الأوروبيون يبدؤون رحلة «الفطام»: بداية نهاية «الناتو»

منذ اليوم الأول لتنصيبه، استدعت عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، الأسئلة المرّة التي راودت أذهان قادة أوروبا خلال الولاية الرئاسية الأولى للرجل. وإذا كانت الأسئلة في تلك المدة تركّزت حول تهديد الزعيم الجمهوري المستمرّ بالانسحاب من حلف «الناتو»، كشكل من أشكال الضغط على حلفائه الأطلسيين لرفع إنفاقهم العسكري، فهي تعمّقت اليوم لتمسّ جوهر بقاء ذلك الحلف العسكري الغربي من عدمه، في ظلّ توجه ترامب، انسجاماً مع أفكار حليفه إيلون ماسك وعدد من وجوه تيار «ماغا» في الحزب الجمهوري، لزعزعة الحلف من الداخل.
وهي زعزعة تتمثّل خطوتها الأولى بالدعوة إلى وقف الحرب في أوكرانيا، وإنْ على حساب المصالح الأمنية للحلفاء الأوروبيين، ما دام هذا الأمر يوقف ما يَعتبره ترامب تبديداً لأموال مواطنيه على حرب لا يمكن لكييف أن تكسبها.
العهد الأميركي الجديد: تحقُّق النبوءة القديمة
ثمة في سجلّ ترامب، الذي يبدو من وجهة نظر كثيرين في صدد التملّص من التزامات بلاده «الناتوية» لأسباب اقتصادية في المقام الأول، الكثير من المواقف التي أثارت قلق الحلفاء في أوروبا، بدءاً بالتهديد الذي أَطلقه خلال حملته الانتخابية، حين أكد أنّه «سيشجّع الروس على فعل ما يحلو لهم» تجاه أعضاء «الناتو» الذين ترى واشنطن أنهم لا يزالون يتقاعسون عن القيام بما هو مطلوب منهم، مروراً بضغوط مارستها إداراته، أواخر شباط الماضي، لتخفيف لهجة بيان «مجموعة السبع» تجاه روسيا لمناسبة مرور الذكرى الثالثة للحرب الروسية - الأوكرانية، وصولاً إلى تبنّيه أخيراً «سردية أوكرانية» تتجنّب الإشارة إلى روسيا كطرف معتدٍ، وفقاً لما أمله حلفاؤه الأوروبيون.
غير أنّ السياسة الجديدة للرئيس الأميركي، والتي شهدت قَطْعه (لمدة وجيزة) الدعم العسكري والاستخباري عن كييف، تعكس هاجساً قديماً دائماً ما أثاره مسؤولون ومفكّرون على ضفتَي الأطلسي، ومن بينهم وزير الدفاع الأميركي الأسبق، روبرت غايتس، الذي كان قد حذّر العواصم الأوروبية قبل نحو 14 عاماً ممَّا سمّاه «الحقيقة الصارخة المتمثلة في أن الرغبة والصبر سيتضاءلان في أوساط الكونغرس الأميركي، وداخل الجسم السياسي الأميركي ككلّ، حيال فكرة تخصيص موازنات عسكرية طائلة بشكل متزايد بالنيابة عن دول تبدو غير راغبة في تخصيص الموارد اللازمة» لأغراض الدفاع، معرباً عن انزعاج بلاده من انتقال كامل عبء صَوْن الأمن الأوروبي خلال العقود الأخيرة إلى الولايات المتحدة.
وفي هذا الجانب، تشير صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أنّ إهمال ترامب إرث ثلاث سنوات من الوحدة الغربية في دعم أوكرانيا ضدّ روسيا، وشروعه في فتح قناة تفاوضية مع الرئيس فلاديمير بوتين، دفعا قادة «الناتو» إلى مواجهة سؤال جوهري مفاده: «ماذا لو قرّر بوتين استهداف دولة عضو في الحلف، فهل هناك أيّ سبب للتصوّر أن ترامب سيقوم بالدفاع عنها؟». وضمن السياق نفسه، تنقل الصحيفة عن مصدر رفيع في الحكومة الألمانية، تأكيده أنه «علينا أن نفترض عكس ذلك التصوّر»، في إشارة إلى وجود حالة تشكيك في مدى التزام الرئيس الأميركي الدفاع عن أوروبا.
وتضيف أنّ المسؤولين الأوروبيين، وبناءً على ما سمعوه قبل أسابيع قليلة خلال محادثاتهم مع وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث، متوجّسون من إمكان أن تلجأ الولايات المتحدة إلى سحب عشرات الآلاف من قواتها من أوروبا خلال الأشهر أو السنوات القليلة المقبلة، مشيرة إلى أنّ «التفسير الأكثر تفاؤلاً لِما أقدم عليه ترامب (في شأن أوكرانيا)، يكمن في إجبار دول القارة الأوروبية على تسريع العمل بما وعدت بتنفيذه منذ مدة طويلة، أي الاضطلاع بدور أكثر مركزية في الدفاع عن القارة».
أوروبا: حان وقت الاستقلال الإستراتيجي
وإذا كان لدى معظم القادة الأوروبيين خلال العقود السابقة، بخاصّة قادة ألمانيا وفرنسا، اعتقاد بأن الولايات المتحدة تشاركهم قناعتهم بـ«الطابع المصيري» للعلاقات الأمنية بين واشنطن وبروكسل، فإن «الاشتباك اللفظي» بين الرئيس الأميركي، ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، مطلع الشهر الجاري، زعزع تلك القناعة، ومعها الثابت التقليدي الذي ترسّخ منذ تأسيس «حلف شمال الأطلسي»، أواخر أربعينيات القرن الماضي، والمتمثل بعدّ أميركا، الضامن الموثوق، وشبه الأوحد، للأمن الأوروبي.
وحَدَت هذه الوقائع برئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، إلى إعلان خطّة «إعادة تسليح أوروبا» - بقيمة تصل إلى 800 مليار يورو -، والتي عكست، بحسب مجلة «فورين بوليسي»، «التغيير الجذري في مواقف دول القارة منذ تولّي ترامب منصبه، سواء لناحية التراجع عن سياسات التقشّف (لا سيما العسكري منه)، أو لناحية تلاشي الشعور بالأمن الذي سمح للأوروبيين بالترشيد في الإنفاق الدفاعي لنحو ثمانية عقود، على وقع الترويج لمزايا الركون إلى القوة الناعمة» والاكتفاء بالضمانات العسكرية الأميركية.
الخطة الأوروبية تعاني من نقاط ضعف عدّة، ومنها ما يتعلّق بـ«حاجة أوروبا إلى سنوات من أجل بناء قدراتها الدفاعية»
ووفقاً للمجلة الأميركية، فإن الخطة الأوروبية تعاني من نقاط ضعف عدّة، ومنها ما يتعلّق بـ«حاجة أوروبا إلى سنوات من أجل بناء قدراتها الدفاعية»، في ضوء ما أظهرته حرب أوكرانيا من قصور في الطاقة الإنتاجية على مستوى صناعات القارة العسكرية، قياساً إلى ما طلبته كييف، ووعدت بتقديمه بروكسل لها، إضافة إلى «عدم قدرة الأخيرة على تعويض الدعم العسكري الأميركي، الذي قد تفتقده في حال قرّرت الولايات المتحدة الانسحاب بشكل كامل من القارة الأوروبية، وحلف الناتو»، وهو ما ستكون له تداعيات سلبية، لا سيما على الدول الأصغر حجماً ضمن التكتل الأوروبي، مثل دول البلطيق.
ومع ذلك، أكد زعيم «الحزب المسيحي الديموقراطي»، فريدريش ميرز، المرشّح لخلافة أولاف شولتس في المستشارية الألمانية، أن «أولويّتي المطلقة ستتمثّل في العمل على تقوية أوروبا بأسرع وقت ممكن، حتى نتمكن تدريجيّاً من تحقيق الاستقلال الحقيقي عن الولايات المتحدة»، معتبراً أنّه «من غير الواضح ما إذا كنّا سنستمرّ في الحديث عن الناتو بشكله الحالي» بحلول موعد قمّة التكتُّل المقرّرة في حزيران المقبل، «أو ما إذا كان سيتعيّن علينا إنشاء قدرة دفاعية أوروبية مستقلّة بسرعة أكبر».
وفي هذا الصدد، يشير مدير «معهد السياسات العامة العالمية» في برلين، تورستن بينر، إلى أن الحكومة الألمانية الجديدة، وبدافع الخوف من احتمال سحب ترامب للضمانات الأمنية (المعطاة للأوروبيين)، بما في ذلك المظلّة النووية، تعكف على إعادة النظر جذريّاً في السياسة العسكرية للبلاد، ضمن إجراءات شملت إلغاء القيود على الإنفاق الدفاعي.
ويتوقّف بينر عند حاجة برلين إلى إعداد «خطة بديلة لاحتمال سحب الولايات مظلتها الأمنية النووية عن ألمانيا وأوروبا»، معتبراً أن انفتاح القادة الألمان الجدد على إجراء مناقشات مع دول مثل فرنسا والمملكة المتحدة حول الاستخدام المشترك للأسلحة النووية، وما لاقاه هذا الانفتاح من ترحيب من جانب باريس بالتحديد، يشكّل «تغييراً جذريّاً في الخطاب السياسي الألماني»، بعد تجاهل المستشارَيْن السابقين أنجيلا ميركل، وأولاف شولتس، لعروض كان قد تقدّم بها مراراً الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للانخراط في حوار إستراتيجي حول مسائل الردع النووي في أوروبا.
ولعلّ أحد الخيارات المتاحة أمام ألمانيا هنا، يتمثل بـ«إعادة تشكيل مجموعة التخطيط النووي التابعة لحلف الناتو على المستوى الأوروبي، إذ تكون فرنسا والمملكة المتحدة قوّتَين نوويتَين أساسيتين ضمنها». ويحظى هذا الشكل من ترتيبات «التحالف النووي» بين باريس وبرلين، بتأييد إستراتيجيين نوويين فرنسيين، من بينهم برونو تيرتريه، الذي يسلط الضوء على مزايا فريدة لبلاده في ذلك المجال، موضحاً أنّ «الترسانة النووية للمملكة المتحدة تعتمد على واشنطن في العناصر الأساسية المكونة لها، خلافاً للترسانة الفرنسية التي تتمتّع بالاستقلالية الكاملة، وهو أمر بالغ الأهمية على مستوى تعزيز مصداقية (الردع النووي الأوروبي المستقلّ) في ضوء التحوّل المحتمل للولايات المتحدة ضدّ أوروبا».
ورغم ما تقدّم، يحذّر محلّلون من أنّ «مدى استقرار هذه القوى النووية الأوروبية وموثوقيتها سياسياً، يبقى موضع تساؤل في المستقبل، حيث يحقّق حزب الإصلاح البريطاني اليميني المتطرّف، مكاسب مطّردة، فيما يبدو المشهد السياسي الفرنسي مفتوحاً على احتمالات وصول رئيس من حزب يميني أو يساري متطرّف معادٍ لمشاركة الردع النووي الفرنسي مع دول أخرى».