لسنا مَن ينصر المقاومة على حَرف

(أ ف ب)
(أ ف ب)

«المياه التي تظل راكدة زمناً طويلاً لا بدّ وأن تَفسد، وكذلك الروح تَفسد إذا عاشت في دَعة وسكون زمناً طويلاً، فيرسل الله الريح التي تثير العاصفة، فتحرك صفحة الماء وتبعث فيها الحياة من جديد، وتدبّ الحياة في النفوس الميتة من جديد»
نيكوس كازانتزاكيس، «المسيح يُصلب من جديد»

«كألف سنة مما تعدّون»؛ هكذا يبدو عام الطوفان... أشبهَ بيوم عند ربّك الذي أراد أن يغتّنا بالبلاء غتّاً حتى لنكاد نوزّع منه على أهل السماوات والأرضين. إلى ما قبل ذلك العام، لم يكن ليخطر في بال أحدنا أن إنسان الناسوت يمكن أن يفقد القدرة على مَيْز الزمان والمكان، حتى إذا ما أخذنا بمقولة فلاديمير لينين إن «هناك عقوداً لا يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع تحدث فيها عقود». لكن السابع من أكتوبر جاء لينقلنا من عالم الغفلة والسكون والاطمئنان إلى عالم الكدح والقلق والانتظار، وكأنه برزخ ما بين الموت والقيامة. وإذا كان البرزخ الذي مِن ورائنا، مِن بعد موتنا، إلى يوم نُبعث، جسراً ما بين «القبر» و»المثال»، فإن «طوفان الأقصى» لا يبعد عن تلك الصفة الانتقالية نفسها، مع فارق أن العمل «صالحاً» هنا لا يزال ممكناً، وأن تغيير الأقدار لا يفتأ محتملاً، وأن «الجنة» هي التي نصنعها الآن بأيدينا ودمائنا وأعمارنا وصبرنا الذي بُشّرنا بأن جزاءه مقام لا نرى فيه شمساً ولا زمهريراً.
لقد ارتضى كثيرون، منذ أن انفلت الغول على مستضعفي أرض هذه الأمة وبدأ حربه «المقدسة» عليهم، أن يكونوا كـ»البهيمة المربوطة، همّها علفها، أو المرسَلة، شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يراد بها»، مثلما وصف به علي بن أبي طالب من يتسيّد القوم ولا يشاركهم في مكاره الدهر أو يكون أسوة لهم في جشوبة العيش. على أن ثلّة قليلة من بين كلّ أولئك الغافلين رفضت أن تجرّ حبل الضلالة، أو تعتسف سبيل المتاهة، ولم تأخذها في نصرة «الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق» لومة لائم، أو وجهة معاتب، أو رغبة صديق، أو تمنيات عدو.»فإذا لم أفعل ما يلزم لمنعها، أكون متواطئاً. وإذا لم أخاطر بحياتي لمنع اغتيال بشر آخرين، وإذا بقيتُ ساكتاً، أشعر أنني مذنب... وإذا عشتُ بعد وقوع أمور كهذه، فإن ذلك يضغط عليّ مثل ذنب لا يمكن التكفير عنه»؛ هكذا، وبالاستعارة من شروحات كارل ياسبرز لـ»الجرمية الميتافيزيقية»، يمكن تخيّل ما كان يدور في خلَد رجل يَعلم ويَعلم أنه يَعلم، مثل حسن نصرالله، لدى مشاهدة وقائع تطهير عرقي معلَنة، تُبثّ على الهواء مباشرة، ولا يمكن لإنسان، حتى لو في قلبه مرض، أن يغمض عنها عينيه، أو أن يسدّ أذنيه وينام ملء جفونه عن شواردها، أو أن يعيش في خضمّها من دون أن يشعر بأن شوكة عملاقة تنمو في مجرى نهاراته ولا تجد لها مخرجاً لإبرها، وأن حنظلاً يرتفع في حقل لياليه من غير أن يلقى مصرفاً لنقيعه، وأن جبل جليد يعلو في صحراء سريرته مُعجِزاً كلّ شمس.
ببساطة، قرّر نصرالله والذين معه أنه «ما دام هناك من يرفض إمكان أن أكون إنساناً، فأنا لا أستطيع التخلّي عن التضامن مع المصير المخصّص لأخي»، بحسب ما كان عبّر به فرانتز فانون عن أولئك الذين يمسّهم الظلم في الصميم، إلى حدّ ينطبق عليهم معه قول إيمي سيزير: «لا يوجد في العالم شخص مسكين معاقَب، إنسان معذَّب، لا أكون مقتولاً فيه ومهاناً». والحقّ أن ذلك القرار يصحّ أن يُتّخذ فرقاناً في هذه المعركة التي لم تعد تنفع معها الفزلكات السياسية وادعاءات الموضوعية ونوبات الغضب الأخلاقي الكاذب؛ فإمّا أن تكون مع محور الإنسان، وخلاصةُ روحه نصرالله، وإمّا أن تكون مع محور الوحوش وعبيدهم. تلك هي الحقيقة الساطعة التي يَقصر عن الطعن فيها من «أعدّوا لكلّ قائم مائلاً». ذلك أن مأساتنا التي نحيا، قد كشفت الغطاء لكلّ من كانت لا تزال تسكنهم الشكوك في العدل وأهله، ووهبت يقيناً لمن أَرْتج عليهم الأمر، حتى ممّن دأبوا على النظر من تحتهم ومن فوقهم، وعرفوا الحق ومن أتاه، تماماً كما عرفوا الباطل ومن أتاه.

ذلك ما مضى عليه حتى نال إحدى الحُسنيَين، بعدما واجه، خلال عام الإسناد، اختباراً قاسياً وغير مسبوق ولربّما مُعجِزاً، بمعزل عمّن استسهلوا - ولا يزالون يستسهلون – التنظير في كيفية التعامل معه

على أن هذه المأساة نفسها هي التي كشفت لنا الغطاء من جانب آخر، وأَرَتْنا النِتاج المرّ لأعوام طويلة من الاسترخاء والعطالة والخلود إلى الأوهام وتجنّب التغيير وتلافي المبادرة، بل والاستغناء (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)، والاغترار (من اغترّ بنفسه أسلمَتْه إلى المعاطب)، وذلك في غير مفصل من مفاصل معسكر المقاومة ومجتمعها. هكذا، عاد إلى كلّ ذي عقل عقلُه، وآب إلينا ما كان عزُب من رشدنا ووعينا، حتى بدا أن ثمة سؤالاً واحداً ينهشنا جميعاً: «كيف ذا ومن أين ذا؟»؛ وهو سؤال المراجعة والتأمل والإصلاح، والذي سيفتح أمامنا سريعاً باب استرداد ما فقدناه وأكثر، إن أحسنّا تقويم اعوجاجنا وتصحيح أوَدنا، في واضح الطريق الذي يبدو أننا سائرون عليه. صحيح أن هذا التصويب لم يحدث إلا بثمن باهظ، أكبرُه خسارة من كان «شمساً والملوك كواكبُ»/ إذا طلعَ «لم يبدُ منهنّ كوكب»، إلا أن دورة الإماتة والإحياء تلك، خُطّت، مخطّ القلادة على جيد الفتاة، على كلّ من قالوا إنه «لم يكُن الذي كان منا منافسةً في سلطان، ولا ابتغاءً لشيء من الحطام، وإنما كان إحياءً للحق وإماتةً للباطل، ودفاعاً عن مظلومي عبادك، وإقامةً للعدل في أرضك، وطلباً لرضاك والقرب منك».
ذلك ما أعلنه نصر الله إبّان تقديمه الوثيقة السياسية لـ»حزب الله» عام 2009، وذلك ما مضى عليه حتى نال إحدى الحُسنيَين، بعدما واجه، خلال عام الإسناد، اختباراً قاسياً وغير مسبوق ولربّما مُعجِزاً، بمعزل عمّن استسهلوا - ولا يزالون يستسهلون – التنظير في كيفية التعامل معه، متجاهلين تشابك التعقيدات والعوامل التي كانت ستصعّب حتى على مَن خبزته وعجنته التجارب اتخاذ القرار في خضمّه. وإذ اختار السيد، إزاء ما تقدّم، الوقوف في منطقى وسطى، على نحو دفَع ببعض محبيه، عن حماسة زائدة؛ أو ببعض كارهيه، عن نوايا مغرضة، إلى القول إنه «لا علم له بالحرب» أو إنه دخل طوره «الحَسني» بعد ذاك «الحُسيني» (لَكَمْ أمكن تخيّل نصر الله، في الفترة المذكورة، مخاطَباً بما خوطب به الحسن بن علي: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين!)، فإن هذا ليس ممّا يعاب عليه.
ذلك أن أبَ الشهداء لم يكن أقلّ الناس مراساً للحرب، ولا أحدثهم مقاماً فيها، ولكن «لكل جواد كبوة»، والكبوة ليست مُتَلافاةً دائماً ولا قاتلة حتماً، بل قد يأخذها الفارس بصدره، ويصدّ بها «الأعظم» عن قومه، وهذا ما فعله نصر الله بالحرف. طيلة 11 شهراً، أظهر القائد الذي علّمنا كيف بالإيمان نقول للشيء كن فيكون، فهماً عميقاً لطبيعة هذه الجولة من الصراع، وهيّأنا لأيام طويلة لن يكون لنا فيها من حليف سوى سواعدنا والصبر، وأَفهمنا كم كان حريصاً على أن «لا يبدأهم بقتال» ولو جعجعوا به وبأصحابه، وظلّ في الوقت نفسه متمسّكاً بإسناد من تخلّت عنهم «أمّةُ السوء» ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره، وآثر «الموت في عز» على «الحياة في ذل»... وبعد، أليست هذه هي بضعة من كربلاء فحسب؟
إن شيئاً من كربلاء تجدّد حقاً، ولا ضير في قول ذلك، وهل يُرجى الخير «من دنيا أضاعت حسين السبط واختارت يزيدا»؟ ثم من نحن؟ من نحن سوى مواطنين «في مدائن البكاء/ قهوتنا مصنوعة من دم كربلاء/ حنطتنا معجونة بلحم كربلاء/ جلودنا مختومة بختم كربلاء»؟ مَن منِّا حطّت به أهوال الطوفان عند السابع عشر من أيلول، ولم يبصر العباس ابنَ علي أمامه، ناظراً إلى حزنه بعينيه المطفأتين، وماسحاً على قلبه بكفَّيه المقطوعتين، وهامساً في صدره المعشوشب: «ومِن بَعده لا كنت أن تكوني»؟ من منا لم يرحل بروحه، يوم السابع والعشرين من أيلول، إلى حيث «استراح خدّ تفرّى ولم يضرع»... إلى حيث مَن أَطعم الموت خير النفوس حتى لا يعطي جديب الضمير إعطاء الذليل ولا يقرّ إقرار العبيد؟
بلى، لقد تكرّرت بعض مشاهد كربلاء على نحو مدهش، وكأننا أمام إلماعة تراجيدية رُسم لكلّ شخص من شخوصها دوره بدقة متناهية. ومن يدري؟ لعلّ ذلك هو ما سيفتح باب الفرج الموعود ولو بعد حين، تماماً كما كان زوال المُلك «جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء. فإن الدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد الأيام»، مثلما رأى عباس محمود العقاد. والواقع أن «كربلاءنا» لم تتأخّر في الإتيان بثمارها، تحريضاً لنا على التطهّر من أهواء وعيوب وأخطاء علقت بنا وعلقنا بها في سنوات الرخاء، ودفعاً بشديدي البأس منا إلى رحاب الموت الأعظم حيث تُستولد اليوم حياة لأمّة بأكملها... حياةٌ لا يُلقي الماشون إليها مشياً سُجُحاً، بالاً لمُعدَمين يدأبون على عرض بضاعتهم المزجاة نفسها: فلْنقدّم رقابنا طوعاً للذبح، أو لأصحاب أنصاف المواقف الذين يوسّعون الحق في التواصف ويضيّقونه في التناصف، واقفين الآن برؤوس منكوسة على «الأعراف» في انتظار ما سينجلي عنه الكرّ والفرّ، وأيضاً عمّن يريدون الغلَبة بلا جَلَد والأمان من دون بذل، غير فاعلين في أيام السِلم سوى الهزء بـ»الفكرة» التي تدفع بمن عضّوا على النواجذ حتى ينبوَ سيف الإبادة عن رؤوسنا، إلى الجود بأنفسهم، وفي أيام الحرب سوى الهروب من النزال ومتطلباته، صغُرت تلك أم كبُرت، لا بل ومساءلة المقاومة ولومها بينما يُسفح دم أوفى شبابها وأبرّهم.
أما نحن، عصب الحياة وملح الأرض، والدخلاء الذين يجب أن يُبتّ في أمرنا، وفق ما يصوّرنا به اليوم «جيشُ» الجنون العام والغباء وانعدام المواهب، فقد حسمنا كلمتنا بالوقوف مع هذه المقاومة في كل حالاتها، كالمةً أو مكلومة، غالبةً أو مغلوبة؛ إذ «وإنْ حال القضاء دون الرجاء، فلن يتعدّى من كان الحق نيته والتقوى سريرته»، كما قال الحسين بن علي. وأيّاً تكن نتيجة المعركة الراهنة، والراجح أنها طيبة، فالأكيد بالنسبة إلينا أننا وجدنا أجوبتنا، نحن الذين لا تفتأ تشغلنا الأسئلة الصعبة، ولا نني نكافح في هجرة لا متناهية من الطين إلى الله، معلنين انتماءنا الأبدي إلى معسكر هابيل، وصارخين برفضنا الدائم لكلّ من يريدون القول لنا: «أنا ربّكم الأعلى». رفضٌ سنظلّ نشهره ولو جنّدوا بوجهنا حملات صليبية متجددة بقيادة من لا تكفّ عن مخاطبة الملأ بأنْ: «ما علمتُ لكم من إله غيري»، ولو استمروا في جلدنا بهراواتهم الأيديولوجية ومطاردتنا بـ»مهامهم الحضارية» التي يُعمّون بها حقيقة «أناهم» الغازية و»ذاتهم» المبيدة – أنا أبيد إذاً أنا موجود -، ولو بقوا يحرقوننا وينثرون لحومنا وجلودنا في الهواء تكفيراً عن ذنب لم نرتكبه، ومحواً لإثم لا يكفّون عن «جَوْهرته وأَسْطرته» في مقابل «نَسْبنة» عذاباتنا وتسخيفها... سنَقرّ صمْداً صمْداً، حتى يعجز الصبر عن صبرنا ويملّ الموت من موتنا.

* من أسرة «الأخبار»

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي