أكثر من 600 مليار «معيار»، تشغيلها في وقتٍ واحد يحتاج إلى كمّ هائل من الذاكرة الحسابية، ولكنه لا يستخدم أكثر من عشرين مليارٍ منها في وقتٍ واحد للإجابة عن ما قد تطرحه). هناك عوامل أخرى تتعلّق - على ما يبدو - بقدرة العقل الصيني على التنبؤ، وأنه لا يضطر إلى إعادة كلّ مرحلةٍ من خطوات تفكيره مرّاتٍ عدّة لاختبارها كما يفعل «تشات جي بي تي»، ولكني هنا قد وصلت إلى «حدودي التقنية».

على الهامش: هناك ورقة مسرّبة من داخل شركة «غوغل» من عام 2017، تتنبأ تقريباً بما حصل هنا. الورقة التي كتبها أحد المهندسين الكبار كانت تحاجج بأنّ الذكاء الاصطناعي قد لا يكون سباقاً على الاستثمار و«التضخيم» كما نعتقد، بل قد نقدر على إنتاج «ذكاء اصطناعي عام» (أي نموذج يتفوق بوضوحٍ على البشر في كلّ المهمات العقلية، وهو المعيار/ الهدف الذي تسعى إليه الشركات) بإمكاناتٍ متواضعة إن استخدمنا هندسةً ذكيّة. يتفق الكثير من المهندسين اليوم بأننا قد وصلنا إلى «حائط» في مجال «ما قبل التدريب»، بمعنى أنك لن تحصل على قفزاتٍ كبيرة في أداء الذكاء الاصطناعي عبر تضخيم حجم الداتا التي تدربه عليها أو عدد المعايير التي «تقيّم» الداتا (قرأت أن الداتا التي يمكن أن تلقمها لـ«نموذج لغوي كبير» - مثل الكتب والصحف - قد أصبحت تقريباً محصورة ومرقّمة، ولن نجد المزيد من الداتا العالية الجودة بعد الآن). من الآن فصاعداً، يقول هؤلاء، سيكون تحسين مستوى الذكاء الاصطناعي عبر التعديلات التدريجية والترشيق البرمجي، وأن يستمرّ النموذج بتحسين نفسه بنفسه، وليس عبر التضخيم الكمّي والاستثمارات المليارية. حذّرت مذكّرة غوغل أعلاه أنهم - وغيرهم - لا يمتلكون «خندقاً» حقيقياً في مضمار الذكاء الاصطناعي كما كانوا يتوهّمون (و«الخندق» هو رمزٌ لعنصر تفوّقٍ تحوزه الشركة ويعصمها عن المنافسة). ثم تخيّلت المذكّرة أن يخرج نموذج ذكاء اصطناعيٍ مجاني، مفتوح المصدر، وكفؤ بما يكفي لكي يعتمده المطوّرون ويبنوا عليه، وهو ما اعتبرته سيناريو الكارثة.

هنا نصل إلى الصفة الأهمّ في «ديبسيك»، وهي ليست في أنه صينيّ، أو فعّال ورخيص، بل في أنّه مفتوح المصدر بالمعنى الكامل. في وسعك - مجاناً - أن تستنسخه وتحسّنه وتعدّل فيه، وتطوّعه لحاجاتك الخاصّة. رغم الاسم المخادع لـ«اوبن إي أي»، فإن النموذج الأميركي ليس مفتوحاً البتّة، معايير النموذج والطريقة التي يفكّر بها هي صندوق أسود لا نعرف ما يجري داخله، فيما «ديبسيك» يعطيك بشفافية مراحل التفكير التي اعتمدها للوصول إلى إجابته. وقد تبيّن أنّه فعّال و«صغير» إلى درجة أنّه يمكن أن تنسخه وتشغّله «محلياً» على جهاز خاص متواضع القدرات، يقدر أكثر المطوّرين على امتلاكه. بهذا المعنى، فإنّ مستقبل التكنولوجيا قد لا يكون لشركات «إقطاعية» قليلة تحتكر التكنولوجيا بينها، وتبيعها لنا على صورة سلعٍ وخدمات، بل قد يكون المستقبل لتطبيقاتٍ إبداعيّة تخرج من فرقٍ صغيرة، وتُبنى على نماذج مجانية ومفتوحة للذكاء الاصطناعي، وهنا لا توجد ميزةٌ حقيقية للشركات الكبرى (الذكاء الاصطناعي الأميركي الوحيد الذي يمكن عدّه مفتوح المصدر هو نموذج «لاما» من «ميتا»).

ظهور «ديبسيك»
قد يكون مؤشراً جديداً على أننا نعيش في
عالمٍ غير مستقرٍّ بطبعه، حتى أميركا لا تقدر على ضبطه بالكامل، ويتجه لأن لا تعود فيه مرجعية معرفية واحدة عليا
للعالم

بعد أن نخرج من مرحلة النموذج الأساسي الذي «يفكّر»، سيكون الفيصل هو لتحويله إلى تطبيقاتٍ عملية ومفيدة، وأن تدرّب هذا العقل على أداء مهمات محدّدة لم يفكّر بها أحدٌ من قبلك. تخيلوا مثلاً ذكاءً اصطناعياً اختصاصه في صناعة النفط، قمنا بتدريبه على أفضل المراجع في المجال (كتب ودوريات علمية وأخبار منذ بدء عهد الطباعة، وفي كل المجالات من الاقتصاد إلى الجيولوجيا)، وقد صنّفتها له بعناية بحسب قيمتها ومستواها، وهو يتابع يوميّاً كلّ الأخبار، ثمّ تبيع هذا العقل كـ «خدمة». هو لن يجيبك فحسب عن أسئلةٍ واستفسارات تواجهك في المجال، بل سيعطيك آراءً عن اتجاه السوق، ونصائح عن أفضل موقعٍ للتنقيب، وهو سيأخذ بعين الاعتبار عدداً من العوامل والمعرفة لا يمكن أن يصل إليه عقل إنسان. كلّ من يعمل في صناعة النفط ودراسته وتجارته سيحتاج إليه. أو تخيّل، كمثالٍ آخر، ذكاءً اصطناعياً درّبته على كامل مكتبة التراث العربي، كلّ أعمال الفقه والتاريخ والعلوم والآداب التي أنتجها مفكرونا. وحين تسأله عن مسألةٍ ما، فهو يعدد لك كلّ من تكلّم عنها، ويقارن بين آرائهم، ويعطيك تفسيره الخاص إن شئت. هذه، في المناسبة، مهمات بسيطة يمكن أن تؤدى بسهولة بالتكنولوجيا الحالية. على الهامش: بطبيعة الحال لديّ أنا وأصدقائي، منذ فترة، أفكارٌ كثيرة لتطبيقاتٍ في الذكاء الاصطناعي تكون مبتكرة ومفيدة ومربحة، وبطبيعة الحال نحن لن نفعل شيئاً.

الرهان الأكبر
أكثر الناس يفهم هذه المسائل حصراً من زاوية القطبية الصاعدة بين أميركا والصين: هل تأخرت أميركا حقّاً وخسرت فرصتها للجم الصين تكنولوجياً؟ هل أصبحت للبلد قاعدة تقنية كبيرة واقتربت من مرحلة «السيادة التقنية» الكاملة؟ يقول القائد الغامض للشركة الصينية التي أنتجت «ديبسيك»، ليانغ وينفينغ، في مقابلةٍ نادرة أن لا مشكلة لديه في تقديم برنامجه مجاناً، فالثروة الحقيقية عنده هي ليست في حقوق الملكية الفكرية، أو تحصيل عوائد منها ورسوم، بل الثروة هي في فريقه المختار من المهندسين المهرة الخبراء، وهو ما يصعب استنساخه.

ولكن هنا عنصرٌ مسكوتٌ عنه في المعادلة، وهو الدور الأوروبي - أو غيابه. كلّ اكتشافات الذكاء الاصطناعي، خبراء وتقنيات واستثمارات، هي بين أميركا والصين، وأوروبا - مثل باقي العالم - هي خارج المعادلة تماماً. المسألة هنا أعمق من صناعة ناشئة جديدة، بل هي تتعلّق ببنية النظام العالمي نفسه، والعلاقة بين أميركا و«حلفائها الأثرياء». شرحت سابقاً كيف أنّ أميركا تحتكر، شيئاً فشيئاً، «الطابق الأعلى» من الرأسمالية، حيث نجد الأرباح الكبيرة والنمو الحقيقي. شركة «نفيديا» مثلاً، التي تزوّد كل هذه الأطراف بـ«السيليكون»، تحصّل هامش أرباحٍ يفوق أحياناً التسعين في المئة. أوروبا، بالمقابل، أصبحت تتنافس مع الصين - وتخسر غالباً - في «الطابق الثاني»، حيث الأرباح أصلاً أقل، والهوامش تُعصر على الدّوام، ولا مكان للمال السهل والرواتب المترفة.

في تقريرٍ لمؤسسة استثمارية، تمّ تعداد 25 شركة ستستفيد مستقبلاً من موجة الذكاء الاصطناعي، ليس من بينها سوى شركةٍ أوروبية يتيمة، والباقي كله أميركي. هل يمكن أن تذكروا لي اسم شركة أوروبية واحدة رائدة في عالم التكنولوجيا، على طريقة غوغل أو علي بابا أو تنسنت؟ المثال الوحيد الذي يتبادر إلى ذهني هو شركة «اس اي بي» الألمانية، وأنا أعرفها فقط لأنّ لي صديقاً يعمل فيها (وهي تسمى أحياناً «شركة التكنولوجيا الأكثر مللاً»، إذ تبيع برامج إدارية للمؤسسات والشركات). طالما أننا في مجال المقارنة: قيمة شركة «نفيديا» وحدها كانت تفوق - حتى أسابيع قليلة - قيمة كلّ الشركات المدرجة في بورصات بريطانيا وفرنسا وألمانيا مجتمعة.

بدأ الكثير من الناس ينتبهون إلى الهوة المتّسعة في النموّ بين أميركا وأوروبا. عام 1990، مثلاً، كان معدل دخل الفرد في ألمانيا أو فرنسا أو بريطانيا يساوي تقريباً نظيره الأميركي، وكان دخل الياباني أكبر. وحتى في سنة 2010 (أي البارحة) كان الفارق بين هذه الدول هامشياً. أمّا اليوم، فقد أصبح دخل الألماني والفرنسي أقل من ثلثي نظيره الأميركي؛ هذا يشبه الفارق الذي كان بين أهل أوروبا الغربية والمواطنين السوفيات في سبعينيات القرن الماضي، و«التأخّر» الأوروبي يتسارع (هذا لا يعني بالطبع أن أكثر الأميركيين يعيشون اليوم أفضل من أكثر الألمان، هذا مجرّد مقياسٍ كمّي عام نستخدمه لمقارنة حجم الاقتصاد وفعاليته، ولا علاقة له بالتوزيع أو بمستوى حياة الغالبية).
ظهور «ديبسيك» قد يكون مؤشراً جديداً على أننا نعيش في عالمٍ غير مستقرٍّ بطبعه، حتى أميركا لا تقدر على ضبطه بالكامل، ويتجه لأن لا تعود فيه مرجعية معرفية واحدة عليا. ولكنّ السؤال يبقى: إن كان الذكاء الاصطناعي «مسالماً» و«خيراً»، سوف يوصلنا إلى عالمٍ من الوفرة والثراء إذ لا يعود من سببٍ للتدافع والصراع فيه، فلماذا إذاً هذا السباق المحموم بين الحكومات على امتلاكه أوّلاً والهيمنة عليه؟

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي