أميرة غنيم: التاريخ مدخلاً لطرح الأسئلة الكبرى

أميرة غنيم: التاريخ مدخلاً لطرح الأسئلة  الكبرى
أميرة غنيم: التاريخ مدخلاً لطرح الأسئلة الكبرى

نجحت الأكاديميّة والروائيّة التونسيّة أميرة غنيم في استقطاب الانتباه النقدي خلال السنوات الأخيرة عبر مجموعة من الأعمال التي مزجت فيها بين التاريخ والتخييل الروائي بالتوازي مع إسهاماتها الأكاديمية في اللسانيات وتحليل الخطاب. تعتبر غنيم من الجيل الجديد في الأدب التونسي ومن الكاتبات المنخرطات في النضال النسوي دفاعاً عن قضايا المرأة والحريات، وهو ما ترجمته في أعمالها الروائية والقصصية ومساهماتها في الشأن الثقافي بشكل عام. أثارت روايتها الأولى «نازلة دار الأكابر» (2020) الكثير من الجدل، وتُرجمت أخيراً إلى الإنكليزيّة عن منشورات Europa، كما روايتها الأخيرة «تراب سخون» التي قدّمت سيرةً متخيلةً لقرينة الزعيم الحبيب بورقيبة ( 1903-2000) الملقبة بـ«الماجدة وسيلة بورقيبة»

■ جائزة الأدب العربي التي حصلت عليها أخيراً في فرنسا، ماذا أضافت لك؟ وكيف ترين حركة الترجمة في العالم العربي اليوم؟


ــــ لا يمكنني أن أقدّر الآن مقدار ما أضافته جائزة الأدب العربيّ لمسيرتي الأدبيّة، لكنّني أظنّها مع ذلك منعطفاً جديراً بالتقدير. فالمؤكّد أنّها ليست مجرّد احتفاء بشخصي أو بعملي فحسب، بل هي اعتراف بدور الأدب العربي في المشهد الثقافي العالميّ، وتقديرٌ للأدب التونسيّ الذي أنتمي إليه وإقرار بقدرته على تجاوز الحدود وعبور الألسنة.

على المستوى الشخصيّ، منحتني الجائزة شعوراً بالرضى وبالامتنان للأدب الذي يحملنا فوق كفّه السحريّة عبر الأزمنة والأمكنة. وأتوقّع أن تفتح لي الجائزة دروباً جديدة للتواصل مع قرّاء من ثقافات مختلفة، وهذا هو في اعتقادي جوهر الأدب: أن يكون جسراً تُبنى من فوقه جسور مع الآخر. على المستوى الإبداعيّ، حمّلتني الجائزة مسؤولية أكبر بلا شكّ، وأرجو أن تمنحني طاقةً جديدة لمواصلة الكتابة والاشتغال في مواضيع جديدة ترفع من قيمة المشترك الإنسانيّ رغم تعقيداته.

هذا عن الجائزة، أمّا عن سؤالك بخصوص حركة الترجمة في العالم العربيّ، فلا شكّ في أنّها تتطوّر يوماً بعد يوم، لكنها ما زالت محتاجة إلى الكثير من الإستراتيجيّات الطويلة المدى.

للأسف، يكمن التحدّي الأكبر في قلة المؤسّسات التي تدعم الترجمة خارج الندوات الفولكلوريّة وتعتبرها جزءاً أساسياً من مشاريعها الثقافيّة. ومع انتشار الترجمة التجاريّة التي تعرض نوعيّة محدّدة من النصوص ليست هي الأفضل بالضرورة في كاتالوغ الأدب العالميّ، وقلّة موارد دور النشر التي لا تتّجه في الغالب إلّا نحو الكتب القديمة التي سقطت حقوقها الماليّة، والتعويل الأحمق في غالب الأحيان على كفاءات الذكاء الصناعي، ما زلنا على بُعد سنين ضوئيّة من حركة الترجمة العالميّة.

مع ذلك كلّه، لا يُمكنني إنكار المبادرات التي تقوم بها دور النشر الجادّة من أجل تعزيز دور الترجمة في التبادل الثقافي، سواء من العربيّة إلى اللغات الأخرى أو العكس. ويبقى الأمل قائماً في عملٍ مؤسّساتي أكبر، ورؤية إستراتيجيّة شاملة لاستقدام أفضل ما يكتب في العالم إلى فضاء العربيّة، ولإخراج الأدب العربيّ الحديث من عزلته وتعزيز انتشاره خارج حدوده القطريّة الضيّقة. كثيراً ما نتناسى أنّ الترجمة ليست ترفاً ثقافيّاً، بل مطيّة ضرورية لخلق حوار متكافئ مع العالم، ولتعزيز مكانة العربيّة في المشهد الحضاريّ العالميّ.

الأدب النسوي يؤكّد أن قضايا الاضطهاد والتمييز جزء لا يتجزأ من الحكاية الإنسانية الكبرى

■ في «نازلة دار الأكابر» كما في «تراب سخون»، تعاطيت مع التاريخ بالدمج بين الواقعيّ والمتخيّل، هل هو توجّه عامّ لمشروعك الروائيّ؟


- التعامل مع التاريخ والمزج بين المرجعيّ والتخييليّ جزء أساسيّ من مشروعي الروائيّ، وليس مجرّد اختيار عابر. فأنا مِن فئة الروائيّين الذين يؤمنون بأنّ الرواية ملعبٌ فسيح للتعاطي مع القضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة، وبأنّ التاريخ أفضل مدخلٍ لهذه القضايا. الثابت في تجربتي أنّني لا أنظر إلى التاريخ بوصفه نصّاًَ مغلقاً جامداً أو وقائع ماضية محفوظة في الأرشيف، بل أراه مادّةً حيّةً يمكن استحضارها وإعادة تشكيلها من زاوية نظر جديدة.

وفي «نازلة دار الأكابر» كما في «تراب سخون»، اخترت أن ألاعب التاريخ. وسيلاحظ القارئ منذ الصفحات الأولى أنّ الوقائع التاريخيّة في الروايتين مجرّد خلفيّة تُعتمد لاستكشاف ما يجري في أعطافها، أي المشاعر الإنسانيّة المتداخلة، والعلاقات النفسيّة المعقّدة، والتفاصيل اليوميّة التي لا تحفل بها النصوص التاريخيّة.

بهذا الدمج، حاولت أن أقدّم زاوية نظر أخرى لتثمين التاريخ، تتيح للقارئ أن يعيش التجربة بدلاً من أن يكتفي بملاحظتها من بُعد. وظنّي أنّ هذا التوجّه ينسجم مع رؤيتي للمشروع الروائيّ ككلّ، فأنا أعتبر الأدب درباً شائكاً ولكنه لازم للمصالحة مع ماضينا، وصراطاً لا بدّ من عبوره من أجل فهم أعمق لتحوّلات مجتمعاتنا.

والتاريخ متى عانق التخييل، أضحى أداة جبّارة لإعادة طرح الأسئلة الكبرى: عن الهوية، والعدالة، والذاكرة الجماعية. لذا، هذا المنهج في الكتابة هو توجّه عامّ في مشروعي الروائيّ، ما دمت أرى فيه وسيلة فنيّة وجماليّة قويّة لطرح القضايا التي تهمّني وتهمّ المجتمع الذي أنتمي إليه.

■ الرواية هي المنتوج الأدبي الأول في الثقافة العربية، بماذا تفسرين هذا؟ هل للجوائز دور في تحفيز الكتّاب على الرواية؟


أفسّر ذلك بقدرة الرواية الاستثنائية على التعبير عن التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة بطريقة تجمع المعرفة الضمنية إلى المتعة. فميزة الرواية أنّها نصّ مضياف ومرن بطبيعته، وقادر على احتواء مختلف التجارب الإنسانية وتقديم أصوات متعددة تعكس تنوّع الواقع وصراعاته الظاهرة والخفيّة.

علاوة على ذلك، يمكن القول إنّ الرواية في المجال العربيّ أضحت نافذة القارئ العربيّ لفهم حاضره واستشراف مستقبله في ظل غياب الإجماع حول رواية تاريخية موحّدة للماضي. وبلا شك، لعبت الجوائز الأدبية دوراً مهماً في هذا الانتشار، لأنّها حوّلت وجهة عدد كبير من الكتّاب من الشعر والقصّة نحو الكتابة الروائية.

فعلاوة على قيمة المكافآت المالية التي تمنحها الجوائز للكاتب العربيّ الذي لا يمكنه العيش من الكتابة إلّا في حالات قليلة نادرة، ترفع الجائزة بسلطتها الرمزيّة من قيمة العمل الأدبيّ وتوصله إلى جمهور أوسع وتمنحه فرصة حقيقيّة للانتشار.

ومع تشجيعها على المنافسة، دفعت الجوائز الكبرى عدداً من الكتّاب الشباب إلى البحث عن مواضيع جديدة وأشكال سردية مبتكرة، وهذا يسهم في تطور الرواية العربية وجعلها جنساً أدبيّاً منفتحاً على تقنيّات جديدة، لكنّه قد يؤدّي أيضاً إلى تسطيح الإبداع لمصلحة مواضيع تتماشى مع توجّهات لجان التحكيم، وقد لاحظنا ذلك في السنوات الأخيرة بناء على افتراضاتٍ يقوم بها بعض الكتّاب ولا علاقة لغالبيتها بمنطق الجوائز في التحكيم.

■ عدد من الروائيين والروائيات خاصة يلجؤون أحياناً إلى «التوابل الجنسية»، هل يعود ذلك إلى البحث عن الإثارة أم لدواعي سردية؟


استخدامك هذا التعبير «التوابل الجنسية» ينطوي على حكم مسبق يحصر الجنس في خانة المنكّهات. وظنّي أنّ المشاهد الجنسيّة في الروايات مسألة معقدة وتختلف دوافعها من كاتب إلى آخر. أحياناً يُوظَّف هذا العنصر كجزء من السرد، إذ يكون له دور في تطوير الشخصيات أو الكشف عن تعقيداتها النفسية والاجتماعية. في هذه الحالة، تكون المشاهد الجنسية جزءاً من أدوات الكاتب للتعبير عن عمق التجربة الإنسانية.

لكن في أحيان أخرى، قد يتم اللجوء إلى هذه العناصر بدافع البحث عن الإثارة، عندها تصدق عليها صفة «التوابل». ففي هذا السياق، تصبح المشاهد الجنسية وسيلة تجارية لا مبرّر حقيقياً لها في البناء الدرامي للنص، وجمهورها معروف. ما يهمّ في النهاية هو السياق الذي تُوظَّف فيه هذه العناصر ومدى انسجامها مع العالم الروائيّ.

فالرواية، في جوهرها، فن عميق يتطلب التوازن بين الحرية في التعبير والمسؤولية في الطرح. أما القارئ، فهو الحكم النهائي، وغالباً ما يستطيع التمييز بين التوظيف السردي الصادق وبين الإثارة المجانية التي قد تفقد العمل عمقه وقيمته الأدبية.

■ الأدب النسوي في السرد موضوع قديم محلّ جدل، ما هي رؤيتك الخاصة؟


الأدب النسويّ موضوع غنيّ لأنه يتقاطع مع قضايا الهوية والحريّات الفرديّة والتحوّلات الاجتماعيّة. وهو ليس مجرّد تصنيف أدبيّ، بل موقف فكري يعكس تجربة وفهماً للعالم من زاوية تتحدى الصور النمطية وتعيد صياغة الأدوار الاجتماعية والثقافية المتكلّسة وتسلّط الضوء على قضايا ظلت مهمّشة أو مغيّبة في السرديات الكبرى، سواء تعلق الأمر بالتمييز الجندري، أو التحديات التي تواجهها النساء في المجالين الخاص والعام، أو حتى تعقيدات علاقة المرأة بذاتها وبالآخرين وصراعها اليوميّ داخل الفضاء الذكوريّ.

الثابت اليوم أنّ الأدب النسويّ خرج من مجالاته التقليديّة، فلم يعد مجرّد صوت احتجاجيّ يتعمّد الصدمة والاستفزاز، بل صار جزءاً من مشروع أدبي شامل يعبّر عن التجربة الإنسانية في كل جوانبها. أما الجدل حوله، فأراه أحياناً ناتجاً من سوء فهم للمصطلح نفسه.

فالأدب النسوي ليس أدباً تكتبه النساء فقط إذ لا يُطرح سؤاله في الحوارات الثقافيّة وفي اللقاءات الأدبيّة إلّا عليهنّ، بل هو أدب يكتبه الرجال أيضاً. أدبٌ يحمل قضيّةً نضاليّة ويعكس تجربة إنسانية، قد تكون صادمة أحياناً، لكنها دائماً صادقة. وبإيجاز، رؤيتي الخاصّة أن الأدب النسويّ ليس خانة تصنيفيّة، بل محور من محاور الأدب الإنساني، وامتداد لنضال قديمٍ خاضت فيه البشريّة من أجل تحقيق العدل. هو محور يخترق محاور عدة ويضيف تنوعاً وثراءً للمشهد الأدبي العام، ويؤكّد أن قضايا الاضطهاد والتمييز جزء لا يتجزأ من الحكاية الإنسانية الكبرى.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي