أفعال أوروبا تُعاكس أقوالها: سوريا (غير) آمنة

في خطوة تكشف عن ارتفاع كبير في مستوى المخاوف الأمنية حيال الأوضاع في سوريا، ألغى وفد أوروبي زيارة «سرّيّة» لبحث سبل عودة اللاجئين مع الإدارة السورية الجديدة، التي لا تزال ترزح تحت وطأة تبعات المجازر التي شهدها الساحل السوري، في وقت تتابع فيه إسرائيل اعتداءاتها على الأراضي السورية، عبر تقدّم بري وحملات عسكرية في الجنوب، وغارات واستهدافات جوية تطاول مختلف المناطق، وآخرها استهداف لنقطة ساحلية في اللاذقية، تسبّب بانفجارات كبيرة، من دون أن تفصح السلطات عن نتائج هذا العدوان.
وأعلنت وزارة الداخلية الألمانية إلغاء الزيارة التي كان من المُفترض أن تقوم بها وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، ونظيرها النمسَوي غيرهارد كارنر، لإجراء مشاورات مع السلطات السورية الانتقالية، وذلك بسبب «مخاطر أمنية لا يمكن تجاهلها». وتابعت، في بيان، أن «الرحلة لم تُعلن مسبقاً لأسباب أمنية، لكنّ المعلومات الواردة من الأجهزة الاستخباراتية كانت كافية لاعتبار تنفيذها مخاطرة غير مبرّرة»، لافتة إلى أن «التهديد المحتمل تجاه الوفد الأمني الألماني والنمسَوي لم يكن من الممكن تجاهله أو التعامل معه بمستوى أمان كافٍ».
وكان من المقرّر أن يسافر الوفد عبر طائرة تابعة لسلاح الجو الألماني من الأردن إلى دمشق، غير أن إلغاء الرحلة دفعه إلى الاكتفاء بإجراء لقاءات مع مسؤولين أردنيين، تمّت خلالها مناقشة أوضاع اللاجئين السوريين، وسبل فتح باب العودة الطوعية أمامهم، وهي النقطة الأكثر أهمية لأوروبا في الوقت الحالي، في ظل محاولة استثمار التغيّرات التي طرأت في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد لفتح باب عودتهم، مقابل تسهيلات عديدة.
ويرتبط بعض هذه التسهيلات بتقديم منح مالية لتنشيط عمليات إعادة الإعمار في سوريا، وبعضها الآخر بالسماح للسوريين بزيارة بلدهم والاطّلاع على الأوضاع، ودفع مبالغ مالية لمن يقرّر العودة منهم، الأمر الذي كانت تنتظر السلطات الألمانية أن يفضي إلى إعادة نحو 900 ألف لاجئ. غير أن مجازر الساحل، وما تبعها من أصداء واسعة، تسبّبت بعرقلة هذه الجهود، حتى الآن. أيضاً، من المتوقّع أن يؤدي إلغاء زيارة الوفد إلى وضع عراقيل جديدة، أو على أقل تقدير دفع كثير من السوريين الذين كانوا يفكرون بالعودة إلى مراجعة حساباتهم.
وفي هذه الأثناء، أعلن وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، خلال جلسة استماع أمام البرلمان الإيطالي، أن بلاده خصّصت نحو 68 مليون يورو لتمويل مشاريع إنسانية وإعادة إعمار البنية التحتية في سوريا، وذلك في إطار الخطة التي تقودها إيطاليا لتقديم مساعدات للدول المصدّرة للاجئين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهدف تحسين ظروف الحياة لديها، ومنع موجات اللجوء، إلى جانب تقديم مساعدات عسكرية لهذه الدول لضبط حدودها. وإذ أكّد الوزير الإيطالي أن مشاريع تعاون جديدة مع دمشق ستنطلق خلال الأسابيع المقبلة، فهو أعلن نية حكومته تنظيم منتدى أعمال يهدف إلى المساهمة في جهود إعادة الإعمار، في محاولة لنسخ التجربة التي تخوضها إيطاليا مع دول شمال أفريقيا.
لكن من غير المعروف بعد الطريقة التي ستعتمدها روما في عملها مع دمشق؛ إذ أظهر مؤتمر بروكسل للمانحين عزوف الجهات المانحة، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي (بعد تراجع الولايات المتحدة الأميركية عن تقديم الدعم) عن التعامل بشكل مباشر مع الحكومة السورية، واستمرار اعتمادها على المنظمات الإنسانية، وهي الطريقة التي كانت متّبعة سابقاً. ويكشف هذا الأمر أيضاً عن حالة «عدم يقين» تعيشها أوروبا في تعاملها مع السلطات الانتقالية السورية، والتي تعوّل على تشكيل حكومة موسّعة قد تكون مُرضية، من المنتظر الكشف عنها خلال الساعات المقبلة، إلى جانب انتهاء التحقيقات في مجازر الساحل، وطريقة تعامل السلطات مع منفّذيها، ومقدار تمكّن الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، من ضبط وإخراج الفصائل غير السورية، والتي تضم مقاتلين متشددين، يعتبرهم الغرب خطراً لا بدّ من إزالته.
أُطلقت حملة أمنية في مناطق عديدة بدمشق وريفها، قالت الإدارة الجديدة إنها تهدف إلى «ملاحقة فلول النظام ومسلحين يرتبطون بحزب الله وإيران»
بدورها، أكّدت تركيا، بشكل غير مباشر، سعيها لإقامة قاعدة عسكرية، بعد أيام من بدء قواتها عمليات تأهيل وتحضير لمطار منّغ العسكري في ريف حلب، ووسط أنباء عن سعيها لإقامة قاعدة أخرى في البادية. وقالت وزارة الدفاع التركية، في بيان، إن هناك «توافقاً إقليمياً على تأسيس مركز عمليات مشترك في سوريا، وذلك في إطار الجهود الرامية إلى دعم مكافحة الإرهاب وتعزيز الاستقرار في البلاد»، مشيرة إلى نتائج الاجتماع الأول الذي استضافته عمّان في التاسع من آذار الحالي، في إطار تشكيل قوة إقليمية خماسية تضم إلى جانب تركيا وسوريا، العراق والأردن ولبنان.
وتابعت: «في هذا الاجتماع، توصّلت الدول الخمس المشاركة إلى اتفاق على تقديم الدعم لسوريا في مكافحتها للإرهاب، وعلى رأسه تنظيم داعش الإرهابي»، مضيفة أن «إنشاء مركز العمليات المشترك جاء استجابة لطلبات الحكومة السورية الجديدة، وبناءً على تفاهم تمّ التوصل إليه مع الدول المعنية». ولفتت إلى أنه «تمّ التوافق على هذه الخطوة، وتستمر الأعمال المتعلقة بها في الوقت الراهن».
وعلى مستوى التحركات الخارجية حول سوريا أيضاً، التقى المندوب الخاص لوزير خارجية إيران للشؤون السورية، محمد رضا رؤوف شيباني، وزير الدولة في الخارجية القطرية، محمد الخليفي، لبحث الوضع في هذا البلد. وذكرت «وكالة الأنباء الإيرانية» (إرنا) أن شيباني شدّد على أن الحفاظ على وحدة أراضي سوريا وسيادتها الوطنية واستقرارها، والمشاركة الشاملة لجميع فئات المجتمع في تحديد نظام الحكم في البلاد، إلى جانب احترام حقوق جميع المجموعات العرقية والدينية، يجب أن يكون كلُّ ذلك محل اهتمام دول المنطقة كافة.
من جانبه، أشار الخليفي إلى أهمية وحساسية التطورات الجارية في المنطقة، معتبراً أنه من الضروري مواصلة المشاورات وتبادل الأفكار بين البلدين. ودان الجانبان استمرار احتلال أجزاء واسعة من سوريا والهجمات الإسرائيلية المستمرة على البنية التحتية الدفاعية السورية، فضلاً عن تصعيد الإبادة الجماعية في غزة، وشدّدا على ضرورة الرد الحاسم من المجتمع الدولي على هذه الجرائم.
ميدانياً، وفي الساحل السوري الذي ما زالت جراحه مفتوحة، في ظل استمرار عمليات القتل والخطف والانفلات الأمني، وإصرار الفصائل غير السورية والمتشدّدة على البقاء ورفض العودة إلى إدلب، عاش السكان ليلة مرعبة بعد اعتداء إسرائيلي عنيف استهدف الميناء الأبيض، على أطراف المدينة، تبعته أصوات انفجارات عنيفة، ذكرت مصادر أهلية أنها ناجمة عن انفجار مقذوفات ومواد كانت موجودة في مستودعات عسكرية. ومن جهتها، لم تكشف السلطات السورية الانتقالية عن نتائج هذا العدوان، وسط أنباء عن مقتل وإصابة عدد من المسلحين المتشدّدين الذين كانوا يتمركزون في محيط المنطقة.
وفي دمشق، أغلقت السلطات مطاعم ومقاهيَ عديدة في حي باب شرقي (ذي الأغلبية المسيحية) بعضها كان يقدّم مشروبات كحولية، وقامت بختم المحالّ بالشمع الأحمر لمدة شهر، من دون أي توضحيات حول سبب هذه الخطوة، التي أثارت ضجة كبيرة في الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن تنتشر أنباء عن تراجع السلطات عنها. وتزامن ذلك مع إطلاق حملة أمنية في مناطق عديدة في دمشق وريفها، قالت السلطات إنها تهدف إلى «ملاحقة فلول النظام ومسلحين يرتبطون بحزب الله وإيران»، وقامت بنشر صور لعمليات القبض على عدد من الشبان الذين لم تظهر ملامحهم، في منطقة السيدة زينب، بالإضافة إلى عرض أسلحة قيل إنها ضُبطت في حي القدم.