مقالات للكاتب

أدونيس

السبت 18 كانون الثاني 2025

شارك المقال

الأصل: داء أم دواء | (حول الحروب الصامتة العربيّة – العربيّة)

مروان قصاب باشي ـــ «من دون عنوان (مغطّى)» (مائيات على ورق ـ 59.8 × 55 سم ـ 1970)
مروان قصاب باشي ـــ «من دون عنوان (مغطّى)» (مائيات على ورق ـ 59.8 × 55 سم ـ 1970)

-١-


يفتح العلم أبواباً يُمنَع الدّخول فيها.
يفتح الدين أبواباً يُمنع الخروج منها.

هل أنت «مؤمن»؟ هل أنت «كافر»؟ أيّاً كان جوابك، فأنتَ في «حصار»، وفي هذا الحصار، تكمن «الهوية»، كما تعلّمها الأبجديّة الثقافيّة التي تنحدر من أسطورة «الأصل».

«الأصل»، عندنا، نحن العرب، والسيادة باسمه، هما المشكلة الأولى في تاريخنا السياسي.

كان «الأصل» دائماً بداية تاريخٍ جديدٍ قام غالباً على العنف. وهي عندنا نحن العرب بدايةً انشقّت، منذ البداية، فصار العنف جزءاً عضويّاً في بنيتها الاجتماعية والثقافية.

وقد أثبتت التجربة التّاريخية أنّ التعايش بين طرفي الانشقاق شبه مستحيل. لا سلام الأنا والأنتَ في شراكة وانفتاح ومساواة.
بل العنف والحرب، إمّا أنتَ وإمّا أنا.


-2-


يقول علماء النفس إن «الأصل» ليس له وجود حقيقيّ أو موضوعيّ.
فالأصل استيهام. غير أنّه استيهام له خصوصيّة اليقين.
أو لنقل: إنه ثوب «مصنوع»، يتراءى كأنّه هو نفسه الجسم.
أو هو تطبّع، يحل محلّ الطَبع.
وتكمن أهمية هذا الاستيهام في أنه يمد جسراً من «المعنى»، من التلاحم والتّواصل العضويّين، بين القائلين به، وبين ما كان، وما هو كائن، وما سيكون.
«الأصل» كُبّة غزل نسج خيوط الذاكرة. انقطاع هذه الخيوط يولّد خللاً: التفكك، التشتت، التبعثر… إلخ.
وتساعد الذّاكرة في ابتكار كلّ ما يحول دون هذا الانقطاع: الأساطير، المعتقدات، الأيديولوجيات، الآداب، الفنون، الفلسفات، والحروب أيضاً.
وهو ابتكار يوهمنا أو يخيّل إلينا أننا نبتكر فيه كل ما يحول دون الزوال والانقراض.


-3-


غير أن الارتباط بالأصول على هذا النّحو يكشف عن رغبةٍ دفينةٍ طاغيةٍ في معاصرة عالَم خارج العصر: معاصرة ما هو قديمٌ قديم وبعيدٌ بعيد. وهذه ظاهرة تطمس الرغبة الأكثر إشعاعاً. تلك الرغبة في العمل والإبداع والحضور الخلّاق. وقد يشتدّ هذا الطمس فيتحول إلى نوع من الشلل أو المرض يصبح فيه الدفاع ضد الموت، موتاً آخر، أو شكلاً من أشكال الموت.
ذلك أن الحياة نفسيّاً وفكرياً في عالَم خارج العصر، إنما هي نوع من الهبوط في هاوية، تبدو فيه الحياة نفسها هاوية، أو تبدو كأنها لا تعني أيّ شيء إلّا بدءاً في محاكاتها الكاملة للأصول والبدايات.


-4-


الشعور بالانفصال عن «الأصول» هو اليوم، عند العرب، وبخاصّة المتدينين، مكوّن أساسٌ في النظر والعمل، وفي فهم الهوية والعلاقة بالآخر.
إنه شعور تبدو عبره ثقافة هؤلاء كأنها مجموعة من الظواهر السيكولوجية، وهي ثقافة تبدو في الممارسة أنّها تقوم على كل ما يناقض الفكر والعقل: الخرافيّة، الاختلاق، العدوانية، الاتّهامية، الكذب، الانتفاخ والادّعاء. ثقافة ضدّ الإنسان. ثقافة تنهض جوهريّاً على الإلغاء والعنف. هي في التحليل الأخير إبادة للطاقة العربية وللحاضر العربي، إبادة لمستقبل العرب.

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي