حكومة الرداءة


في حين تملأ شوارعَ لبنان اللافتات المبشّرة بموعد آخر مع بداية التغيير، ويبارك لنا النخب بإنجاز المهمة وتشكيل الحكومة (مع مراعاة الطائف)، وينبؤنا اختصاصيو السياسة والاقتصاد والشؤون الدولية بمستقبل رغيد في ظل عهد جديد، لا بد من استرجاع محطات تشكيل الحكومة، عسى أن يوقظنا هذا الاستذكار من الاستمرار بالتطبيع مع الرداءة:
- الخيار بين ميقاتي وسلام: هل يعلم أحد سبب رفض «السياديين» للميقاتي؟ هل تتحسس يساريتهم من ملياراته؟ هل تمانع حضرتهم قابليته لتلقي الأوامر من الخارج؟

هل حصلوا على معلومات عن نيّته السرّية تبنّي سياسات تحدٍّ من نزيف الهجرة فلا تناسب رؤيتهم لحماية المجتمع؟ وماذا عن تمسّك حزب الله به؟ هل هو بسبب دعمه للمقاومة؟ أو ربما وقوفه الجريء في وجه الإمبريالية الأميركية؟ أمّا العودة للقبول بسلام، فما سببها؟ ما هو برنامجه للبنان في هذه المرحلة الحرجة، بل الخطرة، من تاريخه؟ وبما يختلف عن برنامج الميقاتي؟ وعلامَ يتقاطع أو يتعارض مع برنامج «الممانعين» أو برنامج «السياديين» أو برنامج «التغييريين»؟ وهل يمكن لأحد التكرّم علينا بمشاركة أي من هذه البرامج الخمسة؟ أم أن للمسألة، لا سمح الله، علاقة بـ«الشارع السنّي» والتنافس بين تركيا والسعودية ومصر والإمارات؟

لا تخلو الحكومة تماماً من برنامج سياسي، بل تمتاز بتجانس لافت حين يتطرّق الأمر إلى المواطنين المفضلين لدى زعماء الطوائف: البنكرجيين


- التفاوض «بالمفرّق»: يُفترض أن تكون الحكومة السلطة التنفيذية. وعليه، يُفترض أن تمتلك وجهة ما وأن يتشارك رئيسها وأعضاؤها هذه الوجهة، وبالتالي أن يتمّ التفاوض على أسمائهم على هذا الأساس. أمّا ما حصل، فهو تفاوض على مراحل لا ترابط بينها، تتحفنا كل مرحلة منها ببازار أسماء يُفترض أن نصدّق أنها جيّدة أو عاطلة حسب الإعلام (المموّل بطبيعة الحال من رأسماليي الطوائف والمصارف)، وتسلّينا بابتكار خلّاق لعُقَد على وزن «الاسم الشيعي الخامس». والنتيجة: حكومة تجمع المزمعين على تحرير لبنان من «الاحتلال الإيراني» بالذين أخذوا على عاتقهم مواجهة «الحصار الأميركي»، أي حكومة عاجزة عن اتخاذ أي قرار ولكنها تُنذر بوفرة من الـ«ما خلونا» وشدّ العصب ضد «هوليك» وأطباق أخرى من الدراما.

- نواب لا ينوبون: يقتضي مبدأ التمثيل الديموقراطي أن يعكس النواب موقف من انتخبوهم عند تحديد الخيارات السياسية. لكن ما حصل منذ عام 2022 حتى اليوم أنّ معظم المرشحين لم يقدّموا مشروعاً، وأنّ معظم المواطنين لم يختاروا نواباً بل سلّموا الخيار للزعيم (البابا أدرى)، وأنّ المرشحين لرئاسة الحكومة لم يضيعوا وقتهم بالتوجّه إلى النواب بغية إقناعهم بأي توجّه. فالكل يعلم يقيناً أنّ التفاوض الداخلي يقتصر على حسن المحاصصة. وأنّ التوجّه الحقيقي، وبالتالي التفاوض الحقيقي، لا يمتّ لمجلس النواب بصلة (عذراً، يا صقور التغييريين!) وبالكاد لزعماء الطوائف كلمة فيه، بل إنه يحصل في الخارج. فالمجلس ليس سوى ديكور بشع من شأنه إخفاء عملية اتخاذ القرار الحقيقية.

لمَ، إذاً، نقع في الفخ ونخصّص لمجلس شَكلي كل هذا الحيّز من الاهتمام والنقاش السياسي، عوض تنسيق الجهود لممارسة التأثير في ساحات التفاوض الحقيقية؟

- المواضيع الثانوية: إدارة المجتمع تتطلّب جرأة في وضع الأولويات، ولم تسمح حكومة عون-الثنائي-القوات للمواضيع الأقل أهمية أن تلهيها. فلم تأتِ على ذكر قدرة لبنان الدفاعية، لا سيما من بعد ثبات نجاح الصيغة القائمة على توكيل مسؤولية تسليح الجيش لقطر والولايات المتحدة ومسؤولية تسليح المقاومة لإيران. ولا على «إعادة الإعمار» إذ إن تسليم الأمر للخليج تحصيل حاصل. ولا على إدارة الإفلاس ما دام المغتربون والـNGOs بخير. ولا على مسألة تهجير الشباب، فالمهم أن يزورونا كل سنة مرة. ولا على إدارة ملف اللاجئين السوريين إذ إن الـNGOs، كما ذكرنا، بخير، بإذن ترامب تعالى. ولا على سياسة لبنان الخارجية في ظل التغييرات الجسيمة في فلسطين المحتلة وسوريا، إذ إن لكل زعيم سياسته الخارجية الخاصة به، ولا يجوز، ميثاقياً، إزعاجهم على هذا الصعيد.

- إنقاذ مسببي الأزمة: هنا البشرى السارة! فلا تخلو الحكومة تماماً من برنامج سياسي، بل تمتاز بتجانس لافت حين يتطرّق الأمر إلى المواطنين المفضلين لدى زعماء الطوائف: البنكرجيين. إذ إن 11 وزيراً من أصل 24 هم أعضاء في مجالس إدارات ومحامي المصارف، لتصبح هذه الحكومة أوّل حكومة في تاريخ لبنان يتمتّع مصّاصو الدماء بالثلث المعطّل فيها. كما إن وزارة المالية رست على المناضل ياسين جابر الذي نثمّن دوره في لجنة تقصي «الحقائق» التي اكتشفت عام 2020 أن خسائر المصارف «بسيطة ما بدها هلقد»، وأن المصارف ليست مفلسة، وبالتالي أن لا داعي للهلع ولا لتحميل أصحابها الخسائر تطبيقاً للقانون. والأمر المطمئن أن ياسين جابر شيعي، إذ لا يحتمل البلد أن تنقذ البنكرجيين حكومةٌ لا تحترم الأعراف.

يمكن اختصار طابع هذه الحكومة بكلمة واحدة: الرداءة. وفي الوقت الذي يُعاد فيه رسم الإقليم على حساب مجتمعاته، التطبيع مع الرداءة سفالة. ما يحتاجه لبنان هو الانتقال من منطق الطوائف والمصارف والانبطاح للخارج والشعارات الفارغة إلى منطق الدولة، أي تبنّي سياسات ترسي شرعية جديدة: تعداد للسكان خارج القيد الطائفي، ضمان الدولة للحقوق الأساسية كالتغطية الصحية والتعليم لنزع ورقة الاستزلام من يد الزعماء، تحميل أصحاب المصارف الخسائر لا توزيرهم، تبنّي قوانين انتخابية على أساس السكن لا النَسَب، والتعاطي مع الخارج كخارج. لا قيمة لأي حديث آخر. لا نطبّع مع الرداءة بعد.

* كاتب

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي