غضب أوروبي من التطنيش الأميركي: واشنطن لحلفائها: لسنا على قلب واحد

يرى مراقبون أن النظام الأوكراني يرزح تحت ضغوط أميركية شديدة لقبول صفقة تنهي النزاع مع روسيا (أ ف ب)
يرى مراقبون أن النظام الأوكراني يرزح تحت ضغوط أميركية شديدة لقبول صفقة تنهي النزاع مع روسيا (أ ف ب)

لندن | ألقى نائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس، خطاباً في مؤتمر ميونيخ للأمن، أعلن فيه بأوضح العبارات أن نموذج العلاقة القديمة بين أوروبا والولايات المتحدة «ينتهي»، وأن القارة «بحاجة الآن إلى التكيّف مع ذلك». وقال فانس، أمام مسؤولين رفيعين من أعضاء الاتحاد الأوروبي كافة، كانوا يتابعونه بحضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ووزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، إن «التهديد الذي يقلقني أكثر من غيره بشأن أوروبا ليس روسيا، وليس الصين، وليس أي لاعب خارجي آخر»، بل «ما يقلقني هو التهديد من الداخل، وتراجع القارّة عن بعض قيمها الأساسية». وفي هذا الإطار، تحدث عن إلغاء الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة في رومانيا، ومقاضاة متظاهر مناهض للإجهاض في المملكة المتحدة، والتضييق على السياسيين الألمان من أقصى اليمين وأقصى اليسار بغرض استبعادهم من المشهد الانتخابي.

وبينما كان العشرات من أبناء النخب الأوروبية الحاكمة ومديري الشركات الكبرى وكبار الديبلوماسيين يصابون بحال من الذهول، عاجلهم فانس بالقول: «بالنسبة إلى كثيرين منا على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، يبدو الأمر أكثر فأكثر وكأنه مصالح قديمة راسخة تختبئ وراء مصطلحات قبيحة من الحقبة السوفياتية مثل (المعلومات المضلّلة) و(الخداع)». وكرّر لازمة رئيسه، دونالد ترامب، عن أن «أوروبا يجب أن تتكاتف بشكل كبير لتوفير (نفقات) الدفاع عن نفسها» في المرحلة المقبلة – في إشارة إلى مطالبة ترامب، الأوروبيين، بمضاعفة إنفاقهم على شراء الأسلحة ومعدات القتل الأميركية إلى مستوى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لدولهم -.

وجاءت انتقادات فانس، الذي يعتبر كثيرون أنه سيكون وارث الترامبيّة بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي، بعد أيام على الصدمة التي صعقت أوروبا إثر إعلان ترامب أن الولايات المتحدة ستبدأ بصفة فوريّة محادثات ثنائية مع روسيا لإنهاء الحرب «السخيفة» في أوكرانيا – على حد تعبيره -. وأثار خطاب فانس غضب الأوروبيين، ووصفه أحد كبار الديبلوماسيين، والذي لم يرغب في الكشف عن اسمه، بأنه «خطاب مجنون تماماً... وخطير جداً»، فيما أعرب عدد من الوزراء والقادة عن قلقهم ممّا اعتبروه محاولات لربط الغطاء الأمني الذي تمد الولايات المتحدة القارة به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بمسائل حرية التعبير والديموقراطية.

وتحدّث في المؤتمر، بعد فانس، وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس، الذي قال إن انتقادات نائب الرئيس الأميركي «غير مقبولة إطلاقاً»، وإنه لا خيار لديه سوى الرد. وأضاف الوزير الذي يقضي آخر أيامه في المنصب قبل الانتخابات التشريعية الألمانية الأسبوع المقبل: «كان لدي خطاب أعددته لكلمتي اليوم حول الأمن في أوروبا. لكن – بعد ما سمعته – لم يعد ممكناً البدء بالطريقة التي أردتها في الأصل»، مشيراً إلى أن فانس يضع أوروبا في السلة نفسها مع الأنظمة الاستبدادية، و«هذا أمر غير مقبول»، و«تشكيك في ديموقراطيتنا». وعبّرت كاجا كالاس، كبيرة ديبلوماسيي الاتحاد الأوروبي، بدورها، عن دهشتها مما سمته «محاضرة» نائب الرئيس الأميركي، وقالت للصحافيين: «أعتقد أنه يمكننا كأوروبيين التعامل مع قضايانا الداخلية» من دون توجيهات من أحد.

الاستجابات الأوروبيّة تبدو قاصرة عن إدراك تسارع مسلسل الأحداث الذي أطلقه ترامب


على أن الرئيس الأوكراني بدا أكثر براغماتية من حلفائه الأوروبيين؛ وقال، في كلمته أمام المؤتمر، إنه يناشد ترامب أن يكون نصيراً لكييف بدلاً من لعب دور الحَكم في المفاوضات مع موسكو لإنهاء الحرب، متوجهاً في الوقت نفسه إلى الأوروبيين بـ«أننا بحاجة إلى رئيس قوي كترامب ليكون بجانبنا». وفي تصريح لاحق، رأى أن على القارة أن تنشئ جيشاً أوروبياً، لأن الولايات المتحدة قد لا تهرع دائماً لحمايتها.

وكأول رد فعل جماعي أوروبي على هذا النهج الأميركي الجديد تجاه القارة، يبدو أن باريس ستستضيف، الأسبوع المقبل، قمة طارئة حول الحرب في أوكرانيا وذلك بعد أن أبلغ مبعوث ترامب الخاص إلى أوكرانيا، كيث كيلوج، المجتمعين في ميونيخ، بأنه قد يتم التشاور مع القادة الأوروبيين، لكنهم لن يكونوا طرفاً في أي محادثات بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن إنهاء الحرب، معللاً ذلك بأن المفاوضات السابقة فشلت بسبب مشاركة أطراف كثيرة. وقال رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، الذي أكد أنه سيحضر القمة: «إنها لحظة لا تتكرر إلا مرة واحدة في الجيل لأمننا القومي»، ومن الواضح «أن أوروبا يجب أن تلعب دوراً أكبر في إطار حلف شمال الأطلسي، بينما نعمل في الوقت نفسه مع الولايات المتحدة لتأمين مستقبل أوكرانيا ومواجهة التهديد الذي نواجهه من روسيا».

ومن المفترض أن يحمل ستارمر، الذي يحاول لعب دور الوسيط بين جانبي الأطلسي، وجهة نظر الأوروبيين بشأن إستراتيجية تفاوضية موحدة لإنهاء الصراع في أوكرانيا ستتبلور في قمة باريس، إلى الرئيس الأميركي الذي سيلتقيه في واشنطن في وقت لاحق من هذا الشهر. وعُلم في لندن بأن القادة الأوروبيين، ومعهم زيلينسكي، سيعودون إلى الاجتماع مجدداً، بعد عودة ستارمر من رحلته الأميركيّة. وفي هذا الإطار، تعهّد رئيس الوزراء البريطاني بأن المملكة المتحدة «ستعمل على ضمان الحفاظ على تماسك تحالف الولايات المتحدة وأوروبا»، مضيفاً أن الجهتين لا تستطيعان «السماح لأي انقسامات بتشتيت الانتباه عن الأعداء الخارجيين».

لكن هذه الاستجابات الأوروبيّة تبدو قاصرة عن إدراك تسارع مسلسل الأحداث الذي أطلقه ترامب. إذ بينما لم يوجه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الدعوات الرسميّة إلى القمة الأوروبيّة الطارئة بعد، فإنّ مسؤولين أميركيين بارزين، بمن فيهم وزير الخارجية ماركو روبيو، سيلتقون نظراءهم الروس في السعوديّة في الأيام القليلة المقبلة لإطلاق عجلة المفاوضات، التي زعمت مصادر في واشنطن أن أوكرانيا دعيت لحضورها - وهو ما نفاه زيلينسكي الذي قال تعليقاً على ذلك إن نظامه «لن يقبل صفقات تتم خلف ظهورنا، ومن دون مشاركتنا» -.

ويرى مراقبون أن النظام الأوكراني يرزح تحت ضغوط أميركية شديدة لقبول صفقة تنهي النزاع مع روسيا بشكل سريع. وبالفعل، عرض وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت، على زيلينسكي في كييف، عشية سفر الأخير إلى ميونيخ، وثيقة مكتوبة تشمل منح الولايات المتحدة حقوق نصف الاحتياطات المعدنية الأوكرانية، بما فيها الليثيوم والتيتانيوم والجرافيت، وكلها مكونات أساسيّة في الصناعات العالية التقنية.

وبحسب ترامب، فإن أوكرانيا مدينة بقيمة نصف تريليون دولار من مواردها للولايات المتحدة، مقابل مساعدة واشنطن لكييف في الحرب. ويبدو أن زيلينسكي لا يمانع ذلك من حيث المبدأ، في حين يناور الآن ويتلاعب بهواجس الأوروبيين الأمنية كي يحصل على ضمانات مستقبلية لنظامه، علماً أن بيسنت أبلغه أن إدارة ترامب «ستقف حتى النهاية مع كييف عبر زيادة تشبيكنا الاقتصادي»، والذي من شأنه وحده «توفير درع أمني طويل الأمد لجميع الأوكرانيين» بمجرد انتهاء الحرب مع روسيا. لكن زيلينسكي عاد ووجّه وزراءه، أمس، بعدم توقيع الوثيقة المطروحة على بلاده، كونها «لم تشمل أي ضمانات أمنية محددة في المقابل»، وهو ما علق عليه مسؤول كبير في البيت الأبيض بأنه «قرار قصير النظر».

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي