سفينة «البعث» التي تمزّقت آخـر أشرعتها على أبواب دمشق
في محاضرة له ألقاها على مدرج جامعة دمشق يوم 5 نيسان من العام 1944، يقول ميشيل عفلق أحد كبار مؤسّسي حزب البعث، إن «العرب منذ ضمور الحيوية فيهم، أي منذ مئات السنين، يقرأون السيرة النبوية، ويترنّمون بها، ولكنهم لا يفهمونها، لأن فهمها يقتضي درجة من غليان النفس قصوى، وحدّاً من عمق الشعور وصدقه لم يتوفر لهم بعد، وموقفاً وجودياً يضع الإنسان أمام قدَره وجهاً لوجه، وهم الآن أبعد ما يكونون عن ذلك»، قبيل أن يختم بالقول: «حتى الآن، كان ينظر إلى حياة الرسول من الخارج كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدّسها، وعلينا أن نبدأ بالنظر إليها من الداخل لنحياها».
كانت خطبة عفلق، المسيحي الأرثوذكسي الدمشقي، بمثابة البيان التأسيسي للحزب الذي سيعرف، في ما بعد، بحزب البعث، الذي كانت أفكاره ورؤاه تغوص في الذات السورية، أو في جزء وازن منها، منذ مطلع القرن العشرين، بمفاعيل كتابات زكي الأرسوزي ووهيب الغانم وقسطنطين زريق. لكن الخطبة كانت قد أثارت النقمة عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء، إذ طالما اعتبرها الشارع الإسلامي على أنها إيحاء بأن الإسلام هو «إنجاز عربي أكثر منه وحياً من عند الله»، وفقاً للتوصيف الذي استخدمه خطيب الجامع الأموي في أول خطبة جمعة تلت محاضرة عفلق. فيما ارتأى المسيحيون أن عفلق «قدّم تنازلاً كبيراً للتيار الإسلامي»، وفقاً لتوصيف استخدمه أحد أساقفة دمشق في حينها، ونشرته جريدة «الأيام» الدمشقية ذائعة الصيت آنذاك.
هذا يشير إلى أن «المولود» المنتظر، الذي كان يمثّل محاولة نهوض قومية، وهي تعتدّ بإرث إسلامي كبير، كان على موعد مع مسير مليء بالتلال والهضاب التي راحت ارتفاعاتها تتعالى على وقع رفع «المولود» لسقوفه، الفعل الذي وضع منظّروه، وكذا ساسته، في خانة المصابين بداء «المحافظة السياسية» الذي تختصره مقولة «إمّا كل شيء، أو لا شيء».
يصف المؤرخ كمال الصليبي حزب البعث بـ«بيت بمنازل كثيرة»، وهو عنوان لكتاب مهم له («بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصور والواقع»، صدر في بيروت عن مؤسسة نوفل عام 1991)، ولربما كان ذلك التوصيف هو الأكثر دقة لتجربة الحزب التي راحت تتمايل على وقع التطورات التي راحت تعصف بالمنطقة بعيد الإعلان عن ولادة دولة إسرائيل، وكذا على وقع الآليات المطروحة لمواجهة ذلك الفعل الذي اتفق الجميع، داخل الحزب، على أنه يمثل التحدي الأكبر أمام وحدة ونهوض الأمة العربية من أقصاها إلى أقصاها. لكن تمايز المراحل راح يقذف بالعديد من المفاهيم والمصطلحات حتى غدت الساحة مليئة بكم لامتناهٍ منها. والفعل من حيث النتيجة كان ذا أثر سلبي على قواعد الحزب، وعلى صورته داخل النسيج المجتمعي الذي ولد من أعماق رحمه.
يفسّر هذا تمرحلات الحزب التي عرض لها المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو الذي قسّم المراحل التي مرّت بها التجربة إلى ثلاث:
الأولى، هي «البعث الطلابي» (1947 - 1952) التي جرى التركيز فيها على قطاع الطلبة والمعلمين كحامل اجتماعي.
والثانية، «البعث الفلاحي» (1952 - 1960) التي جرت بنتيجة اندماج الحزب مع «الحزب الاشتراكي العربي» الذي أسسه أكرم الحوراني بعيد افتراقه مع الحزب القومي السوري، الأمر الذي أعطى «البعث» طابعاً ريفياً لم يستطع التخلص منه حتى «الممات». وإذا ما كان الفعل مناسباً لمرحلة ما، إلا أنه كان معيقاً على المديَين المتوسط والبعيد. فـ«ترييف» السلطة يجعل منها، بمرور الوقت، عاملاً معيقاً أمام تطور القوى المجتمعية والإنتاجية على حد سواء.
أمّا الثالثة، فهي «البعث العسكري» (1960 - 2024) التي لربما جاءت بنتيجة «المنازل العدّة» كمحاولة لفرض «البيت الواحد»، على الرغم من أن الممارسة قادت إلى تجربة كان من شأنها تدمير العراق، ومن ثم لاحقاً إلى تدمير سوريا، كما لم تشهده أيٌّ من الكيانات القائمة في المنطقة.
كانت الشعارات التي يفترض فيها أن تعكس نهج الحزب حائرة ومتلونة وعفوية في آن. فبعد يوم واحد من إعلان الوحدة ما بين مصر وسوريا، ألقى عفلق من على شرفة قصر الضيافة خطاباً أعلن فيه عن حل الحزب «تيسيراً لمطالب الوحدة»، لكنه بعد نحو عام كانت نظرته لمشروع عبد الناصر قد تغيرت.
كانت «الموتوسيكلات» كافية لدخول المدن الكبرى، الفعل الذي يعني أن أهل هذي الأخيرة كانوا يتعجّلون «دفن الميت» وهم مدركون بأنّ أحداً لن يبكي عليه
يروي نبيل شويري، وهو من أهم الملمّين بالتجربة، أنه كان يسير في شارع بغداد بدمشق إلى جانب عفلق في إحدى ليالي 1959 قبيل أن يفاجئه الأخير بالقول إن «عبد الناصر خلق قبل الشيطان، إن عبد الناصر هو الشيطان بعينه»، وهذا بالتأكيد يطرح إشكالية كبرى تصيب العلاقة الرابطة ما بين النظرية والممارسة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبريرها بالأحاديث التي تكاثفت، في ما بعد، عن ممارسات المصريين داخل الإقليم الشمالي.
وفي اجتماع حزبي جرى بعد هذا الخطاب، وهو يظهر العفوية بدرجة فاقعة، سأل أحد الحاضرين عفلق إذا ما أخذت «الضمانات من عبد الناصر في شأن الديموقراطية»، فردّ عفلق، وفقاً لرواية شويري، «ضمانات؟ نحن نتحدث عن صناعة التاريخ، وعن الوحدة العربية، وأنت تتحدث عن الضمانات؟». وفي ذلك الاجتماع، اقترب أحد الحضور، وفقاً للرواية السابقة، من رفيقه هامساً في أذنه بالقول «يالله يا شباب، كل واحد إلى عشيرته أو طائفته» ـــــــ ولربما كان ذاك القول معبّراً عمّا يعتمل في ذوات الكثيرين كناية عن انهدام أولى الجدران في البنيان.
فضّل «البعث» الاستئثار بالسلطة بعد وصوله إليها ربيع عام 1963، وسرعان ما قام باجتثات القوى التي ساندته في مسيرته تلك، واضعاً نفسه في مواجهة مباشرة أمام قوى مجتمعية وازنة تمثّلت بالطبقتين الوسطى والبورجوازية، الأمر الذي دفع إلى مزيد من التصلّب تمظهر في حركة 23 شباط 1966 التي غاب عن ذهنية صانعيها حقيقة أن الاستمرار لا يرتبط، فحسب، بالتوازنات الداخلية، بل بعوامل إقليمية ودولية بدت متضادة مع المشروع الذي حمله هؤلاء. ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة خريف عام 1970، بدا أن «البعث» قد أضحى هامشياً في ارتكازية هذا الأخير، الذي راحت تمدّ جسورها نحوه «واحات» كانت تعاني من التهميش بشتى أنواعه السياسية والاقتصادية والمجتمعية.
شهد «البعث» خلال العقد الأول من حكم الأسد الأب تمايزاً مع كل الألوان السابقة لهذا الأخير مع بقاء الشعارات عينها مرفوعة على المنابر، كان ذلك محاولة لتفريغ كل شيء من محتواه. ومع تمرد «الإخوان المسلمون»، أواخر السبعينيات، استكشف الأسد فرصة سانحة للقضاء على النقابات التي أظهرت، بشكل أو بآخر، تأييداً لذلك الحراك الذي عنى، في بعده الاجتماعي الاقتصادي، رفضاً لرأسمالية الدولة التي راحت تتخذ طابعاً أكثر قساوة على الطبقة الوسطى وما دونها. ومنذ عام 1980، الذي شهد حل النقابات، ستمضي دولة البعث السورية في سياقات هي أشبه بوقوع البلاد أسيرة مشروع أقل ما يقال فيه إنه لا يتماشى والتركيبة السورية الشديدة الحيوية. وما زاد من حمولات المشروع السلبية هو فرض الأسد حالة «الصوم السياسي» على البلاد بدرجة جعلت من البلاد أشبه بـ«طنجرة ضغط» خالية من أي فتحة لإخراج البخار.
وبمرور الوقت، نجحت هذي الحالة الأخيرة في فرض حالة هي أقرب لقبول المجتمع، بغالبية تياراته وقواه، بتلك القوالب، الأمر الذي جاء تفسيره عند باتريك سيل عبر نجاح الأسد ببناء «منظومة الاستبداد والأمن»، في حين فسّره نيكولاس فان دام بمبدأ «الطاعة والإذعان» الذي يعني «تلويث» دوائر القرار ومن يعمل فيها ضماناً لصمتها. أمّا التفسير الذي اعتمده حنا بطاطو، فكان يقول بنجاح الأسد في «ترييف» السلطة والجيش على حد سواء.
لدى وصول بشار الأسد إلى السلطة صيف عام 2000، كان «البعث» أشبه بـ«جثة هامدة»، وهي بثقل يتعدّى 3.6 ملايين عضو، وفقاً لتقرير صحيفة «البعث» الناطقة باسم الحزب آنذاك. ومع انكسار جناح «البعث» في الشرق بسقوط حكمه في بغداد ربيع عام 2003، وجد الأسد أن من الملائم إعلان القطيعة مع الأيديولوجيا البعثية تماماً. يروي الكاتب فلينت ليفيريت، في كتابه «وراثة سوريا»، أن بشار الأسد قال له، في مقابلة جرت في شهر كانون الثاني من العام 2004، إن «الأيديولوجيا البعثية لم تعد تهمّ».
والمؤكد أن هذا التصريح الذي يحمل بين طيّاته اعترافاً بأن وصوله إلى السلطة لم يكن «عبر البعث»، يحمل في مقلب آخر اعترافاً بأن الممارسة شطحت بعيداً حتى لم يعد بالمقدور القول بأن فعلاً من نوع تبنّي النظرية لا يزال قائماً.
مع بدء الاحتجاجات السورية ربيع عام 2011، التي كانت، ببعدها الاجتماعي الاقتصادي تعبيراً رافضاً لاقتصاد السوق، كان تأثير «البعث» قد توارى وراء كتائب حملت اسمه، ولم يكن لها أي تأثير في مسار الأحداث، ولا كانت حاضنة «البعث» لها أيّ تأثير في ذلك المسار. بدا «العفن» واضحاً في البنيان والتراكيب والهياكل التي كانت تستظلّ بظلّ «البعث». وعليه، فقد كانت «الموتوسيكلات» كافية لدخول المدن الكبرى، الفعل الذي يعني أن أهل هذي الأخيرة كانوا يتعجّلون «دفن الميت» وهم مدركون بأن أحداً لن يبكي عليه.
سقط «البعث» كما «لوح كرتون» ولم يستحق عيناً واحدة دامعة عليه من بين ملايين الأعين التي كان أصحابها يبصمون بالدم في الاستحقاقات «الوطنية» حتى جفّت الدماء... وصولاً إلى جفاف الدموع.
* كاتب سوري