مِلادن دولار: الشائعة حين انتصرت على سقراط!

من بين الكتب المترجمة التي صدرت لطارق عثمان عن دار نشر «مزيج»: «الجسد من عدن إلى الفردوس» لجورجيو أغامبين ومران بيجوفيتش (2023) و«فلسفة الزغزغة والعطس» لآرون شوستر (2024) و«الحب والفراق: على أريكة التحليل النفسي» لآرون شوستر (2024) كما أيضاً كتاب «فلسفة القيل والقال: عن النميمة والشائعات والمسائل ذات الصلة» (2023) الذي يضم دراستين لكل من مِلادن دولار في دراسةٍ تحمل عنوان الكتاب نفسه، ودراسة لألينكا زوبليجج معنونة بـ«الكذب على أريكة التحليل النفسي». سنركز في هذا المقال سنركز على دراسة ملادن دولار .
تتعذر الكتابة عن المواضيع التي يترجمها المصري طارق عثمان دون التطرق ولو بالمقتضب عن طارق عثمان ذاته. هذا الشخص الموجود وسطنا اليوم في العالم العربيّ يستحق الثناء. المقولة الرائجة عن الترجمة باعتبارها خيانة للنص الأصليّ أشبه بتهمة مجحفة بحق المترجم في حالتنا هذه. إذا كان لا بدّ من خيانة النص لكي تكتمل الترجمة فإنّ الخيانة عند عثمان بريئة من الوصم اللاحق بها، لأن ترجماته تصبو إلى الصنعة لا إلى الطعن والتمزيق والتشويه. إنها صناعة وجهٍ عربيٍّ مشدودٍ خالٍ من الترهّل، يحاكي رهبة الوجه الأصيل ويحرص بتأنٍّ على ملامحه.
هل لهذا السبب نثني عليه؟ ليست بلاغة عثمان السبب الوحيد وراء هذا الثناء إنّما لأنه صيّاد بارع يقبض على الوميض. يصطاد مواضيعاً وثيمات في الفلسفة المعاصرة من الأفضل القول بأنها لا تركن في أرضنا العربية عوضاً عن قولنا أنها تهرب منّا باستمرار. ثمة محاولاتٍ فكرية حطت عندنا لبرهةٍ، وأخرى نبّتت في حقلنا لكن سرعان ما أصابها اليُبس. طارق عثمان شخص صامت، مترجم خطير، يشتغل في السر بعيداً عن الضجيج. البائن الوحيد منه أنه يغلّب الكتابة على الشفهيّ. هو يبحث عن الندرة وعن الاستثناء ويجدهما في فضاء الحداثوية؛ هذا الفضاء الذي لا يزال طقسه غائماً وضبابياً هنا.
هو يستحق الثناء على ما يفعله لأنه بشكلٍ أو بآخر، في سعيه وراء الندرة والاستثناء، فإنه يصنع الدهشة. النصوص الذي يختار ترجمتها لهي مغامرات فكرية جامحة، يخوض أصحابها غمار التنقيب في سراديب المعاش، في ما هو مخبوء ومطموس، هي تمارين في تأويل ظواهر نحسبها من البداهة، إنها نصوص يتوقف أصحابها لبرهةٍ للتفكير في الشيء الذي نغض النظر عنه ونغفله. هذا الاشتغال موسوم بشائعةٍ تفيد بأن ما يتدرج فيه لهو مجرد هراء أو ترفاً فكريّاً.
في كتابه «فلسفة القيل والقال: عن النميمة والشائعات والمسائل ذات الصلة» الشائعة تلاحق مِلادن دولار وجميع محاولاته للإفلات من قبضتها تبوء بالفشل. نحن أمام فيلسوف هيغليّ على كل حال. الجدلية أشبه بإعصار، تبدأ من تحت إلى فوق وصاحبها لا يكف عن نقض نفسه في مسار تصاعديّ دون أن يلتفت إلى الوراء. يتجرأ دولار على وصف ما كتبه في إحدى الفقرات بأنه عبارة عن «خبر زائف»، ويخاطر في سيرورته الجدلية، في إيراد شائعاتٍ ضارباً إياها كأمثلةٍ لصقل حججه. ما يزيد الطين بلّة أنّ فيلسوفنا الهيغليّ هو لاكانيّ أيضاً من الطراز الرفيع. نحن أمام متعة مضاعفة سيكون ثمنها وخز الرأس بالأظافر بعد الارتباك الذي سنواجه إثر تقليب الوجهين المتناقضين للشيء المفكَّر فيه.
كلما بدا مِلادن بأنه اقترب من تحديد ماهية الشائعة ودنا من تقعيدها على نحوٍ مستقيم نراها هربت منه وعادت إلى التحليق مجدداً حتى يصير هو من يلاحقها. أليست الشائعة أساساً، كما عرّفها «كنسمة الهواء التي تهبّ علينا من حيث لا ندري فتغشانا ثم تمر على غيرنا»؟ لا أحد يمكنه تأصيل الهواء. ليس لأنه غير مرئيّ فحسب إنما لأنه دائم التغيّر تماماً كما هو حال الشائعة. لكن مِلادن دولار عنيد. لا يكف عن البحث حول ماهية الشائعة مستنداً على مفهوم «الأخ الكبير» مهما عانده الوجهان الذين يكتنفان «الأخ الكبير» كما سنرى.
في البدء كان هناك الرأي وكان هناك المعرفة. ينطلق مِلادن دولار من اللحظة التي وضعت فيها الفلسفة الإغريقية حداً فاصلاً بين كل من الرأي والمعرفة. حصل ذلك عندما حضر اللوغوس، وهو العقل والحكمة ليعلّل المعرفة؛ اللوغوس أو ما يجعل المعرفة معرفةً وما يميّز بينها وبين الرأي. غير أنّ الشائعة ليست رأياً. إنها أقلّ من رأيّ لأن لا أحد يتبناها. للرأي صاحبه الذي يقول: «بالنسبة لي» أو «إني أرى أنه...» والخ. غير أنّ الشائعة، وفقاً لدولار فاقدة للسند، لا ضامنٌ لها يمكن عزوها إليه، المرء يسمع الشائعة ويمررها إلى غيره ولو سئل عنها لقال: «سمعت أنّ» أو «يشاع أن».
إنها بلا أصل، عارية عن الصحة وليس لها مؤلف، وإنها منغلقة على نفسها ما يزيدها قوةً. ليست الشائعة خبراً مبالغاً فيه، أو معلومة ناقصة، أو شبه معلومة يتمّمها الخيال كأدب الواقعية السحرية. إنها باطلة كلّياً ومع ذلك فهي تنتشر وتسود وتفعل فعلها بنجاعة ونستمتع بالإنصات إليها أو بإطلاقها. الشائعة تملك سلطة خارقة وقوة تأثير رهيبة، فإنها تطوّق المعنيّ بها وتخلق شبحاً يطارده حتى يعجز عن غسل اللطخة التي أُسبِغت عليه. إنها لزجة، بوسعها إلصاق التهمة على «موضوعها» حتى تصير تهمته «لازبة كالوتد» رغم من بطلان الموضوع التي تنطوي عليه.
ثمة مفارقة تكمن في هذا الصدد كما سيبيّن لنا ملادن دولار. كل ما يندرج في الشائعة فاسد. ليس بداخلها ما يمكن اعتباره نصف حقيقة ونصف كذب حتى ينتقي قائلها الصحيح فيها من الخاطئ، بيد أنها تفعل فعلها بشكلٍ خارق؛ تمرر ما تروم تمريره فيسود ويشاع بدون أن يقف بوجها حائلاً. وكأن شكلها، أي كونها ذائعة لا يتطابق مع مضمونها أي ما هو مغلوط، كيف بوسع المغلوط أن يكون معلومة ذائعة؟ الظاهر أنّ ثمة تناقضاً جاثماً في الشائعة، فأين اللوغوس من كلّ هذا؟
تغدو الشائعة عند مِلادن دولار ترادف بطريقةٍ ما، مفهوم روبرت فالر «معتقدات بلا معتقدين». المعتقد عند فالر على عكس الإيمان؛ فالمعتقد قناعة واهية ومخاتلة، ولكننا نتقبّلها رغم معرفتنا بخللها ونتعامل معها ببداهة (التميمة، قراءة الأبراج، الخ). أنا أعلم أنّ ما أعلمه (الشائعة) وهمٌ، ومع ذلك إني لا أبدد هذا الوهم، بل أجاريه، وأتعامل معه بوصفه موجوداً، بل إني أراهن على الآخرين حتى يصدقوه عوَضاً عني، ومجدداً: كيف يتعامل اللوغوس في هذه الحالة؟
بعد مضي قرنين ونصف من الزمن على اعتبار اللوغوس طوطم الحكمة، سيخلق المحلّل النفسي جاك لاكان مفهوم «الآخر الكبير» وسيتعامل مِلادن دولار مع هذا المفهوم على أنه رديف لللوغوس. و«الآخر الكبير» ببساطة هو حارس النظام الرمزي، أي إنه القانون، القواعد في اللغة، من يعيّن الصواب من الخطأ الخ.
والشائعة باعتبارها أقلّ من رأي وهي المعرفة الباطلة (لكن) المؤثِّرة؛ الشائعة كـ«حاملة» لهذا التناقض، ستسمح، كما سيخلص مِلادن دولار، بالكشف عن وجهٍ آخر «للآخر الكبير»: وجهٌ لا يتصّف بالحكمة والصواب ولا يزوّدنا بالمعرفة إنما وجهٌ يرتكن إليها بوصفها معرفة متنكِّرة، أو وهماً موجوداً؛ وجهٌ يستسلم إلى القيل والقال، والثرثرة واللغو والإطناب المجّانيّ. بات أمامنا ظلّاً تحتيّاً «للآخر الكبير»، للوغوس كما هو واضح. لكن دولار يعلم تمام العلم خطورة هذا الظلّ ومدى تأثيره في محطاتٍ تاريخية.
فالتاريخ الثقافيّ للشائعة يكشف لنا عن عدّة حوادثٍ حيث تفوّق فيها هذا الظلّ على الوجه الحقيقيّ، ولعلّ أهم انتصار لهذا الظلّ هو موت سقراط، الفيلسوف الذي كان أكثر رجال عصره حكمة لكنه قتل بسبب شائعة. نحن إزاء ولادة أخرى أيضاً وهي ولادة ظل «الآخر الكبير»، ولعلّ الشائعة دليلاً دامغاً على ماهية هذا الظلّ، فالشائعة إذاً هي معرفتنا بأن المعرفة التي نحوذها حول الشيء الشائع باطلة، ومع ذلك نتعامل مع ما نعرفه (الشائعة) وكأنه حقيقة.
من يقرأ كتاب فلسفة «فلسفة القيل والقال: عن النميمة والشائعة والكذب والمسائل ذات الصلة» سيكتشف أنّ مِلادن دولار عن عمدٍ أو عن غير عمدٍ، يحذو حذو عرّابه الفكريّ جاك لاكان في تجسيده لتعرّجات أقرب ما تكون إلى تقلّباتٍ جذرية، تخصّ أكثر ما تخصّ، موقع «الآخر الكبير» سلطته الراسخة، تقهقهره، ومن ثم أفوله. صحيح أنّ السلوفينيّ يلمح لنا منذ الصفحات الأولى أنّ «الآخر الكبير» متزعزع ومتلكِّئ وبأنه «يتمتع بقدرة قاهرة ليس على الرغم من كونه بلا أساس إنما تحديداً بفضل كونه بلا أساس» لكن دولار لا يرثيه ولا يستعجل في رثاءه، سيتمهل وسيفعل ذلك لاحقاً. إنها مراحل هيغليّة أيضاً، فإذا كان للجدل من ثابتٍ وحيد فإنه النفي، وقدرة النفي على دحض الركائز جبروتية، تماماً كما هو الحال مع الشائعة.
في البدء انتصرت الشائعة
لقد جهد سقراط طيلة حياته على تبديد ساعياً وراء الحقيقة. سقراط المكنى بـ«والد الفلسفة» امتهن الفلسفة باعتبارها اجتراح الحكمة من النفس إلا أنه قتل جراء... شائعة. اتّهم سقراط بأنه يعبث بعقول الشباب وبالهرطقة بالآلهة، وكانت هذه الافتراءات سبباً في اقتياده إلى محاكمةٍ أجازت إعدامه في النهاية. قال في المحكمة أثناء دفاعه عن نفسه «يتعين على المرء في دفاعه عن نفسه ضدهم (من افترى عليه) أن يتقارع مع الظلال».
يقنص مِلادن دولار مصطلح «الظلال» الوارد في هذه المطالعة ويبني عليه. كان بإمكان سقراط محاججة الموجودين في القاعة والانتصار عليهم وإظهار براءته، إلا أنه خسر أمام الظلال. لقد انتصر الظل، لقد انتصرت الشائعة، واللوغوس كما يبيّن مِلادن دولار كان «عديم الحيلة أمام الشائعات». لقد أصيب الوجه الحقيقي «للآخر الكبير» بما يشبه الكسوف. لقد طاف الوجه التحتيّ والسفليّ لهذا «الآخر الكبير» الذي قضى على سقراط. هناك انكشاف واضح طاول الشائعة، لقد تبيّنت أنها أداة تشويه، ويستطيع من يشيع الشائعة لا أن يوارب فحسب، بل أن يستعين بالشائعة كأداة قتل.
يتغير شكل الشائعة ولو أنّ الثابت الوحيد فيها هو أنها وهم رائج. يتتبع ملادن دولار التجليات المختلفة للشائعة والوظائف المقرونة بكل شكلٍ تتخذه. ينتقي ثلاثة أعمال أدبيّة تنتمي إلى ثلاثة مراحل زمنية لكي يفشي بالشائعة التي تتغيّر وكأنها تتشقلب، وحيث الوجه السفليّ، أو ظلّ «للآخر الكبير»، غالباً ما يتقدّم على الوجه الحقيقيّ فيما الوجه الحقيقي ينازع حتى يبقى حياً.
الشائعة كنميمة وتجريح
ليس سقراط وحده من تعرّض للافتراء وكان مصيره الهلاك بسبب شائعة. جميعنا معرَّضين لأن نكون مكانه. قد نكون جميعنا موضوع شائعات، ومن المؤكّد أنّنا كلنا شاركنا في شيوعها. يصدف أن نسمع شائعة عن أحدٍ تتناوله بالسوء ويحذرنا ناقلها بتوخي الحذر من المعنيّ بها. الغاية من هذه الشائعة هو تشويه الشخص المذكور والافتراء عليه. هذا ما فعله هاملت في مسرحية شكسبير.
أراد هاملت الاستحواذ على عشيقته أوفيليا التي خشى أن تشبه والدته اللعوبة، ولكي يصل إلى مراده، قام برمي شائعة مفادها بأنه وحده من يستطيع اتقائها من سخام العالم وحمايتها من الصيت المقذع، فالشائعات تملأ الخارج ولهي طافحة بالقذف والإفك والافتراء ولا أحد يسلم منها. ثمة موقف مركّب هنا. ثمة شائعة شديدة السخونة استعان بها هاملت ورماها على أوليفيا بغية إخضاعها ليتملّكها.
ما فعله هاملت كما يرى مِلادن دولار، أنه توارى وراء الشائعة الذي قذفها «تحت قناع نصيحة». فهاملت القائل بأنّ الفضيلة لا تنجو من البهتان وأنه وحده من يستطيع حماية فضيلة أوليفيا، قد قوّض، كما حلل دولار، فضيلة أوليفيا وصار هو «أصل هذا البهتان ومنبعه»؛ لقد ابتدع الداء وقرر بأنه الدواء. مع هاملت نحن في صدر الحداثة ودولار يخلص أنّ هذا التناقض الجوّاني الذي يكتنف بطل شكسبير سيتزامن مع تناقضات الانسان الحديث.
عندما قضت الشائعة على سقراط حيث ابتزّت التفاهة المعرفة وانتصرت الآراء الباطلة على الحقيقة، فقد شهدنا على ولادة المأساة؛ أمّا وأننا دخلنا طور الحداثة مع هاملت، فنحن إزاء كائن مرتبك، وممزَّق، متشظٍّ بيد أنه لم يفقد عقله بعد. بوسعه السيطرة على عقله القلق من «منظار القذف والبهتان»، ما يعني نحن إزاء وجهين متكافئين «للآخر الكبير» وكلاهما، الوجه الحقيقيّ والوجه الظلّ يعملان سويّاً وبالتوازيّ.
يحيلنا مِلادن دولار الى مثال شكسبيريّ آخر مأخوذ من مسرحية «عيد النميمة» تعدو كونها مفتاحاً يريد دولار من خلاله فتح الباب أمام أسلوب مختلف تتقمّصه الشائعة، وهو النميمة والقيل والقال. ففي البدء كان للنميمة معنى وهو «رفقة روحية» بين أشخاصٍ لا تربطهم علاقات قرابة. صارت النميمة فيما بعد تعني الانغماس المطلق في فعل النّمِّ: إنّ النّمّام ينمُّ مع رفاق معيّنين لا تربطه معهم أواصر الدم.
وهذا إنّ دلّ على شيء فهو دالّ على أنّ هناك انحدار فظيع حصل، شيء أشبه بالسقوط الحرّ. لقد كانت النميمة فعل تجاوزيّ متعالٍ وغدت محايثة للموحل. عنى «عيد النميمة» التقارب الروحي وانخراط الأصحاب برحلةٍ تصبو الى التصوف، تحوّل النّم إلى فعلٍ بغيض، يقوم على الهتك والفتك والافتراء. يتساءل دولار: «من مسرحية «عيد النميمة» إلى «النمّبوك» (فايسبوك)؛ ألا يصلح عيد النميمة أن يكون توصيفاً لائقاً للمأزق المضني الذي نعيش فيه راهناً؟». وألا يصلح هذا السؤال أن يخرج من الكتاب ويكون السؤال الذي يشغلنا الآن؟
انتصار الوجه الحقيقيّ «للآخر الكبير»: إشراقة اللوغوس في عصر التنوير
دون بارتولو عجوز ماجن يريد أن يتزوج عشيقته لكن هناك كونت آخر ينافسه. يلجأ بارتولو إلى صديقه طالباً منه النصيحة فكان جواب صديقه: «البهتان (الافتراء والإفك والقذف) فبمقدور البهتان أن يدمّر أي أحد مهما كان». من مسرحية «حلاق إشبيلية» للفرنسي دو بومارشيه، يدخل ملادن دولار إلى الكواليس للكشف عن الشائعة القابعة وراء الستار.
في العمل الأوبيرالي لهذه المسرحية فإنّ القصيدة المغنّاة تحوي على الأبيات التالية: «الفرية نسمة رقيقة.... تأخذ مجراها من مكان إلى آخر\ لتغدو كرعد العاصفة...تعم الأرجاء، وتتضاعف قوتها\ وتنفجر ، كقذيفة من فم مدفع». الافتراء قذيفة قاتلة. حدث وأن أصابت سقراط. غير أنّ الأمر ليس كذلك في مسرحية «حلّاق إشبيلية». إنّ الحب الحقيقي انتصر في النهاية، والفتاة المرغوبة لم يتزوجها لا الدون ولا الكونت إنّما العصاميّ فيجارو. يعزو دولار يزو هذا الانتصار لحقبة الأنوار: إنه عصر التفاؤل.
إنه عصر الانعتاق من القصور، الخروج من ظلمة الكهف إلى الضوء الذي يغمر العالم وينير الأشياء. لقد خسئت الشائعة مع دو بومارشيه، انهزم الظلّ، وانتصرت الكفاءة على البهتان؛ والنميمة لم تؤدي دورها بفاعلية، وانهزمت الشائعة أمام العقل. لقد ثأر فيجارو لسقراط فإذاً وانتصرت معه الحصافة على لطخة العار. إنه انتصارٌ للوجه الحقيقيّ «للآخر الكبير»، إنها عودة الآخر الكبير» بُعيد ضلاله.
في زمن الحداثة المتأخرة: أنا هي الشائعة
لا يخاطر مِلادن دولار في الاستهلال بخلاصةٍ نراها تلّح عليه. كلما اقترب من كتابة ذاك الذي يتردّد في ذهنه، وجدناه يكبح نفسه ويعدّل عن النطق فيه. لا يقبل أن تكون جملته الأولى: في البدء كانت الشائعة. يفضّل عوَضاً عن ذلك أن يستهل بالآتي: يشاع أنّ في البدء كانت الشائعة.
يتحجّج ويقول أنها نتاج التوليف الجدلي، لكنه لا يريد الانزلاق إلى وجهة نظر كلبيّة (cynicism) كما يسمّيها، يتبنّى من خلالها قناعة أنّ «الآخر الكبير» الحقيقيّ، أي المبني على اللوغوس، غير موجود، وأنّ الموجود هو فقط ظلّ «الآخر الكبير» المقرون بالقيل والقال والشائعات والنميمة.
يضرب مِلادن دولار مثلين من مرحلة الحداثة المتأخرة، الأول من رواية «المحاكمة» لكافكا والثاني من قصة «حوار الكلاب» لسرفانتس، ومِلادن دولار في اشتغاله على هذين النصّين يرتدي بذلة الناقد الأدبي، وهو ناقدٌ أدبيّ مدهشٌ إذ تستحيل الكتابة عن هذين الفصلين ضرباً من ضروب الشقاء والمكابدة.
تبدأ رواية «المحاكمة» بشائعة طاولت جوزيف.ك. يأبى ملادن دولار في تحليله لنص كافكا أن يقول في البدء كانت الشائعة، أليس اللوغوس كامناً في (جملة) «في البدء كانت الكلمة» (اللوغوس)؟ إنّ القول: في البدء كانت الشائعة، معناه أنّ الوجه الظلّ «الآخر الكبير» قد حلّ مكان اللوغوس. الشائعة متأصّلة على مستوى الكلام إذاً وليس على مستوى التهمة المرمية على الأخير فحسب.
الجملة الوحيدة في الرواية التي لم تكتب من منظور جوزيف.ك هي الجملة الأولى التي تبدأ: «لا بدّ أنّ أحداً قد نشر شائعات عن جوزيف.ك». سيجد جوزيف.ك مصير سقراط نفسه، مع فارق بسيط، أنه لم يخضع للمحاكمة، والمحاكمة هي اللوغوس كونها تقوم على العقل أي على الوجه الحقيقي «الآخر الكبير». لكن الشائعة قتلت جوزيف.ك، ما هي هذه الشائعة؟ لا نعلم، مثلما لا نعلم من الذي أطلقها.
الشائعة لا مؤلف لها، كما أنّ ملادن دولار يشدد على أنّ جملة الافتتاحية جملة «ظنيّة». بيد أنّ مِلادن دولار عنيد. ينكبّ في التفتيش عن مستند، عن دليلٍ، ويجد ضالّته عند الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين الذي رأى أنّ كافكا الذي امتهن المحاماة، لا بد له من معرفة القوانين الرومانية تلك التي نصّت على مبدأ أن كل شخص يفتري على شخص آخر يلقى عقاباً حيث يوضع على رأسه حرف «ك».
لقد خلق جوزيف.ك، على الأرجح، إشاعة عن نفسه. نحن لسنا أمام انتصار الظل وغياب المحاكمة فقط، نحن أيضاً أمام نموذج لإنسان ما بعد الحداثة: بدلاً من أن يُفترى عليه، فإنّه يفتري على نفسه، ولو حتّم عليه الهلاك فلن يكون هلاكه نابعاً جرّاء موضوع جليل إنما جراء مسألة ركيكة. يعود ملادن دولار إتيمولوجياً ويرى أنّ الجناس اللفظي بين كلمتي«slender» تافه و«slander»، ليس بريئاً.
سيكون التأثيل، والتنقيب عن الكلام بمثابة النظّارات التي سيفحص من خلالها مِلادن دولار قصة سيربانتس. كلبان ينطقان هما أبطال هذه القصّة، أحدهما يفرط في النميمة، في السُبّةِ والشتم، وفي ترديد الشائعات. لا يأخذ هذا الكلب بنصيحة صديقه القائلة بالتخفيف من حدّة الكلام وتخفيض النبرة. بيرجانثا، الكلب البذيء، ينجرف في اللغة التي تقوده إلى طريق البهتان.
يقول لصديقه ثيبون: «لا بد للواحد أن يتوخّى غاية الحكمة إذا أراد أن يواصل ساعتين من الحوار من دون الخوض في النميمة، كلمات الطعن والبهتان تهرع إلى لساني كما يهرع الذباب إلى النبيذ». فبيرجانثا سبق واعترف: «نحن نرث أقوالنا وأفعالنا الخبيثة من آبائنا الأولين، نرضعها من أثداء أمّهاتنا». مِلادن دولار يتعامل مع قول بيرجانثا حرفياً. إنّ النميمة والفتك والبهتان، وبالتالي الشائعة تسطو على اللغة، وقد يكون من الأدقّ القول بأنها متأصّلة في اللغة، ووجودها يسبقنا بل يتحكّم فينا.
الشر الجوهريّ عند سيرفانتس. بيرجنثا لا يجد في النطق سوى القيل والقال، الشتم ونشر الشائعات، وبحال أخذت اللغة مسار التفكير والسعي وراء اللوغوس، فستكون الفلسفة مجرد «شائعة متنكرة،» واللغة عندئذ ستسمح للشر بأن ينضج. يردد دولار وراء بيرجانثا: «أنّ تتكلّم يعني أن تغتاب وتبهت»، فاللغة كما يستنتج هي خطيئتنا الأصلية، فلا يوجد تواصل محايد ولا أخبار محايدة، بل «لا يوجد كلام من دون نميمة، بداية من اللحظة التي يفتح فيها المرء فمه». اللغة توازي السقوط، الانحدار. إنها ليست «وسيلة تواصل ونقل المعرفة إنّما الافتراء والإهانة، فأن تتكلم يعني أن تطعن وتجرح». إنّ الكَلام هو الحديث أما الكِلام يعني الجروح، وهذا الجناس اللفظي ليس بريئاً، ثم ألا نفقد شيئاً من انسانيتنا لو كانت اللغة محصورة فقط بالنطق بالحقائق؟ لو كانت اللغة كذلك، فهذه حقيقة لا تطاق.
كائنات «متشائعة» (rumarized)
يفضل دولار نعيّ الواقع بدلاً من نعيّه «الآخر الكبير». بالنسبة له، الجودة الفلسفية تتخمر عندما نتقبّل فكرة أنّ الواقع هو شائعة متنكرة وليس اللغة أو الحكمة ولا العقل. مع ملادن دولار نمر على الشائعة، من سقراط مروراً بهاملت ووصولاً إلى كافكا وسرفانتس ونحطّ عند ترامب، نتعرف على تمظهرات الكائن البشري عبر الشائعة في مراحلها المختلفة، لكن ألا نستطيع أيضاً، إلى جانب هذه المطالعة التي تخصّ الانسان، من سقراط وبعدها صدر الحداثة، فالأنوار وثم زمن الحداثة المتأخّرة، أن نقرأ تاريخ الفلسفة؟ أمامنا في البداية تراجيديا ستشرّع البحث عن العقل والمعرفة؛ عن اللوغوس.
مع هاملت نحن أمام أسبقية «الموضوع»، الكشف عن طبيعة العالم والسعي نحو «الشيء بذاته». مع الأنوار ستبزغ الثورة والعصيان؛ تموت الشائعة وتولد مساواة «إنسانية». أما مع كافكا وسيرفانتس نحن إزاء مأزق «الذات» ومعضلة اللسان؛ اللغة. ومع ترامب فالسفسطة تبلغ مستواها الرهيب. لقد سبَق لملادن دولار وأعلن أنّ «الآخر الكبير» الذي يحفظ الإبيستيمه (المعرفة) تشظّى ونجم عنه آخر أي الظلّ. والظاهر، أنّ الوجه الظلّ «الآخر الكبير» قد انتصر والدليل هو طغيان الشائعة. إنّ وجه الظلّ يهيمن على عصرنا، والوجه الحقيقيّ له يبدو بعيد المنال أو غائباً، هل هذا يعني أنّ «الآخر الكبير» قد زال؟ على الأرجح نعم. ولعلّ دونالد ترامب أبرز دليل.
فترامب يمثّل الوجه الحقيقيّ لعصر ما بعد الحقيقة؛ إنّه عصر الانترنت حيث لا حدود فاصلة بل تداخل الثنائيات ببعضها إلى حدّ التماهي (متفرّج\مشهد، شائعة\معلومة...). يحسب ملادن دولار أنّ ثمة انزلاقةٍ أخرى حصلت مع الانترنت، فقد غدت الشائعات ونظريات المؤامرة تتحكّم بلغتنا حتى أصبحنا «متشائعين»، صارت الشائعة تصنعنا. الشائعة ذابت مع الحقيقة حتى صارت الحقيقة شائعة والعكس. ترامب، على سبيل المثال، عدا عن تلفيقه للكذب، فإنّه يعتبر أنّ أيّة حقيقةٍ أو معلومة مزعجة، عاريةٌ عن الصحة وكاذبة.
غير أنّ ملادن دولار يقترح أن نقوم بانعطافة في خضم كل هذا الانحدار، ذاك أنّ مقولة موت «الآخر الكبير» كما يرى، خادعة ومضلّلة لأنّه «كلّما رثينا زواله نراه اشتد». والحال، إنّ «الآخر الكبير» الذي وجب علينا مواجهته ليس اللوغوس، ولا سلطة الأب، ولا الإذعان لوجه الظلّ «الآخر الكبير» واعتباره سلطة متربعة ثابتة، بل إنّ «الآخر الكبير» الذي علينا مواجهته ثاوٍ في بنية نظامنا الرأسمالي.
علينا أن نتعاطى مع هذا الوجه بوصفه وجهاً جحوداً وفاحشاً، وللإطاحة به، ينصحنا دولار أن نتعامل معه باستراتيجية جديدة: كوحشٍ هائج، لا أن نؤلّب أحد وجهيه ضد الآخر. على أنّ ملادن دولار بحال كشف لنا عن شيء، فقد شرّح تاريخنا البشري الذي هو تاريخ انحدار؛ كل مرحلة هي مرحلة هبوط وسقوط وتدهورٍ نحو الأسفل، ثم لسنا سوى كائناتٍ تعتنق معرفةٍ واهية وتملك لساناً نمّاماً. والظاهر، إنّ تشذيب اللغة لا يفيد وتحكيم العقل غير كافٍ، ليس أمامنا من «واجب إنسانيّ» على ما يبدو، سوى خلق عصرٍ جديد ينتصر فيه وجه «الآخر كبير» على ظلّه.