خمسون يوماً على سقوط النظام: نظرة في المسار والملامح
بعد مرور أسابيع على سقوط نظام بشار الأسد، تشكّلت ملامح أولى لصورة سوريا، تلك المرتسمة في أذهان من قاموا بإسقاطه، رغم الإشكالية التي تشوب ارتباط هؤلاء بالفعل. إذ بدأت معطيات عدة بالتكشّف، وهي تشي بأن السقوط كان نتيجة لتوافق إقليمي دولي ولم يكن ذا طابع محلي، أو على الأقل إنّ من المبكر الفصل الآن ما بين توصيفين، سادا أخيراً، لما جرى يوم 8 كانون الأول المنصرم: أحدهما يقبع عند «الانقلاب»، فيما يصول الثاني على حدود «الصفقة». وإذا ما كانت المدة إيّاها غير كافية لإصدار حكم نهائي، أو تحديد ملامح مكتملة، لكنها كافية بالتأكيد لرسم ملامح بـ«القلم الرصاص» لتلك الصورة. وما تشي به هذي الأخيرة يشير إلى صعود مجموعة محددة، ذات جذور اجتماعية متجانسة، إلى سدة السلطة والإمساك بها. وفي ظل إدراك تلك المجموعة لحقيقة «التضاد» القائم بينها وبين غالبية القوى والتيارات السورية بمختلف صنوفها، السياسية والاقتصادية والثقافية، فإنه كان حتمياً عليها الاستقواء بالخارج، أولاً، ثم محاولة «التوطين» لأجانب ووضعهم في مفاصل يمكن لها أن تكون على حواف «صناعة القرار».
والفعل، من حيث النتيجة، يتعدّى مكافأة هؤلاء على الأدوار التي قاموا بها في السابق ليصل إلى دوافع من نوع تعزيز ذلك الاستقواء، بل وإعطاؤه طابعاً «وطنياً»، أو محلياً على أقل تقدير. ومن المؤكد أن ذينك الفعلين سوف يزيدان من التوتر القائم ما بين «الإدارة الجديدة» وبين «مكونات» المجتمع السوري بشتى صنوفها، ولسوف يفضي، خلال وقت قصير، إلى حال من الصدام من الصعب التكهّن في المديات التي يمكن له الوصول إليها.
كان «الهدوء» الذي ساد البلاد بعيد السقوط المدوي لنظام الأسد بمفاعيل عدة، بعضها ذو علاقة بالقوالب التي اختلقها هذا الأخير عبر إقامته التي استمرت لأكثر من نصف قرن، والتي استدعت بالضرورة مزيداً من الخوف والاضطراب والقلق لدى الشرائح التي تضمّنتها تلك القوالب. لكن ذلك لا يلغي عاملاً مهمّاً كان قد برز عبر رفع «الإدارة الجديدة» لشعار «وحدة سورية واستقلال ترابها الوطني» الذي لامس ما يجول في أعماق الذات الجمعية السورية التي عانت التمزق على امتداد 14 عاماً. وكان من الواضح، عبر الكثير من المؤشرات والمعطيات، أن ثمة «اشتياقاً» حاكماً، وهو يشي بنزعة جامحة تولدت لدى الأطراف التي أحست بضرورة العودة إلى «إمامة قاسيون» من جديد، لكن مسيرة شهر كانت قد أبرزت عدداً من العقبات أمام فعل من ذاك النوع الذي كان له أثر فعال في حالة الهدوء آنفة الذكر.
في الجنوب، أعلنت حركتا «رجال الكرامة» و«لواء الجبل»، وفقاً لما ذكرته شبكة «السويداء 24»، في 6 كانون الثاني الجاري، عن «خارطة طريق» جاء في تضاعيفها رفض لتسليم السلاح ما «لم تتشكل حكومة انتقالية تمثل كل السوريين». والشاهد هو أن ذينك الفصيلين كانا قد اعترضا، قبل خمسة أيام من الإعلان عن تلك «الخارطة»، رتلاً تابعاً لـ«الأمن العام» التابع لـ«إدارة العمليات»، ومنعاه من دخول المدينة. وفي الجوار سرعان ما توقفت الحملة الأمنية التي شنتها الفصائل التابعة لـ«ردع العدوان» على الصنمين، بدرعا يوم 8 من الشهر الجاري، بعيد ساعات على انطلاقتها، ليلجأ الطرفان إلى التفاوض الذي أفضى إلى تسليم السلاح الثقيل فحسب، ما يشي، لدى تلك الفصائل، بمطالبة واضحة في الحصول على جزء من «الكعكة» ثمناً لتسليم السلاح.
القاعدة الاجتماعية الداعمة للنظام الجديد هي في أضيق حالاتها، ولربما تشهد، لاحقاً، تقلصاً أكبر بمفاعيل الارتجالية وبروز نزعة العنف والانتقام
وفي الشمال الشرقي، أعلنت قوات «التحالف الدولي» عن إنشاء قاعدة لها في عين العرب، في رسالة أميركية مفادها أن ذاك الملف «خاص» و لا يمكن حلّه عبر الوسائل التي جرى استخدامها في باقي الملفات.
أمّا في حمص، وسط البلاد، فالنموذج المستخدم، والذي أريد منه «ترهيب» الجوار وصولاً إلى الساحل، فقد كانت المعطيات تشير إلى أن عملية «التطويع» ليست بلا أكلاف، ورغم إعلان انتهاء «الحملة الأمنية» على المدينة التي انطلقت مطلع هذا الشهر إلا أنها تركت «ندوباً» قد يطول الوقت قبيل دخولها مرحتلي التعافي والاستشفاء. ولعلّ النموذج المتّبع في مناطق الساحل، ضمناً حمص وريف حماه، يشي بأن «الإدارة الجديدة» لا تتمتّع بـ«الرشاقة الاستبدادية» التي برع بها نظام الأسد السابق، بل ولا تملك القدرة، قدرة هذا الأخير، على تعميم الظلم وتوزيعه بشكل «عادل» على الجميع.
بدت سوريا، كياناً وجسداً وروحاً، بعد مرور شهر على سقوط الأسد نسيجاً هشّاً، وزاد من هشاشته حالة التفلت الأمني التي بدت كما «الثقب الأسود» الذي يهدّد تماسك المجتمع ووحدة الأرض السوريين، جنباً إلى جنب تردّي الوضع المعيشي الذي وصل إلى مديات أبعد من تلك التي كان عليها قبل 8 كانون أول المنصرم. فإذا ما كانت الأسعار قد انخفضت حقّاً، فإن السيولة باتت شبه مفقودة لدى شرائح كبرى من السوريين. ومن المؤكد أن القرار بـ«تحرير الاقتصاد»، وفقاً لمقتضيات اقتصاد السوق، سوف تكون له تداعياته، غير المحمودة، على التركيبة السورية. ومن الصعب الآن التنبؤ في المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذي الأخيرة. ولعل أبرز الظواهر التي يمكن رصدها خلال ذلك الشهر هي حالة الاستقطاب الإقليمي- الدولي التي تشكلت على خلفية السياسات التي اعتمدتها إدارة البلاد الجديدة؛ فمعسكر الداعمين لهذي الأخيرة يكاد يقتصر على تركيا وقطر، ومن يقفون على الضفة الأخرى يكاد أن يكونوا «كل العالم» الذي يخلو من هاتين الدولتين. ومن المؤكد أن هذي الحال لا يمكن لها، تحت أي ظرف من الظروف، انتشال الواقع السوري المثقل بالكثير، بدءاً من «هشاشة» الجغرافيا والنسيج المجتمعي، ووصولاً إلى «كهربة» البلاد التي تلعب اليوم، إلى جانب «مسألة الخبز»، ركيزة أساسية في «تصليب» الأولى و«تقسية» الثاني.
ما تستحضره الأحداث والمسارات والاستقطابات التي شهدها الشهر المنصرم هو خلاصة مفادها، في ما يخص الأولى، أن القاعدة الاجتماعية الداعمة للنظام الجديد هي في أضيق حالاتها، ولربما تشهد، لاحقاً، تقلصاً أكبر بمفاعيل الارتجالية وبروز نزعة العنف والانتقام. وفي ما يخص الثانية والأخيرة، فالخلاصة تقول إن الساحة السورية باتت أكثر عرضة لمؤثرات خارجية يرى مديروها أن واقع الحال السوري الراهن هو «أنجع» وصفة لتوتر إقليمي قد يتسع لأن يرقى للعالمية. وعليه، يصحّ ربط المشهد الحاصل يوم 8 كانون أول المنصرم مع نظيره الحاصل يوم 30 آذار 1949، الذي شهد انقلاب حسني الزعيم، والذي أرسى لسلسة من الانقلابات لم تتوقف عجلتها عن الدوران إلا بعيد اكتشاف «وصفة سحريّة» جرى استخدامها خريف عام 1970 فصاعداً.
* كاتب سوري