ترامب بين غريزتَين: الأولوية لـ«السلام الإقليمي»

أثار قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إعادة إحياء سياسة «الضغوط القصوى» ضدّ إيران، انتباه المحلّلين الغربيين، لِما حمله من رسائل «غزل سياسي» إلى تل أبيب، ولا سيما أنّه استبق لقاءه مع رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو. وفي موازاة توعّده الجمهورية الإسلامية، على خلفية اتهامها بالوقوف خلف عملية مزعومة لاغتياله، جدّد الرجل الذي يضع نصب عينيه تشديد العقوبات لـ«تصفير» صادرات طهران من النفط، استعداده لإحياء المسار التفاوضي مع إيران حول صيغة اتفاق جديد، بديل من «اتفاق فيينا» الذي كان قد انسحب منه الرئيس الحالي خلال ولايته الأولى عام 2018، من دون أن يتضح ما إذا كان الجمهوري العائد إلى البيت الأبيض، سيرجّح كفّة الحلول العسكرية ضدّ ما تسميه دوائر واشنطن «النفوذ الإيراني الخبيث» في الشرق الأوسط، أم سيميل إلى الدبلوماسية. وحتى في تلك، ليس واضحاً ما إنْ كان سيكتفي بـ«البنود النووية»، أم أنه يفضّل التفاوض على سلّة حلول شاملة، بما في ذلك الدور الإقليمي لطهران.
قراءة غربية في «الطالع النووي» لإيران
وفي سياق تعزيز فرضية الدبلوماسية على ما عداها في الحالة الإيرانية، وذلك لأسباب تتعلّق بوجود حاجة لدى الغرب إلى كبح البرنامج النووي لطهران، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ «تقديرات المفتّشين النوويين والخبراء الدوليين، تُظهر أن إيران أنتجت ما يكفي من كميات اليورانيوم المخصّب التي تقرّبها من صنع ما لا يقلّ عن أربع قنابل نووية»، وأن معطيات استخبارية أميركية توصّلت إليها الإدارة السابقة خلال الشهر الماضي، وتم نقلها إلى فريق الإدارة الحالية، خلصت إلى أنّ «فريقاً سرياً من العلماء الإيرانيين يحاول استكشاف سبل أسرع، وإن أكثر بدائية، لتطوير سلاح ذري في غضون أشهر (بدلاً من الطرق المتعارف عليها الأخرى التي تستغرق سنوات)، وذلك في حال قرّرت قيادة طهران تغيير نهجها (النووي) الحالي، لخوض سباق الحصول على قنبلة نووية».
وتابعت الصحيفة، نقلاً عن مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين، أن تقديرات الاستخبارات الأميركية تشير إلى أنّ «المرشد الأعلى الإيراني (السيد) علي خامنئي، لم يتخذ بعد قراراً حول البدء بتطوير سلاح (نووي)»، على وقع إشارات من الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، تفيد بـ«سعيه الدؤوب للتفاوض مع إدارة ترامب»، زاعمة في الوقت نفسه أنّ «تضاؤل قوّة الوكلاء الإقليميين لإيران»، إضافة إلى «فشل منظومة صواريخها في اختراق الدفاعات الأميركية والإسرائيلية، لعبا دورهما في حثّ المؤسسة العسكرية الإيرانية على العمل بجدّية على استكشاف خيارات جديدة لردع أيّ هجوم أميركي أو إسرائيلي».
وفي إشارة إلى حساسية التوازنات الداخلية على مستوى صنع القرار في طهران، بخاصة في الملفّ النووي، لفت الخبير في شؤون إيران في «معهد كارنيغي» للبحوث، كريم سجادبور، إلى أنّه «لطالما كان للجمهورية الإسلامية نظامان متوازيان: فمن جهة، هناك الدولة العميقة ممثّلة بالمؤسسة العسكرية والاستخبارية، التي ترفع تقاريرها إلى خامنئي، والتي تُعنى بالإشراف على البرنامج النووي والوكلاء الإقليميين؛ ومن جهة أخرى، هناك الجهاز الدبلوماسي والسياسي، المولج بمهامّ مخاطبة وسائل الإعلام» الخارجية، وبخاصة الغربية منها.
ومع الإشارة إلى تفاوت التقديرات حول المدّة الزمنية التي قد تحتاج إليها إيران في حال قرّرت صنع رأس نووي، وتحميله على صاروخ باليستي، بين من يضع لها سقفاً لا يتجاوز 18 شهراً، وبين من يرى أن الأمر يحتاج إلى وقت يقارب العامين، أوضحت «نيويورك تايمز» أنّ تقييم الاستخبارات الأميركية خلص إلى أنّ «إيران تمتلك المعرفة اللازمة لصنع سلاح نووي وفق الطراز القديم، يتميّز بصعوبة تصغير حجمه، وبالتالي تعذّر تحميله على صاروخ باليستي، مع إمكانية تجميعه بسرعة أكبر قياساً بالمدة التي تتطلبها التصاميم الأكثر تطوّراً».
وبحسب الصحيفة، تستبعد الاستخبارات الأميركية أن يشكّل هذا النوع من السلاح «تهديداً فورياً» لإسرائيل، إلا أنّه «في استطاعة إيران أن تبنيه، وأن تجري الاختبارات اللازمة له بسرعة، لتعلن نفسها للعالم قوة نووية، بما يعنيه ذلك من امتلاكها لقدرات رادعة، على النحو الذي يجعل الدول (المعادية لإيران) تفكّر مرتين قبل شنّ هجوم عليها».
سياسة ترامب الإيرانية بين «غريزتَين»
وفي ضوء اللهجة المزدوجة، والمتناقضة أحياناً، التي يتحدث بها ترامب حيال إيران، تتفاوت التقديرات في أوساط المحلّلين حول النهج الذي قد يتّبعه العهد في هذا الخصوص. فمن جهتها، تشير صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن جانباً من تصريحات ترامب، ومنها دعوته القيادة الإيرانية إلى «التوصّل إلى صفقة فورية معه»، أوحى بأنّ القائد الأعلى للقوات المسلّحة الأميركية «ليس في عجلة من أمره للدخول في صراع مباشر مع إيران»، محذّرةً من أنّ عودة واشنطن إلى تبنّي سياسة «الضغوط القصوى» لن تكون ذات جدوى، بالنظر إلى ما ولّدته من «نتائج عكسية»، لكونها دفعت الإيرانيين إلى «الشروع في استئناف أعمال تخصيب اليورانيوم على نطاق واسع خلال السنوات الماضية، وتطوير قدراتهم التي تتيح لهم الحصول على قنبلة نووية»، إضافة إلى «الالتفاف على العقوبات (الغربية) عليها» من جهة، و«إصرار القوى الأوروبية على التمسّك بالاتفاق» المُبرم بين إيران والقوى الكبرى في فيينا عام 2015، من جهة ثانية.
وبدورها، توقّفت صحيفة «واشنطن بوست» عند حفاوة وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية بتوجّه ترامب لتجميد نشاط «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، والتي كانت مسؤولة عن تمويل الحملات السياسية والإعلامية ضد نظام الجمهورية الإسلامية، معتبرة أن قرار ترامب المذكور أثار تساؤلات في طهران حول ما إذا كان يحمل «رسالة» في شأن وجود «نوايا تفاوضية ممكنة» لدى البيت الأبيض.
كلا الخيارين العسكري والدبلوماسي حيال إيران، يجب أن يتضمّنا «تكثيف حجم الضغوط الفعلية بشكل كبير» عليها
وبالحديث عن مدى حضور العامل الإسرائيلي في الأجندة الأميركية حيال طهران، عقب اللقاء الأخير بين نتنياهو وترامب، اعتبرت «واشنطن بوست» أنّه «من غير الواضح ما إذا كان الزعيمان سيتفقان على كيفية التعامل مع إيران، التي ضعفت بسبب الاضطرابات الإقليمية» الأخيرة في لبنان، وسوريا، وغزة، في إشارة إلى إمكانية إقناع نتنياهو لترامب بضرورة الاستعجال في استغلال تلك التطورات لتصعيد الموقف مع الجانب الإيراني.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول إسرائيلي، قوله إنّه «لم يَعُد هناك أيّ حديث عن مهاجمة إيران»، مضيفاً أنّ «الإدارة الأميركية الجديدة تركّز على إنجاز هدف آخر في المنطقة، متمثّل بإعادة بناء غزة من خلال اتفاق إقليمي مع كل من الإمارات والسعودية، كجزء من صفقة كبرى للتطبيع بين الرياض وتل أبيب»، معتبراً أن ذلك هدف «يتطلّب إنهاء القتال» في المنطقة. ويجزم المسؤول الإسرائيلي، بأنّ «نتنياهو ليس بصدد معارضة ترامب، الذي يعتقد بأن السلام الإقليمي يمكن تحقيقه».
وفي الإطار نفسه، تساءلت مجلة «فورين بوليسي» عن خيارات العهد الأميركي الجديد حيال إيران، مرجّحة أن يكون واقعاً بين «غريزتَين متناقضتَين»، أولاهما مرتبطة برغبة ترامب في التوصل إلى اتفاق دبلوماسي مع إيران في شأن برنامجها النووي، وثانيتهما دافعه «الانتقامي» لضرب طهران، التي يتّهمها بمحاولة اغتياله.
واستعرضت المجلة واقع صراع الأجنحة داخل واشنطن؛ فالأول يتمثّل بتيار انعزالي لا يحبّذ خيار المواجهة العسكرية مع إيران، ويعبّر عنه نائب الرئيس، جي دي فانس، الذي سبق أن أكّد، في تشرين الأول الماضي، أن الولايات المتحدة وإسرائيل لديهما في بعض الأحيان «مصالح مختلفة»، مضيفاً أنّ «عدم الدخول في حرب مع إيران» يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، وهو تيار يتقاطع مع توجّهات بعض أعضاء الكونغرس عن «الحزب الديموقراطي» ممَّن يؤيّدون انخراطاً عسكرياً أميركياً أقلّ في المنطقة.
أما الثاني، فيتمثّل بتيار يحمل توجهات أكثر «صقورية» تجاه إيران، في مقدّمه وزير الخارجية ماركو روبيو، ومستشار الأمن القومي مايك والتز، إضافة إلى عدد من «الديموقراطيين»، وهو قد يحاول تحريض ترامب على شنّ حرب «انتقامية» ضدّ إيران، وإقناعه بأن الظرف الإقليمي يوفّر «فرصة سانحة» لتنفيذ عملية مشتركة مع إسرائيل، كما يشتهي نتنياهو.
وفي هذا الصدد، ذهب مدير «مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط»، التابعة لـ«أتلانتيك كاونسل»، جوناثان بانيكوف، إلى أن كلا الخيارين العسكري والدبلوماسي حيال إيران، يجب أن يتضمّنا «تكثيف حجم الضغوط الفعلية بشكل كبير» عليها، بما يشمل فرض عقوبات جديدة، وطردها من كل هيئات الأمم المتحدة، فضلاً عن «إجراء المزيد من التدريبات العسكرية الأميركية المشتركة مع إسرائيل»، و«التهديد بشنّ عمل عسكري»، بالتعاون مع الشركاء الدوليين، كالبلدان الأوروبية، إلى جانب تقديم حوافز لدول الخليج لحثّها على إعادة النظر في علاقاتها مع كل من إيران والصين.
وبخصوص الصيغة المتصوّرة حول الحلّ الدبلوماسي المستقبلي مع الإيرانيين، أوضح بانيكوف، الذي شغل سابقاً منصب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية، أن العامَين الماضيَين شهدا تبلور حالة من الإجماع في صفوف الحزبين على سياسة أميركية جديدة تجاه إيران، بصرف النظر عن الهوية الحزبية للمرشح الفائز في انتخابات الرئاسة، مشيراً إلى أنّ «أحد أبرز الاستنتاجات التي تم التوصّل إليها، يفيد بأن أيّ اتفاق مستقبلي مع إيران لا يجب أن يقتصر على معالجة برنامجها النووي فقط، وإلا فلن يتوفّر لدينا ما يكفي من الوسائل للتأثير على المفاوضات المستقبلية في شأن النفوذ الإيراني الخبيث في المنطقة».