شحّ حُقن «الهيبارين» في غزة: رُعب يُلاحق النساء الحوامل

(من الويب)
(من الويب)

تجلس نسرين عياد (29 عاماً) خلف نافذتها المحطّمة بفعل الغارات الإسرائيلية في مدينة غزة، تراقب بحسرة أطفال الجيران وهم يلعبون بحماس في الطرقات.

في كانون الأول الماضي، كانت نسرين قد تلقّت أخيراً خبر حملها بعد سنوات من المحاولات الفاشلة، وبدت الحياة كأنها تُعيد لها الأمل. لكنها كانت تعاني من تخثّر في الدم، ما جعلها بحاجة إلى حقن «الهيبارين» يومياً للحفاظ على الجنين. تقول نسرين لـ«الأخبار»: «أخبرني الطبيب أن الحمل هذه المرة ممكن، لكنني يجب أن ألتزم بالإبر حتى اليوم الأخير. كنت أتشبث بالأمل كغريق يتشبث بخشبة طافية».

ولكنّ قرار إسرائيل إغلاق معبر كرم أبو سالم مطلع آذار الجاري ووقف إدخال المساعدات والأدوية بشكل مفاجئ إلى غزة، كان بالنسبة إلى نسرين بمثابة حكمٍ بالإعدام.

وقالت ودموعها تسابق كلماتها: «عندما قررت إسرائيل تشديد حصارها على غزة، اختفت إبر الهيبارين تماماً من الصيدليات، كنت أركض من صيدلية لأخرى كالمجنونة. كل مرة أسمع جملة الإبر مقطوعة، كانت روحي تسقط قطعة وراء أخرى».

تستذكر كم بذلت من جهد ومال من أجل هذا الحمل «بعت ذهبي كله، خاتم زواجي وسوار أمي الذي ورثته عنها، ظننت أن المال سيحل المشكلة، لكنّ المال لم تكن له قيمة حين لم يكن هناك دواء أصلاً». رغم ذلك، لم تتوقف نسرين عن الأمل. «كنت أحادث جنيني كل ليلة، أخبره أن يصمد قليلاً، أعده بأنني سأجد الحقنة، بأنني سأبقيه حياً مهما كلّفني الأمر».

ولكن في إحدى الليالي، استيقظت نسرين على ألم شديد ونزيف حادّ «عرفت أنني خسرته. شعرت حينها أن قلبي أُجهض معه». تصف نسرين تلك اللحظة: «صرخت، صرخت كثيراً. ليس من الألم الجسدي، بل لأنني شعرت أن جزءاً مني مات. ابني لم يكن ضحية حالتي الصحية فقط، كان ضحية الحصار أيضاً. الاحتلال قتل جنيني، ليس بالصواريخ، بل بمنع دوائي».

  • (من الويب)
    (من الويب)

تصمت نسرين فجأة، تنظر إلى الأفق البعيد كأنها تبحث عن شيء ضاع منها وسط الدخان والركام، وتهمس: «ربما سأحمل يوماً ما، لكن طفلي الذي فقدته لن يعود. الحرب لم تأخذ منا بيوتنا فقط، بل أخذت منا حتى أحلامنا الصغيرة».

خلال الحرب الدموية الدائرة شهد قطاع غزة ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الإجهاض بين النساء الحوامل. وفقاً لتقارير وزارة الصحة الفلسطينية، ارتفعت نسبة حالات الإجهاض في القطاع بنسبة تصل إلى 300% مقارنة بالفترات السابقة.

منذ مطلع آذار، شدّدت إسرائيل الحصار على غزة بإغلاق معبر كرم أبو سالم، الذي يُعدّ الشريان الرئيسي، وأوقفت إدخال الأدوية والمستلزمات الطبية، بما في ذلك حقن «الهيبارين» الضرورية لحماية النساء الحوامل المصابات بتخثّر الدم من الإجهاض.

هذا النقص الحاد في الأدوية، إلى جانب تدهور النظام الصحي وانهيار الخدمات الطبية، ترك النساء الحوامل في مواجهة الخطر المستمر، وسط ظروف إنسانية تزداد سوءاً مع كل يوم يمر.

قلقٌ دائم من الإخلاءات

على سريرها الحديدي داخل منزلها في مدينة غزة، كانت رُبى مسعود (28 عاماً) تستلقي على أحد جنبيها. كانت بالكاد تتحرك، وكأنها تحاول أن تخفي نفسها عن الموت الذي يطرق الأبواب بلا استئذان. تقول لـ«الأخبار»: «كل حركة أشعر بأنها قد تسرق جنيني، وكل قذيفة أسمعها أشعر بأنها قد تسرقنا معاً».

رُبى حامل في شهرها الخامس، لكنها تعاني من مشكلة تخثّر الدم. «منذ أول يوم أخبرني الطبيب أنني بحاجة إلى حقن الهيبارين يومياً حتى نهاية الحمل، وإلا فإن الجنين قد يموت في أي لحظة. لكن من أين آتي بها؟ الدواء مفقود، وأنا محاصرة بين الخوف والعجز»، تقول بنبرة مخنوقة.

تتابع: «أنا لا أعيش حملي، أنا أعيش خوفي. أنام على ظهري طوال الوقت، بالكاد أتحرك لأذهب إلى الحمام. أخاف أن تنهار صحتي أو يتحرك الجنين بطريقة خاطئة. حتى ضحكتي أخاف أن تخطفه مني».

لم يتوقف رعب رُبى عند حدود مرضها. أوامر الإخلاء الإسرائيلية التي تجري حالياً لبعض الأحياء في المدينة جعلتها أسيرة قلق آخر. «ماذا لو جاء دوري؟ كيف سأهرب وأنا بالكاد أتحرك؟ سأموت هنا (...) سأفقد طفلي في الطريق، أو ربما تحت الركام»، تضيف بصوت مرتعش.

تتابع رُبى وهي تنظر إلى سقف الغرفة كأنها تهمس لنفسها: «كلما سمعت عن قصف قريب، أضع يدي على بطني وأقول له: اصمد. لا تخف، ماما معك. لكنني أنا التي أخاف. أخاف أن يُقتل قبل أن أراه».

رُبى، رغم خوفها، تتمسك بأمل هش: «لن أسامح نفسي إذا فقدت طفلي. هذا الجنين ليس فقط قطعة مني، إنه الشيء الوحيد الذي يجعلني أريد أن أبقى على قيد الحياة وسط هذا الجحيم».

  • (من الويب)
    (من الويب)

«الرعب الصامت»

تصف طبيبة النساء والتوليد سهى المصري الوضع الصحي في غزة بأنه «كارثي» بالنسبة إلى النساء الحوامل، خاصة اللواتي يعانين من مشاكل تخثّر الدم ويحتجن إلى حقن «الهيبارين» يومياً للحفاظ على حملهن.

وتقول المصري لـ«الأخبار»: «مع استمرار الحصار وإغلاق المعابر ومنع إدخال الأدوية، باتت هذه الحقن منعدمة، تاركة النساء يواجهن مصيراً قاسياً، بين خطر الإجهاض وفقدان أجنّتهن أو حمل مثقل بالخوف والجمود التام».

وتوضح أن النساء الحوامل المصابات بتخثّر الدم بحاجة ماسة إلى حقن «الهيبارين» لمنع تكوّن الجلطات التي تؤدي إلى الإجهاض، «لكن بسبب نقص الأدوية الناتج عن الحصار، نجد أن كثيراً منهن يفقدن أجنّتهن في صمت، أو يعشن ما تبقّى من حملهن تحت تهديد دائم بفقدان الطفل في أي لحظة».

وتروي «(أننا) نرى في المستشفى نساءً يأتين إلينا وهنّ ينزفن، بعضهن فقدن حملهن بالفعل، والبعض الآخر نحاول جاهدين إنقاذ ما يمكن إنقاذه. في كثير من الأحيان، يكون التدخل الطبي مستحيلاً بسبب نقص الأدوية والمعدات اللازمة. أتذكر أن إحدى السيدات جاءتني تبكي وتقول: كنت أشعر بحركة جنيني كل يوم، والآن أشعر بأن بطني فارغ، كأن الحياة داخلي توقفت».

وتؤكد المصري أن الأطباء باتوا في وضع صعب للغاية، «نجد أنفسنا نقدّم حلولاً بدائية لا تتناسب مع حجم الأزمة. الهيبارين ليس رفاهية. هو دواء حياتي، خاصة للنساء اللاتي تعرّضن لإجهاض سابق بسبب تخثر الدم. المرأة التي تعاني من هذا المرض تحتاج إلى حقنة يومية طيلة فترة الحمل وحتى بعد الولادة بأسابيع، وإلا فهي معرّضة لخسارة جنينها، وقد تتعرض حياتها نفسها للخطر».

وحول الحلول المتاحة حالياً، تقول المصري «(إننا) مع فقدان هذه الإبر، نطلب من النساء المصابات الراحة التامة وتجنب أي مجهود. لكن هذا ليس حلاً حقيقياً. الحمل في حد ذاته عبء جسدي ونفسي، فما بالك بامرأة تنام على سريرها لأشهر طويلة، خائفة من أن تنهض أو حتى تلتفت فتفقد طفلها؟ بعض النساء يعشن أشهراً من الرعب الصامت، وكل حركة بسيطة تصبح تهديداً لحياة جنينهن».

وتختم المصري بتأكيد أن ترك النساء يواجهن هذا المصير المظلم دون علاج «هو جريمة بحق الإنسانية. نحن لا نخسر فقط أمهات وأجنّة، نحن نخسر مستقبلاً كان من المفترض أن يُولد».

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي