ترامب بوجه إيران: لماذا لا يكون «الجنون» خياراً؟

إيران تستعد لمواجهة ديبلوماسية أو عسكرية مع أميركا (أ ف ب)
إيران تستعد لمواجهة ديبلوماسية أو عسكرية مع أميركا (أ ف ب)


قد يخيّل للمرء أن الجنون الذي تتعامل به أميركا مع العالم حالياً، من صنع رجل واحد هو دونالد ترامب. لكن السنوات الأربع التي أمضاها الرجل خارج الحكم بعد ولايته الأولى، تظهر أن الواقع غير ذلك. والشواهد على ذلك أكثر من أن تُعدّ، بدءاً من الحرب الوحشية على قطاع غزة، وصولاً إلى التهديدات لإيران التي كانت وجهتها الإدارة السابقة في بداية حرب غزة، مروراً بحرب أوكرانيا التي قرّبت العالم من حرب عالمية ثالثة يُسجّل لترامب نفسه أنه جعل احتمالاتها أقلّ، عبر الضغط الهائل والحاسم الذي مارسه على كييف، وعلى الرؤوس الحامية في الغرب، والتي كانت تريد استمرار هذه الحرب إلى أجل غير معروف.

وممّا يجدر التذكير به، هنا، أنه في أيامه الأخيرة، سمح الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، لأوكرانيا باستخدام الصواريخ الأميركية البعيدة المدى في قصف الأراضي الروسية؛ ولو كان مَن في سدة السلطة في موسكو، يملك رأساً حامياً، لاتخذ خيارات أكثر تطرفاً يمكن أن تفضي إلى مواجهة مباشرة، ولكن فلاديمير بوتين فضّل التريث وانتظار وصول ترامب الذي سبق أن تعهّد بوقف حرب أوكرانيا حال تسلّمه الرئاسة. في تلك، يكون بايدن قد تفوّق على ترامب في الجنون أو الخرف الذي كانت علاماته قد بدأت تتزايد على الرئيس السابق، إلى الحدّ الذي دفع بحزبه إلى سحب ترشيحه للرئاسة.

أما في الشرق الأوسط، فقد أجرت أميركا اختباراً كبيراً للقوة، تراءى لها بنتيجته أن جميع من في هذه المنطقة ومن يمكن أن يساندهم في العالم، خائرو القوى ولا يستطيعون مواجهتها، نتيجة حرب اقتصادية مديدة شنتها على الأطراف المناوئة لها في العالم، الكبرى منها والوسطى والصغرى، ورافقتها أخرى عسكرية بدأت بحرب الخليج عام 1991، ولم تنتهِ بالأزمة الأوكرانية والصراعات المستمرة في دول الشرق الأوسط بكل أنواعها. والواقع أن ما يشنّه ترامب من حروب تجارية وعسكرية ضدّ العالم كلّه اليوم، وفقاً لما تُظهره لائحة الدول التي فرض رسوماً جمركية مرتفعة على واردات بلاده منها، يفيد بأن الولايات المتحدة تريد هذه المرة السيطرة منفردةً من دون أي شريك حتى من حلفاء الحربين العالميتين؛ وهو ما تدلّ عليه أيضاً جهوده لتغيير الخرائط من غرينلاند إلى الشرق الأوسط، وكذلك حملة القصف الجوي الأحادية الجانب ضد «أنصار الله» في اليمن، والتي لم يطلب ترامب فيها حتى مساعدة بريطانيا، والتهديدات العالية النبرة التي يوجهها إلى إيران، والمترافقة مع حشود عسكرية كبيرة في المنطقة.

تعتقد إيران أن لديها القوة الكافية لإفشال أي هجوم عسكري أميركي أو أميركي – إسرائيلي

باختصار، يوحي سلوك ترامب ولهجته بأمر أساسي واحد: التعالي على من يَعتبر أنهم يعيشون على مائدة أميركا حتى من الحلفاء، والتواضع أمام من يملكون القوة، كروسيا، أو حتى كوريا الشمالية. لكن في خضمّ هذا المشهد، ثمّة أمر غير محسوم، هو وضع إيران التي يعتقد ترامب أنها تملك هامشاً للحركة لا تبرّره لها لا قوتها الاقتصادية ولا العسكرية، ويريد محو هذا الهامش، وإعادة طهران إلى الداخل، الأمر الذي ترفضه الأخيرة، معتبرة أنها تملك ما يمكّنها من حماية نفوذها ودورها في المنطقة، وأنها العقدة التي سيفشل عندها مشروع ترامب، وأن لديها القوة الكافية لإفشال أي هجوم عسكري أميركي أو أميركي – إسرائيلي، والشرعية الدولية اللازمة للدفاع عن نفسها والتي ستجعل لها حلفاء في المعركة المقبلة، سواء أكانت تفاوضية أم عسكرية.

وهنا، ثمة سؤال يجوز طرحه عن موقف الصين الخاسرة سلفاً في الحرب التجارية مع أميركا، نظراً إلى الفجوة الضخمة لمصلحتها في التبادلات بين البلدين، وما إذا كانت الرسوم الأميركية الجديدة ستفرض تحولاً في سياسة بكين القائمة على السعي الدؤوب والهادئ إلى المنافسة على المرتبة الأولى في العالم، نحو سياسة أكثر ميلاً إلى المواجهة، وكذلك عن موقف روسيا التي لم تحصل في أوكرانيا بعد سوى على تخفيف حدة الهجوم الغربي، من دون نتائج ملموسة تخرج بها من تلك الحرب.

على أيّ حال، ستحصل إيران في معركتها مع أميركا، سواء التفاوضية أو العسكرية، على دعم سياسي من الصين وروسيا وربما من دول مؤثرة أخرى، وهي بدأت تحصل بالفعل عليه عبر المواقف الصادرة من موسكو وبكين، والتي تستنكر التهديدات الأميركية المباشرة بالقصف، والموجّهة إلى الجمهورية الإسلامية. لكن العامل الحاسم في تلك المواجهة يبقى التماسك الداخلي في إيران، والذي يبدو إلى الآن صلباً، وتجتمع فيه الدوافع الدينية والوطنية والقومية لمواجهة محاولات خارجية للنيل من البلاد، وليس من نظامها الذي يجب أن تكون هويته متروكة للإيرانيين. في هذه الحالة، لن تستطيع حملة جوية، مهما كانت كبيرة، هزْم إيران، في حين أن أي هجوم بري سيحتاج إلى مئات آلاف الجنود الذين لا يبدو ترامب راغباً أو قادراً على إرسال أحد منهم إلى المنطقة.

ولذا، يتصرّف ترامب، في ما يتصل بإيران، بشيء من اللاعقلانية، منذ أن مزّق الاتفاق النووي عام 2018، بعدما تطلّب التوصّل إليه سنوات طويلة مضنية من المفاوضات. وإذا كان هدف واشنطن يقتصر فعلاً على منع طهران من تطوير سلاح نووي، فإن حرباً على الأخيرة ستعطيها المبرّرات للانتقال إلى تطوير مثل هذا السلاح، لتصبح حينها من الدول التي يحسب الرئيس الأميركي، ومَن سيأتي بعده، حسابها.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي