عبد المحسن الصوري... الشاعر الذي رتع في حقول الخيال

عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب الصوري، أبو محمد ويلقب بابن غلبون (950 - 1028) من شعراء جبل عامل في العصر العباسي وابن مدينة صور الضاربة جذورها في أعماق التاريخ. ترَّبع على عرش الشعر، وأدهش الكبار في عالم الشعر والأدب واللغة، وهو صاحب ديوان فيه خمسة آلاف بيت.
نظم الشعر باكراً، وخاض غماره وتنقل بين مدن وقرى بلاد الشام منادماً الأمراء ومتصلاً بولاة الحمدانيين ثم الإخشيديين وبالفاطميين، فتأثر بالبيئة التي عاش فيها وبمن سبقه من الشعراء كما أثّر هو بمن عاصره وأتى بعده من الشعراء.
تنوّع ديوانه بين المديح والرثاء والغزل والفخر والهجاء، نجد فيه دفق الشعور والصور الطافحة بالتراكيب الجديدة الرحبة والمتسعة لجليل المعاني مما جعله مجدداً في صوره الشعرية المفعمة بالحياة والتي تصخب بالدلالات التي تثير المشاعر وتجعل من يقرأ شعره في تفاعل متوالد ومستمر لا ينضب.
-
شاعريته جعلت الكبار من المؤرخين والنقاد يعجبون بتوقد ذهنه
شاعريته جعلت الكبار من المؤرخين والنقاد يعجبون بتوقد ذهنه ورقة طبعه وجلالة معانيه، وقال الثعالبي عنه: «أحد المحسنين الفضلاء المجيدين الأدباء، شعره بديع الألفاظ حسن المعاني رائق الكلام، مليح النظام، من محاسن أهل الشام».
وقال السيّد محسن الأمين عنه في أعيان الشيعة: «الصوري، شاعر مطبوع على الإجادة في أكثر أبواب الشعر غزلاً وتشبيباً ومديحاً ورثاءً ووصفاً وغير ذلك، شعره من ذلك السهل الممتنع يمتاز بجمال العبارة، ومتانة الديباجة، مع ميل ظاهر إلى الإبداع والابتكار في المعاني».
أمّا ابن خلكان فقال في وفيّات الأعيان: «الشاعر المشهور، أحد المحسنين الفضلاء المجيدين الأدباء، شعره بديع الألفاظ، حسن المعاني، رائق الكلام، مليح النظام، من محاسن أهل الشام، له ديوان شعر أحسن فيه كلّ الإحسان».
-
تأثروا به شعراء الأندلس
تأثروا به شعراء الأندلس، كما أثروا هم في نتاجه، مما يدلنا عن الصلات الحضارية والإنسانية التي كانت قائمة بين الشرق والغرب.
وهو ما يحدثنا عنه شوقي ضيف في كتابه «تاريخ الأدب العربي» (الجزء السادس، ص: 206) فقال: «ولعل ذلك ما جعل ابن خفاجة الأندلسي يعجب بأشعاره ويقرنه في مقدمة ديوانه بالشريف الرضي والمهيار. ويتوقف مراراً في ديوانه ليدلنا على أن عبد المحسن الصوري ألهمه هذه المقطوعة أو القصيدة أو تلك».
من كان لديه آلاف الأبيات لا يمكن الإطلالة عليها بمقالة:
«ألا رُبَّ يَومٍ أشرَقَت شَمسُ كَأسِه
فطافَت علَى جُلاسِه قبلَ شَمسِه
كذلك ذو الفَخرين في طول عُمره
نَرى يَومه في الجود يزري بأمسِه..»
-
ومسنَ غُصوناً والتفَتنَ جآذِرا
«سَفَرنَ بدوراً وانتَقَبنَ أهلَّةً
ومسنَ غُصوناً والتفَتنَ جآذِرا
وأبدينَ أطراف الشعور تَستُّراً
فأغدَرَتِ الدنيا عَلينا غَدائِرا
وربَّتَما أطلَعنَ والليلُ مُقبلٌ
وجوهَ شُموسٍ تُوقِفُ الليلَ حائِرا
فهنَّ إذا ما شِئنَ أمسَينَ أو إذا
تعرَّض أن يَصبَحن كنَّ قَوادِرا..
أرَى جَمراتٍ في مَسالِك أنفاسي
وأَغصانُ عَيشي كلُّها يابِس عاس
وكنتُ أعدُّ الموتَ بَأساً وعِندما
أراهُ فَما في ذلكَ البأسِ من باسِ..»
-
فاعدِل إلى المُنقذِ من عَقلِه
«لو عَدلت كأسُ الهَوى لم أكُن
أكرَهُ عَدلَ الكأسِ في المَجلسِ
خَليطَةُ الأنفُسِ غيرُ التي
تَحكُمُ بالجَورِ عَلى الأنفُسِ
فاعدِل إلى المُنقذِ من عَقلِه
بِها أبا الجَيشِ إلى المُفلِسِ..
طالَ الزَّمانُ وما ثَناهُ ولا انثَنَى
فَقِفا على شَحطِ النَّوى وتَبيَّنا
هَل تَعرفانِ البَينَ يومَ تَعانَقا
وتفارَقا إِلا مُسِيئاً مُحسِنا
كَلا وفَضلِ غناكما في عَذلهِ
ما زدتُماهُ بعَذلهِ إلا عَنا
يا صاحِبَيَّ المُنكِرَينِ من الهَوى
ما لا تَدلُّ عَليه أثوابُ الضَّنا
تحتَ الضَّمائِر في السَّرائرِ لَوعَةٌ
لم تُطلِق العُشَّاقُ فيها الألسُنا
وعَساكُما فيما تُريدانِ الهَوَى
يأتي بهِ قدَرٌ فيَعدلُ بَينَنا..»
«مازحتُ بالحبِّ ضامر الكشحِ
وأوَّلُ الجدِّ آخر المزحِ
يجرحُني لحظُه فكيف يُدا
وينِيَ إذ لا يرى فم الجرحِ
فخُذ حديثي واسأل فإنك إن
تسأل تجِد مدخلاً إلى الشرحِ
لمحتُه فاستثرتُ كامنةً
أسرع في قيلها من اللمحِ
ورمتُ عنه لا يستقلُّ ولا
يبرح بي لاعجٌ من البرحِ..»
نعثر على إجادة متناهية في إعادة تشكيل بعض الصور، حيث مزج بين أكثر من صورة في مشهد فني واحد أخرجه إلى فضاءات جميلة تهتز لها المشاعر ويطرب بها الوجدان في تصاعد النفس الشعري حيث تتوالد المعاني بعيداً عن ضيق التقليد.
ما يلفتنا هو الألفاظ واللغة، حيث المفردات الجزلة التي تدلنا على ما في جعبته من تمكن واستحضار إذ شكلت قصائده حقلاً لغوياً يُظهر لنا معين ما تميزت به لغة ذاك العصر.
شاعرنا كما كل الشعراء والأدباء الذين مروا وتركوا بصماتهم الواضحة في عالم الإبداع، لنا أن نعكف على قراءة ما تركوه من إسهامات علّنا نغتني بها في زمن الضمور المعرفي ونعيد الحياة إلى الحياة.