إسرائيل: بين القصف في لبنان والرموز في غزة

في المدة الأخيرة قبل انتهاء مهلة الستين يوماً، تصاعدت الممارسات الإسرائيلية العدوانية في جنوب لبنان، إذ نفّذ جيش الاحتلال تفجيرات عنيفة في القرى والمناطق الحدودية أدت إلى تدمير ما تبقّى من البنية التحتية. تُعدّ هذه الهجمات، التي جاءت تحت ذرائع أمنية، جزءاً من سياسة إسرائيلية أوسع تهدف إلى إضعاف المقاومة اللبنانية وبيئتها. ومع ذلك، فإن كل هذه المحاولات لم تنجح في كسر إرادة السكان.
وفي سياق متصل، انتشرت أخيراً على مواقع التواصل الاجتماعي صورة من بيت حانون في غزة، تظهر رمزاً ضخماً لنجمة داوود مرسوماً على الأرض، إلى جانب الرقم 97. يُشير هذا الرقم إلى كتيبة «نتساح يهودا» (97) التابعة للواء «كفر»، التي انسحبت من غزة قبل أكثر من أسبوع، بعد أن تركت خلفها هذا الرمز كـ«تذكار» يمكن رؤيته حتى من الفضاء. تكشف الصورة أن جنود الكتيبة تعمّدوا رسم هذا الرمز في الرمال باستخدام أدوات هندسية، ليُصبح علامة بارزة تُرى عبر الأقمار الصناعية، ويظهر موقعها على خرائط غوغل بالقرب من بيت حانون، على بُعد حوالى 200 متر من الحدود مع إسرائيل.
أعادت هذه الصورة إلى الأذهان حادثة مشابهة حصلت في أكتوبر 2023، عندما قام مقاتلو الكتيبة الثالثة عشرة والكتيبة الحادية والخمسين من لواء غولاني برسم نجمة داوود في ساحة العرض الخاصة بموقع «كاتيفا» وسط مدينة غزة. وشهد الموقع الذي كان يُستخدم لتدريب مقاتلي حركة «حماس» مراسم قتالية أقامها الجنود الإسرائيليون لتكريم رفاقهم الذين قُتلوا منذ بداية عملية «طوفان الأقصى».
وهذه الممارسات ليست جديدة في التاريخ الاستعماري. ففي مدة الحكم النازي في ألمانيا (1933-1945)، كانت الميادين العامة، وأبرزها ميدان نورمبرغ، تشهد بناء منصات وأبنية ضخمة على شكل رموز نازية مثل الصلبان المعقوفة والأعلام. كانت هذه الرموز تهدف إلى التأثير في الجماهير نفسياً، وتعزيز الشعور بالقوة والهيمنة النازية. كما كانت المسيرات العسكرية الضخمة جزءاً من هذه العروض، حيث كان الألمان يستعرضون قواتهم بشكل مبالغ فيه لإظهار هيمنة النظام النازي على العالم.
وبالعودة إلى فلسطين، لم تكن الرموز الضخمة المرسومة على الأرض هي المحاولة الوحيدة التي اعتمدتها إسرائيل لإبراز قوتها وسيطرتها. فقد سعى الاحتلال بشكل مستمر إلى طمس الهوية الفلسطينية وإعادة تشكيل المشهد الجغرافي للمنطقة. من بين هذه المحاولات، كانت زراعة غابات الصنوبر على أنقاض القرى الفلسطينية بعد تهجير سكانها. بل إن بعض هذه الغابات زُرعت لتأخذ أشكالاً ورموزاً يمكن رؤيتها من السماء، ما يضيف بُعداً رمزياً ودعائياً لهذه الخطوات.
تشجير الأراضي كوسيلة لوضع اليد عليها
استُخدمت زراعة الغابات كأداة ممنهجة لتحقيق هدفين أساسيين: الاستيلاء على الأراضي، والمطالبة بملكيتها لاحقاً. يعتمد هذا النهج على قانون العقارات العثماني لعام 1858 الذي تبنته سلطات الانتداب البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي، والذي يسمح بالمطالبة بملكية الأرض إذا زُرعت لمدة ثلاث سنوات متتالية. وبهذه الطريقة، ضمن الصندوق القومي اليهودي السيطرة على الأراضي التي استملكها عبر تشجيرها.
تتزامن سياسة التشجير هذه مع محاولات سرقة الأشجار، حيث انتشرت مقاطع لجنود إسرائيليين وهم ينتزعون أشجار الزيتون المعمرة من الأراضي الفلسطينية، لإعادة زرعها في المستوطنات. شجرة الزيتون، التي تحمل رمزاً ثقافياً للفلسطينيين، كانت دائماً هدفاً للممارسات الاستعمارية التي تسعى إلى تغيير طبيعة الأرض لمصلحة المشاريع الاستيطانية.
وكان الفرنسيون خلال مدة الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830-1962)، وفقاً لكتاب Resurrecting the Granary of Rome، يستخدمون زراعة الغابات كوسيلة لطمس الهوية الثقافية والزراعية للشعب الجزائري. فبدلاً من الحفاظ على الأراضي الزراعية التي اعتاد الجزائريون الاستفادة من محاصيلها، قام الفرنسيون بتحويل هذه الأراضي إلى غابات، ما دمّر النظام الاقتصادي والاجتماعي للجزائر. كان الهدف الأساسي جعل الأرض تبدو وكأنها جزء من المشروع الاستيطاني الفرنسي، وصلت إلى إطلاق المستعمرين أسماء فرنسية على هذه الغابات.
وهكذا، نجد أن السياسة الاستعمارية التي اعتمدها الفرنسيون والنازيون تشترك مع سياسات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، عبر استخدام الرموز الضخمة والتعديل الجغرافي كوسيلة لترسيخ الهيمنة الاستعمارية على الأرض. واللافت أن هذه الحركات الاستعمارية اعتمدت على تغيير معالم الأرض لخلق رابط زائف بين المستعمر والمستعمرات، ما يمحو الهوية الثقافية والتاريخية للسكان الأصليين ويعزز هيمنة المستعمرين.
يواصل الإسرائيليون عدوانهم على الأراضي الفلسطينية وجنوب لبنان، محاولين فرض هيمنتهم وإظهار أنفسهم كمنتصرين مع نهاية الحرب. لكن كل هذه الأفعال، من تدمير وتجريف ما تبقى من المنازل، ليست سوى محاولات يائسة وعقيمة. فاستمرار هذا العدوان لا معنى له، وخاصة بعد مشاهد الانتصار الحقيقية التي تجلت في عودة السكان إلى أراضيهم في شمال غزة وجنوب لبنان، حيث أصبحت إرادة الصمود والتحدي أقوى من كل محاولات القهر والتدمير.