العلويّون وتورا بورا


يعيش المثقفون في مدن الساحل السوري وقراه في بوتقة ثقافية اجتماعية واحدة، تجمعهم الآمال والتطلعات والهموم المشتركة، رغم اختلاف وجهات النظر السياسية والموقف من النظام السابق، بين مَن كان مؤيّداً ومَن كان معارضاً له، والتأييد والمعارضة لم يكونا في يوم من الأيام حكراً على طائفة معيّنة وسط انتشار ثقافة الخوف والضعف التي كان اليساريّون في ريف الساحل السوري أكثر من تجرّأ عليها برفضهم للمحتوى الثقافيّ الأحاديّ، وهم كانوا أقلّ تصفيقاً من غيرهم للنظام السابق، ومناصرين للقضية الفلسطينية، أسوة بكل الشرفاء.

وربما تعرّضوا أكثر من غيرهم للترهيب والاعتقال على يد أجهزة مخابرات النظام السابق، وكانوا ضد الطائفية التي هي صفة من صفات النظام السابق، ولكن ليست من صفات السوريّين العلويّين. ولا يصحّ الخلط بينهم وبين النظام السابق لأنهم كانوا دائماً من القلة القليلة الداعية إلى المواطنة المتساوية انطلاقاً من المفاهيم الوطنية والإنسانية والحقوقية وقيم الحرية والعدالة الاجتماعية والتكيف مع القيم الوطنية الجامعة.

وقد بذل المثقفون العلويّون، من مفكّرين وكتّاب وأدباء وجامعيين وأساتذة، دوراً مميزاً في الجانب الثقافيّ والمعرفيّ ونشر الروح الوطنية والإنسانية، وهم جزء أساسيّ من الرصيد الثقافي والمعرفي في المجتمع السوريّ، ولا يصحّ النظر إلى دورهم وفقاً للنظرة إلى النظام السابق، والقول إنه كان يمثلهم جميعاً، بل إن علاقتهم مع النظام قد اقتصرت على أفراد وموظفين وهذا يشبه دور وعلاقة بقية الطوائف المؤيّدة والمعارضة على السواء.

يتعرّض العلويون اليوم لهجمة تحريضيّة شرسة يجب التصدّي لها من الجميع، وبخاصة المثقفين، بحكمة وشجاعة تستندان إلى الانتماء الوطنيّ المشترك وإلى الفتوى التي أصدرها مفتي فلسطين الأكبر الحاج أمين الحسيني وقال فيها: «إن العلويّين مسلمون يجب على عامة المسلمين أن يتعاونوا معهم على البرّ والتقوى ويتناهوا عن الإثم والعدوان، وأن يتناصروا جميعاً ويتفاخروا، ويكونوا قلباً واحداً في نصرة الدين، ويداً واحدة في مصالح الدين لأنّهم إخوان في الملّة، ولأن أصولهم في الدين واحدة ومصالحهم مشتركة».
وهذه الفتوى تخالف التحريض والجهل الحاقد وتؤكد أن العلويّين هم جزء أصيل وراسخ في البلاد ومنها، ولا بد من الحفاظ عليهم وعلى أمنهم ودورهم. ويمكن القول إنه لولا مساهمتهم الأدبية والعلمية، وغيرهم من المتنوّرين، لكانت الثقافة العربية قد انقلبت إلى تورا بورا.

ويعرف الجميع أن النظام السابق كان قد استقطب شخصيّات من كل الطوائف، واستبعد أي شخصية تعارضه خاصة من أبناء الطائفة العلويّة الذين ارتبط خيارهم كما الكثير من المثقفين بالبعد الإنساني وبالالتزام بالدفاع عن حقوق السوريين ومعاناتهم ودعم مطالبهم بالحرية وبناء الدولة الديموقراطية. وخيارهم هذا دفعوا ثمنه سنوات من أعمارهم في السجون وهجرة قسريّة خارج البلاد.

وأحداث اليوم في الساحل السوريّ تتطلب من الجميع، وبخاصة المثقفين، بذل ما في وسعهم لوقف إراقة الدماء وتجنّب سقوط المزيد من الضحايا المدنيّين، كما يجب على الدولة السورية الجديدة بسط الأمن والاستقرار وعدم اتهام محور المقاومة بما حصل للتغطية على الفشل الأمنيّ، كما إن المطلوب منها إحالة المرتكبين إلى القضاء، والعمل مع المجتمع الأهليّ لنشر الوعي ومحاربة التطرّف الطائفيّ وتحقيق العدالة الانتقاليّة بما يضمن أمن سوريا واستقرارها.

وقد تكون الديموقراطيّة التوافقيّة التي تضمن تمثيل كل فئات الشعب في حكومة ائتلافية هي الخطوة المناسبة لبناء الثقة وتبديد المخاوف التي تحاول الإدارة الأميركية الاستفادة منها لإغراق سوريا بالمشكلات الداخليّة عبر الاستمرار بفرض العقوبات بما يعكس حقيقة النيّات السلبيّة للولايات المتحدة تجاه سورية التي لن تكون حرة إلا بالمواطنة والعدالة والعمل على نشر الطمأنينة وثقافة المحبة والتسامح والاستفادة من دور جميع أبنائها، بخاصة النخب الثقافيّة التي تسهم في نشر الأمن والأمان تحت سقف الوطن الذي يجمع ولا يفرّق ولا يوجد فيه ظالم ومظلوم.
* كاتب فلسطيني

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي