سجلّات المذبحة

طوال ثمانية أيّام بلياليها في تموز (يوليو) عام 1860، اجتاحت عصابات مسلحة من رعاع المسلمين دمشق ــــ الخاضعة حينها للحكم العثماني ـــــ الحيّ المسيحيّ في المدينة: قتلت، واغتصبت، ونهبت، وأحرقت، من دون أن يردعها رادع.
وصف العقيد تشارلز هنري تشرشل الذي كان نائب القنصل البريطاني في المدينة جانباً من تلك الفظائع، فكتب: «اغتصبت النساء، بل والفتيات الصغيرات، بعضهن انتهكن في الشوارع وسط ضحكات عاهرة وسخرية وحشيّة، واختُطف بعضهن وحملن بعيداً... وأجبر الرجال من جميع الأعمار من الصبي إلى الرجل العجوز على إعلان إسلامهم، ليتم ختانهم على الفور، وسط حبور الحشد الهائج، قبل إعدامهم بقسوة وتشفّ. امتلأت الكنائس والأديرة حتى التخمة بأكوام الجثث المختلطة بالجرحى المقطعين ومن يلفظون أنفاسهم الأخيرة ببطء وألم، بينما تتساقط عليهم العوارض المشتعلة وكتل الحجارة المكلسة من السقوف والجدران، وتناثرت جثث القتلى في كل أزقة وشوارع الحيّ».
تلاشت عربدة العنف في السابع عشر من تموز، بعدما قُتل الآلاف ونهب الحي المسيحي بالكامل وأصبح خراباً، فيما فرّ من نجا من المسيحيين للاحتماء بقلعة دمشق القديمة، التي حاصرها مسلّحون غاضبون يتوعدون جيرانهم من وراء الأسوار بالذبح.
لم تحظ تلك اللحظة المؤلمة من التاريخ بما تستحقه من الدرس، لا سيّما في الشرق حيث يتوارى الجميع وراء أصابعهم، ويحسنون التكاذب باسم «العيش المشترك»، ويتجنب الأكاديميون والرسميون نكء الجراح القديمة.
ولذلك انتظرنا حتى هذا العام ليصدر كتاب يوجين روغان، المؤرخ الأميركي والباحث المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط، «أحداث دمشق: مذبحة 1860 وتهشم العالم العثماني القديم» (منشورات بنغوين)، ليوثق للوقائع، ويضعها ضمن سياقها الكليّ في إطار الموت البطيء للدولة (العليّة) المريضة.
ولاختيار روغان «أحداث دمشق» للكتابة عنها حكاية تروى، إذ كان ينقّب في الأرشيف الوطني في واشنطن عن وثائق لأطروحة دكتوراه يعدها عن إمارة شرقي الأردن، ليعثر بالمصادفة على ثلاثة دفاتر فيها تأريخ عيانيّ لتلك المرحلة كتبها مسيحيّ دمشقيّ يدعى ميخائيل مشاقة.
الرجل الذي يسمّيه روغان «رجل عصر النهضة الحقيقي»، كان طبيباً، وفيلسوفاً، وموسيقياً، ومؤرخاً، وعمل نائباً للقنصل الأميركي في دمشق من عام 1859 إلى عام 1870.
ومما احتوته الدفاتر سجلّ لرسائل القنصليّة في دمشق التي كتبها مشاقة بالعربية بانتظام إلى ج. أوغسطس جونسون، القنصل العام الأميركي في بيروت منذ تموز 1859 وفيها شهادته عن مذابح 1860. يقول روغان إنّه كان حرفياً يرتجف بينما يقرأ سجل شاهد العيان المرموق للمناخات في المدينة قبل المذابح، ثم يوميات المقتلة نفسها، ثم عواقبها.
نجا مشاقة الذي سكن دمشق منذ 1834 بأعجوبة من الموت عندما حاول حشد الرعاع إعدامه في أحد الشوارع الخلفية للمدينة. منصبه الديبلوماسي المرموق لم يوفر له سوى القليل من الحماية وقت المذبحة وأصيب وأفراد عائلته بطعنات وجروح عدة، ورأوا منزلهم ينهب جهاراً قبل أن يتواروا عن أنظار جيرانهم المتعطشين للقتل.
بالطبع، لم ينضم جميع المسلمين في سوريا إلى مهرجان إراقة الدماء. الأمير الجزائري البارز عبد القادر، الذي أمضى معظم ثلاثينيات القرن التاسع عشر في قيادة المعركة ضد الاستعمار الفرنسي في وطنه قبل تقاعده في دمشق، أعطى ملاذاً في سكنه لآلاف السوريين المسيحيين.
كما عارضت الحكومة العثمانية (رسمياً) عمليات القتل خوفاً من أن تستخدمها القوى الأوروبية كذريعة للتدخل، وأرسل الباب العالي لاحقاً أحد أكثر سياسييه دهاء، محمد فؤاد باشا، للتحقيق في الأحداث (ومعاقبة المسؤولين وتعويض الضحايا وإعادة بناء المناطق المتضررة – وفقاً للبيانات الرسمية). لقد احتاجت بعدها دمشق إلى جيل كامل، قبل أن تذوي المشاهد الفظيعة من ذاكرة الأحياء، وليمكن للسوريين أن يتعالوا على جراحهم ويستأنفوا حياتهم مجدداً كسوريين، أبناء بلد واحد لا تتغول فيه طائفة على أخرى، ولا أكثرية على أقليّة. لكن المؤكد أن الدّرس من «أحداث دمشق» لم يعلق أبداً في ذهن هذه الأمة الموعودة بالدم، فكأن قدرها المحتم أن تتجرع الكأس المسمومة مرّة بعد مرّة بعد مرّة.